15-04-2025 08:35 AM
بقلم : د. منذر الحوارات
في الوقت الذي يحتدم فيه الصراع ويعم الخراب أرجاء الإقليم، وتتسارع مشاريع الاستحواذ على الفراغات الجيوسياسية التي خلفها غياب الدولة في العديد من الدول، في هذه الأثناء، تمضي إسرائيل في تنفيذ عملية تصفية ممنهجة للقضية الفلسطينية، ابتداءً بغزة وانتهاءً بالضفة الغربية، مما يهدد الفلسطينيين أولاً، والأردن والدول المجاورة ثانياً، يتزامن هذا مع سلوك اقتصادي أميركي مقلق، قد يلقي بظلال ثقيلة على الاقتصاد الأردني، ورغم هذا السياق المضطرب، نجد أنفسنا، وبصورة مفاجئة، منغمسين في الإعداد لانقسام داخلي، كأن هناك من يعمد إلى هدم بلد ظل صامداً رغم الأعاصير السياسية والاقتصادية والأمنية التي ضربت المنطقة لعقود.
لقد كان سر صمود الأردن دائماً هو قدرته على إدارة التنوع والاختلاف بوعي عميق، وحكمة راكمتها الدولة على مدى سنوات، فنجح في بناء حالة من التفاهم الوطني جنبته الانزلاق إلى الفوضى، لكن هذا المنسوب من الحكمة يبدو اليوم مهدداً، أو على الأقل لم يعد كافياً لضبط المشهد الداخلي، والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل ما يجري وليد المصادفة والعفوية؟ أم أن هناك جهات، داخلية أو خارجية، تدفع بهذا الاتجاه خدمةً لأجندات خفية؟ أم أنه مجرد تعبير غير ناضج عن صراع سياسي لم يجد سبيلاً للتعبير سوى زرع الانقسام في النسيج الوطني؟
تتكاثر الأسئلة، وتغيب الإجابات، فكل ما نراه نحن، البعيدين عن مطبخ صناعة القرار، لا يتعدى كونه مؤشرات متسارعة نحو التوتر، بدأ الأمر بصراع هوياتي على وسائل التواصل الاجتماعي سببه غياب العلم الأردني عن المسيرات، تأجج بسبب المواقف من المقاومة الفلسطينية في غزة، وتحول إلى جدل بين «الرغبة» و»القدرة»، فالطرف الأول يرى أن الأردن قصّر في دعمه لغزة، وكان بوسعه أن يفعل أكثر، ومع ذلك لم يتجاوز الأمر حدود المناكفات السياسية، حتى جاء السؤال الاستفزازي: «أين الجيش؟»، وهو سؤال استنكاري ينطوي على تلميح بأن الجيش لم يقم بما هو واجب عليه، وجاء الجواب من جنس السؤال وكان ذا طبيعة اتهامية، فتحولت القضية إلى مساجلات متشنجة، بلغت حد إطلاق اتهامات قاسية وغير مقبولة بحق رجال الأمن، عندها بدا واضحاً أن محرمات الاستقرار الأردني تُخرق، وهي العلم والجيش والأمن، وبدأت خطوط الأمان تُنتَهك.
وفي المقابل، برز تيار آخر يرى أن الدولة قدمت أقصى ما تستطيع وهذه حدود قدرتها، وأن ما يُقال تنكر لهذا الدور، وأن أي ضغط على الأردن لاتخاذ مواقف أكثر حدة سيقوده إلى كارثة سياسية واقتصادية، وبالتالي، فإن من يدعو إلى هذا الضغط لا يمكن أن يكون أردنياً حريصاً على وطنه، ومن هنا، انطلقت حملة مضادة، وظفت خطاب الانتماء والمواطنة كوسيلة لتخوين الطرف الآخر، فدخلنا في منحنى خطير من الاستقطاب والانقسام، وهذه وللأسف ليست سوى بداية الحكاية، فكما يقال «أول الرقص حنجلة»، وقد تكون هذه الحنجلة مدفوعة بأدوات خارجية، تريد زعزعة الأردن من الداخل، من خلال زرع الفتنة والانقسام العمودي الذي يُفضي حتماً إلى الفوضى، ولا نعني هنا سوى إسرائيل، التي لم تُخفِ يوماً أطماعها في الأردن، لا كوطن بديل، بل كامتداد جغرافي وسياسي لمشروعها الصهيوني، ولطالما عبّر قادتها، الرسميون وغير الرسميين، عن اعتبارهم العرش، ممثلًا بشخص الملك، العقبة الأهم أمام طموحاتهم، وطالما سعوا لإضعافه بشتى الوسائل، لكنهم فشلوا دوماً.
أما داخلياً، فلا يمكن تجاهل أن بعض القوى السياسية تسعى لاستثمار اللحظة لتحقيق مكاسب آنية، ولو على حساب وحدة المجتمع وتماسكه، وهذا يتنافى مع روح الديمقراطية، التي تقوم على التوافق حول الثوابت، والاختلاف حول التفاصيل، أما حين يصبح الخلاف قائماً على قضايا وجودية تمس وحدة الدولة وبقاءها، فإننا نكون أمام عبث خطير، وإن محاولة بعض الأطراف الاستفادة من الزخم الشعبي الداعم لفلسطين، واحتكار تمثيله لا تخدم لا القضية الفلسطينية ولا الدولة، بل تؤدي إلى تخوين متبادل، وإلى ردات فعل متشنجة توسع دائرة الاشتباه والتأويل، وتدفع الجميع إلى مواقع رمادية لا يمكن التنبؤ بمآلاتها.
ومع كل ذلك، فإن وجود معارضة قوية مصلحة للدولة وقوة لها، ومصد مهم أمام التدخلات الخارجية، والاختلاف بحد ذاته مفيد في هذه المرحلة، لأنه يعطي فرصة للحكومة وصناع القرار للتنصل من الكثير من الضغوط الخارجية التي قد تتعرض لها الحكومة والدولة، وما يحدث طبيعي، ففي بداية أي تحول ديمقراطي تُرتكب الكثير من الأخطاء، ولا يجب أن يكون ذلك مدخلاً للتراجع أو الانسحاب إلى الوراء، فهذا ليس الحل، بل يجب المضي قدماً في العملية وبثبات، لأنها مدخلنا إلى المستقبل.
وفي الوقت نفسه، فإن على القوى السياسية أن تتحلى بالنضج والرشد، وتراجع خطابها السياسي، وتبتعد عن الانفعالية، فليست هي المدخل الحقيقي لتحقيق مصالحها السياسية ومصلحة الدولة بشكل عام، فهي لم تعد مؤسسات مفارقة للدولة بل جزء منها وفي صلبها، كل ذلك يدعونا إلى التروي قليلاً والاستفادة من أخطاء الآخرين، كي لا نقع في المحذور الذي لا تحمد عقباه.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
15-04-2025 08:35 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |