حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الخميس ,17 أبريل, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 5191

د. عيسى الخشاشنة يكتب: عندما تركتُ روحي في غزة

د. عيسى الخشاشنة يكتب: عندما تركتُ روحي في غزة

د. عيسى الخشاشنة يكتب: عندما تركتُ روحي في غزة

08-04-2025 04:15 PM

تعديل حجم الخط:

بقلم : د. عيسى الخشاشنة
هي غزة… حيث لا تنطفئ الكرامة، ولا تخبو جذوة النضال، ولا تنحني الجباه إلا لله.

وحين دخلتها بصفتي مديرًا للمستشفى الميداني الأردني، لم أكن أحمل في قلبي سوى يقينٍ بأنّ هذا المكان، رغم الجراح، هو نقطة التقاء الروح الأردنية بالفؤاد الفلسطيني، وأن بيننا وبين أهل غزة نسبًا من الدم، ووعدًا من التاريخ، وعهدًا من العروبة لا يسقط بالتقادم.

في تلك الأيام، لم أكن أرى نفسي مجرد طبيب، بل جنديًا على تخوم الأمل.

لم يكن مريولي الأبيض إلا درعًا أتلقى به قذائف الحصار، ولا كانت سماعتي سوى وسيلة لاستراق نبض الكرامة من صدور الصامدين.

دخلتُ غزة حاملاً في قلبي مكرمة هاشمية، جاءت من عمّان لتستقر في قلب فلسطين.

لم يكن المستشفى الميداني الأردني مجرد مبادرة طبية، بل كان امتدادًا لنَفَسٍ هاشمي طويل لم ينقطع يومًا عن فلسطين، مكرمةً ملكيةً سارت على درب تاريخٍ من الوفاء.

كأنها كانت تقول لأهل غزة: “لسنا نُعالج جراحكم فحسب، بل نُضمد بها ذاكرة الأمة، ونُعيد بها التوازن لكرامة أُهدرت كثيرًا.”

في اليوم الأول، استقبلنا أكثر من ألف وخمسمئة مريض ،وجوههم كانت تحمل وجع الوطن كلّه، وعيونهم تروي الحكاية دون أن تنطق.

كنا نداويهم… لكننا كنّا أيضًا نُشفى بهم، نغتسل بدموعهم، ونسترد من آلامهم قوتنا.

كل جرح ضمدناه كان ضمادة لوحدة هذه الأمة، وكل طفل أنقذناه كان صفعة في وجه الظلم.

في غزة، لم يكن المستشفى الميداني مجرد مبنى، بل كان وطنًا متنقلًا يحمل علم الأردن، وينبض بقلب فلسطين.

كانت كل عيادة فيه صلاة مشتركة، كل غرفة عمليات هي بيت عزاءٍ وميلادٍ في آن، وكل دواء يُعطى هو قسم جديد بأن هذه الأمة لا تموت.

أنقذنا حياة الطفل، وأنقذنا الطفلة… لكن في الحقيقة، كنا ننقذ شيئًا من كرامتنا كلما انتصرنا على الموت.

حين ضاقت أبواب المستشفيات على أهل غزة، كان المستشفى الأردني يفتح ذراعيه بلا سؤال، بلا شروط، بلا حساب.

حين عزّ الدواء، كنّا نحمله من عمّان على أجنحة المحبة، نوصله إلى معبر بيت حانون، لنعيد الحياة إلى غزة، جرعةً جرعة، ونبضةً نبضة.

وزعنا حليب الأطفال لا كتبرّع، بل كواجب، لأننا نؤمن أن الطفل في غزة هو ابن لكل أم أردنية، وكل صرخة ألم هناك تُسمَع في السلط والكرك والطفيلة وإربد وعجلون.

وزعنا المصاحف لأن هذه الأرض لا يُطهرها سوى القرآن، ولا يداوي جراحها سوى وعد السماء.

وفي اليوم العلمي الطبي الذي نظمناه، جلس أطباء الأردن وفلسطين جنبًا إلى جنب، لا تفرّقهم اللهجات، ولا تُفرّقهم الهويات… اجتمعنا هناك تحت قبة غزة، نُقسم أن نبقى لها كما كانت دومًا لنا.

غزة لم تكن بعيدة عنا، لأن فلسطين تسكننا… لا في الجغرافيا فحسب، بل في العمق الأعمق من هويتنا.

هي القضية التي حملها الهاشميون في نبضهم، ودافعوا عنها بالكلمة والموقف والميدان، ومنحوها من ضوء عمّان ما يكفي لتبقى حيّة وسط هذا العالم البارد.

فلسطين في الوجدان الهاشمي ليست قضية تضامن، بل قضية وجود.

ولهذا، كانت المكرمة الملكية ببناء المستشفى في غزة، امتدادًا طبيعيًا لموقف لا يعرف المساومة.

هي ليست هدية، بل عهد… و وعدٌ بحياةٍ في زمن الموت، ووقفة عزٍّ في زمن الانحناء.

كانت غزة هي القلب، وكانت عمّان الرئة، وكان المستشفى شريانًا يضخ الحياة بينهما.

وكان دوري هناك ليس مجرد مدير، بل شاهدًا على أن وحدة الدم لا تموت، وأن الروح الأردنية إذا لامست تراب فلسطين، اشتعلت نبلًا وفداءً.

تركتُ في غزة جزءًا من روحي، لا ليُعاد إليّ، بل ليبقى هناك، يسقي الأرض التي أحببتها، وينبض في جسد وطن واحد يتنفس من ضفتي نهر، ويقاوم من ضفتي وجع.

من غزة إلى عمّان، لا مسافة، بل قصة… قصة نكتبها بالدواء والمشرط، بالدمع والفزعة، بالطبّ النبيل والموقف النبيل…
وقصة سيكتبها التاريخ ذات يوم، على جدران القدس، بأننا كنّا هناك… لا نُحارب، بل نُداوي… لا نحتل، بل نحتضن .

بقلم: د. عيسى الخشاشنة











طباعة
  • المشاهدات: 5191
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
08-04-2025 04:15 PM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
برأيك، هل واشنطن و "تل أبيب" قادرتان على مواجهة طويلة الأمد مع الحوثيين بعد تهديد الجماعة بمواصلة استهداف "إسرائيل"؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم