13-04-2025 09:41 AM
بقلم : محمد متعب الفريحات
في زمن التيه والخذلان، حين تحولت الدماء إلى ماء، والمجازر إلى أرقام، والتاريخ إلى وثيقة عار تكتب بمداد العجز، تقف غزة وحدها في قلب الجحيم. مدينة تحترق على مرأى من العالم، ولا أحد يحرك ساكنا. أطفال يقتلعون من أحضان أمهاتهم، وجثث تتناثر بين الركام، وسماء تنزف نارا لا تهدأ، وضمير عالمي في غيبوبة طويلة.
هناك، بين صوت الطائرات وصراخ الضحايا، وقف طفل يحدق في شقيقه الذي كان يضحك قبل لحظات. الآن، لم يتبق منه سوى أشلاء. بكفه الصغير المرتعش، يجمع بقاياه كما لو كان يرتب لعبته القديمة. أي قلب يحتمل هذا؟ أي إنسان يملك ذرة إحساس يمكنه أن يغض الطرف عن هذا المشهد؟
وفيما سقطت كرامة الإنسان وانهارت قيم العدالة، جاء رد الفعل من حيث لا يتوقع. من قلب الارض. الوشق المصري، ذاك المفترس الذي لم يحتمل مشهد العدوان، هاجم جنود الاحتلال المدججين بالسلاح، في لحظة تجلت فيها الفطرة وانكمشت الإنسانية. غريزة الحيوان انحازت للحق، فيما شلت إرادة الملايين من البشر.
مؤلم أن يكون الحيوان المفترس أرحم من بني البشر، وأصدق من كل البيانات والكلام، وأن يدون للتاريخ موقفا، في حين تلوذ الأمم بالصمت.
حتى الحجر في شوارع غزة لم يختر الصمت، بل صار مقاتلا، في وقت تراجع فيه الإنسان واختبأ خلف شعارات فارغة. غزة لا تطلب المستحيل، فقط تهمس أنقذوني. من تحت الركام، من فم طفل لا يعرف بعد ما معنى قصف، من عين أم تحولت مقلتها إلى مقبرة دموع.
غزة ليست مدينة فقط، بل آخر شظايا الكرامة في وجه عالم انعدمت فيه الرحمة. كل مشهد فيها امتحان للضمير، وكل لحظة تسجل خذلانا جديدا. دماؤها ليست عابرة، بل وصمة على جبين الإنسانية.
غزة لا تنتظر المساندة ولا المساعدات، بل تنتظر يقظة نخوة، عودة كرامة، وصوتا حرا لم يدفن بعد. وفي عالم صارت فيه الكلمة المخلصة تهمة، والموقف الشجاع خيانة، تقف غزة وحدها تقاتل عن أمة كانت تعرف ذات زمن ما تعنيه الحرية والرجولة.
غزة يقصف فيها الحليب قبل أن يصل فم الرضيع، تستهدف المدارس والمساجد، وتشوه أجساد الأبرياء. العالم يتابع بصمت، كأنما يتابع فيلما دراميا لا يعنيه. حتى الوشق تحرك، فيما نامت قلوب البشر.
لا عدالة في الأرض، إلا تلك التي تصنعها السماء. في زمن صار فيه المجاهد إرهابيا، والمحتل شريكا، والمقاوم متهما، أصبحت اللغة نفسها عاجزة عن وصف هذا الجحيم. غزة تباد، والعالم يشاهد بصمت مطبق، والقلوب إن بقي فيها نبض، يجب أن ترتجف من هذا الجرح المفتوح.
في زمن سقط فيه سيف الحق، وتبعثر صهيل الخيول، تجلس غزة على الرماد، تتوشح دخان الحرب، وترتشف من كأس الدم جرعة تلو الأخرى. قدرها أن تقاتل وحدها، أن تبقى صامدة حين تنهار جدران التاريخ.
غزة لا تطلب شيئا من أحد، بل تؤدي واجبا عن الجميع. وحدها تواجه، وحدها تحاصر، وحدها تحترق، ووحدها تظل تكتب باسم الكرامة فصلا جديدا في كتاب الصمود. أما نحن، فلا نملك إلا الفرجة، والدعاء، وربما منشورا متأخرا على وسائل التواصل.
أي زمن هذا الذي يتهم فيه المكلوم، ويمدح فيه الجلاد؟ أي زمن هذا الذي تدفن فيه الحقيقة، ويرفع فيه صوت النفاق؟ غزة لا تبكي، غزة تصرخ. ونحن من نبكي عجزنا، ومن انطفأت في قلوبهم جمرة الإيمان.
حتى الوشق لم يتحمل، بينما نحن نعد الضحايا كأنهم درجات حرارة في نشرة الطقس. نسينا أنهم بشر. نسينا أن بين الركام هناك من ما زال يتنفس، وينتظر. نسينا أن هناك أما ما زالت تبحث عن طفلها، وطفلا لم يفهم لماذا رحل الجميع فجأة.
أيها الليل، طل علينا بنجمك الأخير، وامسح عن غزة رماد الفقد. أيتها الأرض، زلزلي عروش الطغيان. أيتها السماء، ابعثي مطر الرحمة.
يا رب، يا من لا يخذل، كن لغزة. بردا وسلاما على رجالها ونسائها، على شيوخها وأطفالها. أنت وحدك نصيرهم. حسبنا الله ونعم الوكيل.
غزة لا تموت. غزة لا تباد. غزة تحترق كي لا يبرد ضمير الإنسانية. وتصرخ كي لا يصمت التاريخ. فإما أن نكتب معها ملحمة العزة، أو ندفن معها في مقبرة العار الأبدي.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
13-04-2025 09:41 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |