حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الإثنين ,14 أبريل, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 6195

سعيد ذياب سليم يكتب: الفن كنافذة للأمل: كيف يساعدنا الخيال على مقاومة التبلّد العاطفي؟

سعيد ذياب سليم يكتب: الفن كنافذة للأمل: كيف يساعدنا الخيال على مقاومة التبلّد العاطفي؟

سعيد ذياب سليم يكتب: الفن كنافذة للأمل: كيف يساعدنا الخيال على مقاومة التبلّد العاطفي؟

13-04-2025 09:40 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : سعيد ذياب سليم
«الروايات والأفلام واللوحات الفنية تقدّم ما هو أكثر من مجرد الهروب من الواقع – إنها تمنحنا الأمل، وهو مقدّمة أساسية وضرورية للتغيير»
— أوليفيا لاينغ
عندما يضيق العالم بنا، نبحث عن نافذة تطل على احتمالات أخرى للحياة، حيث يقدّم الفن إحساسًا بأننا لسنا وحدنا وأن التغيير ممكن بفضل الخيال الحي.

الفن كمساحة للتعاطف والنجاة الداخلية
حين نتابع الأخبار، نغذي قلقنا بالصور والحقائق المخيفة. مثل رؤية طفل غزّي يُقتل وهو ممسك بـ"عيديّته" في مشهد حي على مرأى العالم، تحدق فينا عيون الشهداء بعناد … ترى هل يلعنوننا؟

هذه القصص التي تجاوزت خيال هوليود، تغرقنا بالخوف والغضب. وبينما لا يستطيع الفن تغيير الواقع، إلا أنه يمنحنا لغة للبوح، ومساحة للتنفس، وإحساسًا بأننا لسنا وحدنا في مواجهة.
يمكنك أن تكون وحيدًا في أي مكان، لكن هناك طعمًا خاصًا للوحدة في المدن الكبيرة؛ تظن أنها غير قابلة للوصف، لكن الفن يعيد لنا الصوت ويجسد العزلة في اللوحات والروايات. كما كتبت أوليفيا لاينغ: "حين نجد العزلة في الفن، نشعر أن أحدهم عبَر منها".

في لوحة "صقور الليل" لإدوارد هوبر، تتجسد الوحدة وسط زحام المدينة؛ مقهى ليلي بألوان باردة، وجوه صامتة، وزجاج يفصلهم عن العالم. أثناء جائحة كورونا، استعادت هذه اللوحة معناها، وكأننا جميعًا أصبحنا نعيش "داخل لوحات هوبر"، محاصرين خلف الزجاج، مجرّدين من الدفء الإنساني.

وفي فيلم طعم الكرز لعباس كياروستامي، نتابع رجلًا يبحث عن من يدفنه بعد انتحاره، في رحلة صامتة تشبه خواءه الداخلي. لكن النهاية تكسر كل شيء: يظهر طاقم التصوير، نسمع صوت المخرج، ونشاهد الممثل يشعل سيجارة، كأن الفيلم يخبرنا: "هذه الحكاية ليست وحدها الواقع". إنها مفارقة فلسفية رقيقة تُذكّرنا بأن العزلة أحيانًا مشهد مصطنع، وأحيانًا مأزق حقيقي – والفن يقف بين الحقيقتين كمرآة ومأوى.

أما ديفيد ووجناروفيتش، فحوّل ألمه الشخصي إلى صرخة بصرية مدوّية. في صورة له ضمن مشروع "الصمت = الموت"، نراه ينظر مباشرة إلى الكاميرا، وفمه مخيط، والدم ينزف من الغرز. صُنع هذا العمل في عهد ريغان، حين كان الصمت الرسمي تجاه أزمة الإيدز يقتل بصمت. هذا الجرح الرمزي، انتقل لاحقًا إلى مهاجرين خاطوا شفاههم احتجاجًا، وكأن الرمز الشخصي أصبح لغة مقاومة عابرة للحدود.

هكذا يمنحنا الفن ما هو أكثر من النجاة الفردية: يمنحنا مرآة نرى فيها هشاشتنا، وأملًا بأن هناك من يرى، ويشعر، ويُعبّر عن الألم مثلنا.
وإذا كان الفن يمنحنا مساحة فردية للنجاة، فإن بعض الأعمال الفنية الكبرى تتجاوز ذلك، لتكشف عن بنية الخطر الذي نعيشه.
بين أورويل وهكسلي: الفن كمرآة ومقاومة ناعمة

بدلًا من حسم المقارنة، نعرض كيف أن كلًّا منهما يعكس جانبًا من هشاشتنا الحديثة:

1984 لجورج أورويل: يحذّرنا من القمع العنيف للخيال في عالم يُسيطر عليه نظام شمولي يعاقب كل تفكير مستقل ويقضي على حرية التعبير.

Brave New World “عالم جديد شجاع" لألدوس هكسلي: يحذرنا من قتل الخيال بوسائل التسلية والإشباع المفرط في مجتمع قائم على الاستهلاك المستمر والتعاطي مع الترفيه كوسيلة للتحكم الاجتماعي.


بدون صراخ: الهدف ليس القول "نحن نعيش هذا الآن"، بل التلميح إلى ضرورة مراقبة أنفسنا: هل نضحك على ما يجب أن يُبكينا؟ أو ننسى ما يجب أن يوقظنا ويحفزنا على التغيير؟

مفارقة إنسانية:
ربما لا نُجبر على الصمت كما في 1984، لكننا نغرق في ضجيج التسلية والراحة حتى ننسى لماذا بدأنا بالصراخ في المقام الأول. مثلما في عالم جديد شجاع ، تظل الأسئلة الأساسية معلقة في الهواء بينما نعيش في عالم من اللامبالاة.

تجريد الأزمة:
تُختزل الأزمات السياسية والاجتماعية المعاصرة في الإعلام إلى مفاهيم مجردة، مما يجعل الخطر والمعاناة يبدوان بعيدين عن التجربة الإنسانية المباشرة. في كثير من التغطيات، تصبح غزة مجرد "عنوان عاجل" أو "إحصائية جديدة لعدد الضحايا"، فتُفقد الضحايا أسماءهم، والقصص وجوهها، ويغدو الموت مشهدًا عابرًا لا يُلامس المشاعر. هذا التجريد يشبه ما حذر منه هكسلي في عالم جديد شجاع، حيث يُغرق الناس في عالم من التسلية والراحة، مما يحولهم عن الواقع الفعلي للأزمات. بينما يعيدنا الفن إلى التجربة الحقيقية والإنسانية وراء الأخبار، ليكشف لنا المعاناة كما هي، بعيدًا عن التغطية المجردة وغير الملموسة.
الذكاء الاصطناعي، خوارزميات الترفيه، أو الإنهاك المعلوماتي.

ما زلت أذكر حديث الدكتور المحاضر لمادة "أساليب تدريس الرياضيات" في عام 1982، حين تحول النقاش ذات مرة إلى السينما، وبالتحديد إلى فيلم حرب النجوم. كان يصف انفعاله العميق بمستقبل المادة التي يقدمها الفيلم، بينما كنت أرى في خيالي الروبوتين C-3PO و R2-D2 يسيران كما لو كانا زوجين عجوزين: الأول يتحرك بخطوات متثاقلة كمن يشكو من ألم المفاصل، والثاني يندفع بخفة لا تكف عن الصفير، كزوجته النشيطة كثيرة الكلام! واليوم، في عصر روبوتات الذكاء الاصطناعي، هل نطمح أن نراها في بيوتنا؟ تصنع لنا الشاي كما نحب، وتقدّم لنا شطيرة باللبنة والزعتر، وتصف لنا الدواء إذا مرضنا، بل وتتصل بنا لتذكيرنا بما ينقص المنزل؟ وفي آخر السهرة، حين نذهب للنوم، تظهر في هيئة الممثلة الحسناء التي لاحظت إعجابنا بها أثناء الفيلم، لتقصّ علينا إحدى حكايات ألف ليلة وليلة وتداعبنا حتى نغفو.
هذا الضجيج الإعلامي–المعلوماتي، بما فيه من صور ومقاطع فيديو مثيرة، ألا يقرّبنا فعلًا من أجواء "عالم جديد شجاع" لهكسلي؟

لكن ماذا بعد هذا الوعي؟ هل تكفي المعرفة وحدها؟ هنا يظهر الأمل كفعل داخلي يومي، لا كأمنية.

الأمل كفعل إبداعي
الأمل ليس تفاؤلًا ساذجًا، بل تمرينٌ داخلي يومي على النجاة.
لا يصنع الفن التغيير بيده، ولا يملك سلطة تشريعية أو عصا سحرية. لا يمكنه أن يشفي جرحًا أو يوقِف إعصارًا. لكنه يزرع فينا القدرة على الرؤية وسط الدخان، ويمنحنا لغةً نتحدث بها عمّا لا يُقال، وسجلًا آخر نكتب به ذاكرتنا.
إنه ليس ترياقًا يقاوم سمية الجهل لإعادة التثقيف، بل شعلة صغيرة تساعدنا على الاستمرار في المحاولة — أن نحسّ، ونفهم، ونغيّر أنفسنا أولًا.
في كتابها "أمل في الظلام" (Hope in the Dark)، تصف ريبيكا سولنيت الأمل ليس كـ"تذكرة يانصيب" نتمسك بها ونحن ننتظر الحظ، بل كـ"فأس نكسر به الأبواب في حالات الطوارئ". في رؤيتها، الأمل ليس إنكارًا للعتمة، بل هو اعتراف بها دون الخضوع لها، وهو إيمان بإمكانيات غير مرئية بعد. إنه دعوة للاستمرار في العمل حتى وسط الغموض. أمثلة:
في مدينة رفح، حوّلت الفنانة الفلسطينية أمل أبو السبح (26 عامًا) الركام إلى لوحات مقاومة، مستخدمة الفحم والحجارة لرسم جداريات توثق مأساة غزة خلال حرب 2023. نزحت من مخيم الشاطئ إلى رفح، وبدأت مطلع 2024 تنفيذ أعمالها التي حملت أعداد الشهداء وصرخات الأطفال تحت القصف، مفنّدة ادعاءات "المناطق الآمنة". انتشرت رسوماتها على منصات التواصل والإعلام الدولي، لتصبح صوتًا بصريًا للمعاناة والصمود.
أدونيس، الشاعر السوري اللبناني، عاش منفاه منذ السبعينيات بعد مغادرته بيروت بسبب الحرب الأهلية. في هذا المنفى، الذي تحول إلى فضاء وجودي وفكري، استمر في إعادة تشكيل هويته الشعرية. وكتب في قصيدة المنفى:
“من قومِه،
عندما قالت الظُلماتُ: أنا أرضُه وأنا سِرُّها.
كيف، ماذا يُسمّي بلاداً
لم تعد تنتمي إليه، وليس له غيرُها؟"
تعبّر هذه الأبيات عن الصراع الداخلي للشاعر في ظل اغترابه عن وطنه، الذي فقد ارتباطه به بينما يبقى هو مرتبطاً به.
في فيلم إمبراطورية الشمس (1987) للمخرج ستيفن سبيلبرغ، نتابع بعيني طفل يُدعى "جيم" انهيار عالمه الآمن في شنغهاي إبان اجتياح القوات اليابانية، حيث يُنتزع من عائلته ويُلقى في معسكر اعتقال. الفيلم، المقتبس عن الرواية الذاتية للصحفي والكاتب البريطاني ج. ج. بالارد، يستند إلى تجربة عاشها المؤلف في طفولته، حين كان محتجزًا في معسكر مماثل خلال الحرب العالمية الثانية.
ما يلفت في هذا العمل ليس فقط قسوة الظرف، بل كيف احتفظ الطفل بشيء من الدهشة، كيف استمر في الغناء وسط الركام، وكيف أضاءت الطائرات المقاتلة خياله بدلًا من أن تزرع فيه الرعب. في أحد المشاهد المؤثرة، يشرع جيم في الغناء قرب جنازة طيار ياباني، في لحظة تصالح مؤقتة مع "العدو"، وانتصار للخيال في وجه العدم. هنا يصبح الفن ليس فقط مهربًا، بل شهادة على أن الروح لم تمت بعد، وإن اختنقت.

ومن رحم الخوف والمعاناة، يولد الأدب كوثيقة مقاومة.

كما في رواية The Handmaid's Tale (رواية الجارية، 1985) للكاتبة مارغريت آتوود، التي تصوّر مستقبلًا ديستوبيًا تتحول فيه الولايات المتحدة إلى دولة ثيوقراطية قمعية تُدعى "جلعاد"، إثر أزمات خانقة. تتبع الرواية حياة "أوفريد"، جارية تُجبر على الإنجاب لصالح النخبة الحاكمة في نظام يستغل الدين لتبرير استعباد النساء.

تقسّم السلطة النساء إلى فئات وتراقبهن كأنهن ممتلكات، بينما تحاول البطلات الحفاظ على إنسانيتهن عبر الذاكرة واللغة. العمل لا يقدم عزاءً بل تحذيرًا من خطر استخدام الشعارات الدينية والسياسية للسيطرة. أصبحت الرواية رمزًا ثقافيًا للحركات النسوية، مُعيدةً لنا جوهر الفن: الرفض والتمسك بالصوت الإنساني، حتى عبر الخيال.
يعتبر هيغل، أحد أبرز الفلاسفة الذين ربطوا بين الفن وتطور الوعي الجمعي، أن الفن يعكس روح العصر، لكنه توقع أن يذبل حين لا يعود قادرًا على التعبير عن الحقيقة كما تفعل الفلسفة والدين. ومع ذلك، يرفض الفن المعاصر أن يكون مجرد بقايا ماضٍ. ففي ظل الأوبئة والحروب، يعيد تشكيل نفسه باستمرار ليمنحنا لغة لفهم الجروح. فالفنان، كما في لوحات الناجين من النكبة أو جداريات الثورة، يلتقط ما لا يمكن قوله، ليكشف الفن المعاصر عن استجابة حسّية وفكرية لعالم مأزوم، لا كتسلية، بل كوثيقة مقاومة.

الصورة الفنية في مواجهة الواقع:
يعترض بعض الأصدقاء على استشهادي بصور إنسانية من الأدب أو الفن، مقترحين استبدالها بأمثلة واقعية. لكنني أجد في الأدب والفن مرآةً أعمق وأصدق. فوظيفتي ليست أن أشرّع، بل أن أقرّب الفكرة والمشاعر من عين القارئ. أن أستدعي إنسانًا من ورق ليضيء شيئًا فينا. لو سردت قصصًا حقيقية، لأصبحت عرضة لقانون الجرائم الإلكترونية. أليس أروع أن نتحدث عبر شخصيات من خيال كاتب ما؟ شخصيات تهزّنا، تصفعنا، وتُشعرنا بأننا ما زلنا بشرًا. الفن ليس مجرد تسلية أو عزاء، بل هو وسيلتنا لنشهد على الواقع دون أن نموت من الداخل."

الخاتمة:

نعود إلى اقتباس لاينغ: "ليس الفن ترفًا، ولا خلاصًا نهائيًا، لكنه حارس صغير في ركن القلب، يهمس حين يعلو صراخ الواقع: ما زال هناك متّسع للحب، للأمل، للتغيير."

وربما لا نملك اليوم سوى أن نعيش الفن في حالات الطوارئ، لكن حتى وسط الطوارئ، يمكن للخيال أن يضيء طريقًا، ويعيد لنا صوتنا.

في مدن كبرى مزدحمة، قد تبدو الوحدة صامتة، ثقيلة، بلا كلمات. نحاول وصفها فلا تسعفنا اللغة. لكن حين نجدها مجسّدة في عمل فني، نشعر أن أحدهم سبقنا إليها وعبَر منها، وترك لنا أثرًا لنمشي عليه.

وهنا تكمن قوة الفن: أن يواسي، أن يمنح المعنى، وأن يفتح نافذة صغيرة للنجاة، حتى في أكثر اللحظات خنقًا. وربما، قبل أن يكون الفن عزاءً، هو أيضًا حُلم — محاولة بشرية لصياغة واقع بديل، حيث نستعيد ما فقدناه، ونعيش ما لم نقدر عليه.
سعيد ذياب سليم











طباعة
  • المشاهدات: 6195
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
13-04-2025 09:40 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
برأيك، هل واشنطن و "تل أبيب" قادرتان على مواجهة طويلة الأمد مع الحوثيين بعد تهديد الجماعة بمواصلة استهداف "إسرائيل"؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم