06-04-2025 12:45 PM
بقلم : أ. د. مأمون نديم عكروش
إذا أردنا الفهم العميق لما يجري من تحرّكات وتغيرات وتغييرات عالمية وأقليمية على مستوى دول (States) او حتى شركات ضخمة (Giant Corporations)، فإننا بحاجة ماسة لمعرفة وفهم المحرّكات الإستراتيجية والتكتيكية التي حدثت ولا تزال تحدث في مختلف المجالات في العالم وعلى عدة مستويات.
فمن وجهة نظر إستراتيجية عميقة وفقاً لأدبيات الإدارة الإستراتيجية (Strategic Management)، هذا الفهم العميق يستند لمعرفة دقيقة ومستمرة لعدة مفاهيم إستراتيجية شاملة مثل توفر القدرات التنافسية الوطنية (National Competitiveness) والقدرات والإمكانيات الإستراتيجية النادرة (Unique Strategic Capabilities & Competencies) والقدرة الإستراتيجية على التكيّف (Strategic Adaptation) والمرونة الإستراتيجية (Strategic Flexibility).
إن غياب هذه القدرات والإمكانيات الإستراتيجية وعدم القدرة على فهم دورها العميق وبعيد المدى في الأمن القومي يؤدي الى القصور الذاتي الإستراتيجي (Strategic Inertia) والذي يكون سبباً مباشراً في إضمحلال الموقع الإستراتيجي (Strategic Position Erosion) للدولة. فالخطر الإستراتيجي يكمن في الوصول الى أعلى قمة البرج العاجي (Ivory Tower) ثم بعدها تكون مُعضلىة الغرور (Arrogance Dilemma) ثم مرحلة قصر النظر الإستراتيجي (Strategic Myopia) لأن الدولة تصبح حبيسة (Captive) قصة النجاح التي تحققت لها والتي تتزامن مع التربع على قمة برجها العاجي بحيث تُصاب الدولة بمُعضلة القصور الذاتي الإستراتيجي والتي تحدّ من القدرة على قراءة المتغيرات والعوامل التي تؤثر على موقعها الإستراتيجي مما يؤدي الى خسارة موقعها التنافسي وربما الموقع القيادي لصالح أقرب المنافسين! هذا مع العلم بأن الصحوة الإستراتيجية عادةً تكون متأخرة لان أنموذج العمل (Business Paradigm) الذي أدى الى حدوث قصة النجاح يبدأ يعاني من الجمود (Rigidness) ويفقد القدرة على التكيّف مع المستجدات مما يعزز حالة القصور الذاتي الإستراتيجي وبالتالي الخسارة تكون كبيرة جداً.
وعندها تكون الحاجة مُلحة لأنموذج عمل جديد ثوري (Disruptive Paradigm) والذي يكون بالضرورة من خارج نمط الفكر الإستراتيجي المعتاد من أجل قراءة المشهد بطريقة مختلفة والخروج من قصة النجاح التي تحققت في الماضي للتكيّف مع المتغيرات الجديدة للإستمرار على المدى البعيد وفقاً لتفكير إستراتيجي عميق.
فالقصور الذاتي الاستراتيجي للدول هو حالة من الجمود أو عدم القدرة على التكيف مع التغيرات الديناميكية في البيئة الدولية أو الإقليمية او حتى المحلية والتي عادةً تُفقد الدولة السيطرة على بعض الأحداث وتخسر موقعها الإستراتيجي.
من أهم العوامل التي تؤدي للقصور الذاتي الإستراتيجي، اولاً، عدم القدرة على التغيير في سياسات أو استراتيجيات الدول بسبب قيود تاريخية، ثقافية، أو سياسية. ثانياً، الثقة المفرطة بالنفس، هنا تعتقد الدولة أنها قوية جداً وتستطيع مواجهة التغيرات والتحديات في البيئة الخارجية، مما يؤدي إلى تجاهل التهديدات المحتملة وخسارة الموقع التنافسي لصالح المنافسين. هذه الثقة المٌفرطة تعتبر أحد أهم أسباب العزوف عن التخطيط الاستراتيجي الديناميكي والتطور والتكيّف الإستراتيجي الذاتي. ثالثاً، ضعف الإستقلال المالي والاقتصادي والثروات حيث يجعل عملية التخطيط الاستراتيجي قصيرة المدى ورهينة متغرات خارج سيطرة الدولة. رابعاً، ضعف القيادة الإستراتيجية وعدم وجود إتجاه إستراتيجي واضح المعالم (Strategic Direction). خامساً، ضعف الرؤية الإستراتيجية (Lack of Strategic Vision) مما يعني ضعف القدرة على قراءة رؤية مستقبلية شاملة والاعتماد على مؤشرات قصيرة المدى (Short Termism) واتحاذ قرارات مرحلية لا تقدم حول إستراتيجية على المدى البعيد. سادساً، تآكل الهياكل الحكومية والموسساتية التي تم تصميمها لتنفيذ استراتيجيات طويلة المدى والتي أدت إلى إضعاف قدرة الدولة على الابتكار أو التكيف مع التغيرات والمتغيرات العالمية. سابعاً، التنافس الدولي المحموم بمصالح سياسية معقدة حيث يوجد دول حجزت مقاعدها المتقدمة في سدة المنافسة والتي حدّت من قدرة دول أخرى من تطوير استراتيجيات جديدة وتبنّي خيارات إستراتيجية قادرة على التكيف مع مختلف المستجدات الدولية وخصوصاً التنافسية منها.
إستناداً الى ما سبق، فإن الدول العظمى إستنفذت كافة المزايا والمنافع التي سعت الى تحقيقها من خلال تطبيق إستراتيجيات العولمة (Globalization Strategies) منذ بداية هذا القرن. فهناك دول حققت ما تصبوا اليه من مزايا العولمة وفقاً لإستراتيجاتها التي تم تطويرها بعناية وحصدت مزايا إستراتيجية طويلة المدى ويوجد دول إعتقدت أنها حققت تلك المزايا الإستراتيجية ولكنها فعلياً لم تحقق ذلك نتيجة القصور الذاتي الإستراتيجي التي وجدت نفسها تعاني منه ولم تلاحظ ذلك منذ فترة طويلة! ومع التنافس الشرس بين القوى العظمى فإننا أمام حالة إستراتيجية فريدة من نوعها وهي الأتجاه القوى نحو مفهوم الأمن القومي للدولة القُطرية بما في ذلك الأمن الأقتصادي والسياسي والإجتماعي على حساب الأمن القومي العالمي.
فعلى الرغم من التطور التكنولوجي الهائل فإننا نشهد عودة قوية جداً لنظريات إقتصادية تقليدية/جديدة (Neoclassical Economics Theories) ونظرية الميزة النسيبةTheory of Relative Advantage) ) والتي تعتمد على وجود الموارد الإستراتيجية النادرة والذهب والقدرة على خلق القيمة المضافة للمنتجات وغيرها من الموارد الإستراتيجية النادرة التي تمكن الدولة من تحقيق الأمن الإقتصادي كجزء رئيسي من الأمن القومي الشامل بما في ذلك الأمن السياسي والعسكري والإستخباري والإجتماعي.
ولتعزيز مفهوم الأمن القومي للدولة القٌطرية فقد بدأت بعض الدول العظمى بإستخدام سياسات جمركية جوهرها فرض رسوم وتعرفة جمركية على العديد من المنتجات وبنسب مختلفه على العديد من دول العالم لحماية إقتصادياتها وتحقيق مزايا تتعلق بالأمن القومي وخصوصاً الأقتصادي والتنافسي منها.
قد تجد بقية دول العالم نفسها مُضطرة للتعامل مع هذه السياسات الجديدة ولو مؤقتاً نظراً لضخامة إقتصاديات هذه الدول التي أقرتها عالمياً ومساهمتها الجوهرية في الناتج القومي الاحالي العالمي. وهنا لا بد من الإشارة الى أن هناك بعض الجوانب والنتائج السلبية لهذه النظريات والإستراتيجيات التي يجري تطبيقها حالياً من قبل دول عظمى وسيتم التطرق لها في مقال لاحق إن شاء الله.
إن ما يجري في العالم حالياً يؤشر بوضوح على أن العولمة كممارسة على أرض الواقع ومن منظور سياسي-إقصادي-عسكري قد بدأت بالتراجع فعلياً وعلى أثر ذلك إكتشفت العديد من الدول القصور الذاتي الإستراتيجي ليس على المستوى الاقصادي فقط بل على المستويين العسكري والأمني مما دفعها للبدء بتخصص عشرات المليارات او نسبة مرتفعة نسبياً من الناتج القومي الإجمالي لأغراض إعادة بناء ترسانتها العسكرية والأمنية مدفوعة بمفهوم الأمن القومي على المستوى الوطني وتقليل الإعتماد على الأمن القومي العالمي الذي بدأ يتراجع مع تراجع تطبيق القانون الدولي في العديد من المجالات لصالح منطق القوة وليس قوة المنطق. وعليه، فأن الصحوة من صدمة القصور الذاتي الإستراتيجي ستجبر العديد من الدول على البدء الفوري لبناء إستراتيجيات عصرية وغير تقليدية لتجاوز القصور الذاتي الإستراتيجي من أجل تحقيق الأمن القومي للدولة حتى لو كان ذلك بالتنسيق مع الدول ذات العلاقة على أسس المصالح المشتركة والمنفعة المتبادلة. وعليه، سيكون التكيّف مع هذه المستجدات سيدّ الموقف.
ونظراً لزيادة تعقيد المشهد الدولي فإن لا بد من إنتظار نتائج أولية لكافة الإستراتيجيات والنظريات التي يتم تطبيقها حالياً من قبل الدول العظمى والى أي مدى سيؤدي زلزال سياسات فرض رسوم وتعرفة جمركية وتراجع مفهوم العولمة وشراء الذهب وعودة مفهوم الأمن القومي للدولة القطرية وسيطرة المصالح الفردية للدول التي بدأت تطفوا على السطح بقوة على حساب العولمة ومصالح الدول من منظور دولي شمولي من أجل قراءة هذه النتائج حتى يتم اتخاذ قرارات من أجل البناء عليها حالياً ومستقبلاً أم لا.
أما فيما يتعلق بالوطن الأردني الحبيب، فإننا بحاجة ماسة للإستفادة من كافة الدروس والعبر لما يجري في العالم وعلينا إعادة النظر بفهوم الأمن الإقتصادي على المستوى الوطني بشكل شمولي من خلال التركيز على المزايا النسبية للإقتصاد الوطني (Relative Advantages) التي يتمتع بها إقتصادنا الوطني وتحديد المزايا التنافسية (Industry Analysis & Competitive Advantages) التي تتمتع بها قطاعات محددة والتي تؤدي بالضرورة الى خلق قيمة مضافة (Added Value) لتمكن إقتصادنا الوطني من المنافسة داخل وخارج حدود الوطن. لا بد من البحث عن أسواق خارجية بديله والاستثمار في قطاعات أعمال جاذبة في الوطن مثل القطاع السياحي والقطاعات التي يتمتع بها الاقتصاد الوطني بمزايا تنافسية قادرة على المنافسة في ظل مشهد سياسي وإقتصادي بالغ التعقيد على المستويين الدولي والإقليمي.
حماك الله يا وطني وحمى الله قيادتنا الهاشمية العزيزة والجيش العربي ونشامى أجهزتنا الأمنية الأبطال.
ملاحظة: هذا المقال يعبّر عن وجهة نظر الكاتب الشخصية.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
06-04-2025 12:45 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |