18-04-2025 04:26 PM
بقلم : البروفيسور جبريل الطورة
قبل أيام، أعلنت السلطات الأردنية عن إحباط مخطط تخريبي خطير كان يستهدف زعزعة الأمن والاستقرار داخل المملكة الأردنية الهاشمية. كشفت دائرة المخابرات العامة تفاصيل متقدمة حول مجموعة مكوّنة من ستة عشر شخصًا، اتُّهموا بتصنيع صواريخ قصيرة المدى وتجميع طائرات مسيّرة وتخزين متفجرات شديدة الانفجار، من بينها TNT وC4، ضمن مستودعات محصّنة في عمّان والزرقاء. وبحسب التحقيقات، فإن الخلية عملت على مدار سنوات بصمت، وبتمويل وتدريب داخلي وخارجي، بهدف تنفيذ عمليات من شأنها تهديد السلم الأهلي والأمن القومي.
ردت الدولة الأردنية بحزم، مؤكدة أن أمن الوطن خط أحمر لا يُمكن تجاوزه. وقد أُحيل المتورطون إلى محكمة أمن الدولة، وتم التشديد على أن الجماعة التي تقف خلفهم غير مرخصة ومنحلة قانونيًا، في إشارة واضحة إلى جماعة الإخوان المسلمين التي حُلّت رسميًا بقرار قضائي في عام 2020، بعد فشلها في تصويب أوضاعها القانونية. وقد أثارت المعلومات التي رافقت القضية جدلًا واسعًا، لا سيما أن بعض المتهمين أقروا بانتمائهم للجماعة المحظورة، وأشاروا إلى ارتباط تنظيمي سابق بجبهة العمل الإسلامي، الذراع السياسي المعروف للجماعة.
وفي خضم ذلك، لم تصدر جبهة العمل الإسلامي بيانًا صريحًا ينفي أو يؤكد ارتباطها بالمتهمين، ما دفع بعض الأصوات للمطالبة باتخاذ إجراءات قانونية تجاه الحزب ذاته، رغم أنه لا يزال يعمل بترخيص قانوني حتى الآن. هذا الصمت فسّره البعض بأنه حذر سياسي، بينما رآه آخرون محاولة لفصل الصف الحزبي عن الأفعال الفردية المتورطة.
لكن من غير المنصف تقييم جماعة الإخوان المسلمين في الأردن خارج سياقها التاريخي الطويل في العمل السياسي والدستوري. فقد لعبت الجماعة دورًا بارزًا في دعم استقرار الدولة، وكان أبرز تجليات ذلك مشاركتها الفاعلة في البرلمان الحادي عشر الذي انتُخب عام 1989، في لحظة مفصلية أعادت الحياة النيابية إلى البلاد بعد انقطاع دام لسنوات. حينها، حصلت الجماعة على 22 مقعدًا وشكّلت كتلة قوية ساهمت في سن التشريعات وممارسة الرقابة البرلمانية وفق أحكام الدستور، مما عزز من حضورها السياسي ضمن مؤسسات الدولة، لا خارجها.
وعندما صدر قرار حل البرلمان في عام 1993، قبيل انتهاء مدته الدستورية بثلاثة أشهر، تعاملت الجماعة مع الموقف بحكمة سياسية عالية، ورفضت الانجرار إلى التصعيد أو المواجهة. بل اختارت التهدئة، مؤكدة التزامها بالسياق الدستوري ومواصلة نشاطها السياسي من داخل الأطر القانونية. هذا الموقف حظي بتقدير داخلي وخارجي، واعتُبر حينها دليلًا على وعي سياسي متقدم، وانحياز واضح لصالح استقرار الدولة، لا لمكاسب حزبية آنية.
وقد تكرر هذا النمط من السلوك السياسي المتزن خلال أحداث ما يُعرف بالربيع العربي، حيث التزمت الجماعة، ومعها حزب جبهة العمل الإسلامي، نهجًا سلميًا في التعبير عن مطالبها، وشاركت في الحوارات الوطنية، ورفضت الانزلاق إلى العنف أو التحريض، مؤكدة تمسكها بالعمل المؤسسي والدستوري كطريق وحيد للإصلاح والتغيير. هذا السجل من الالتزام الوطني لا يمكن تجاهله عند تقييم العلاقة بين الدولة والجماعة اليوم، وهو ما يدفع كثيرين إلى التحذير من الوقوع في فخ التعميم، أو تحميل تنظيم بأكمله تبعات أفعال أفراد، ربما تصرّفوا بصورة فردية لا تعبّر عن التوجه المؤسسي أو الإطار الذي اعتادت الجماعة العمل ضمنه.
وفي ظل التحديات الإقليمية المتسارعة، يظل من الضروري التفريق بين التنظيمات التي تعمل ضمن المنظومة السياسية، وتلك التي تختار العمل في الظل أو تتورط في مخططات تضر بالأمن الوطني. إن انتماء بعض الأفراد المتورطين في أحداث تخريبية إلى خلفيات فكرية أو تنظيمية معينة لا يعني إدانة كل من يحمل الفكر ذاته. ومع ذلك، فإن الدولة تبقى محقة تمامًا في اتخاذ كل ما يلزم من إجراءات لضمان الأمن، وملاحقة كل من يثبت تورطه في تهديد السلم والاستقرار، بصرف النظر عن انتمائه أو خلفيته.
والأهم من كل ذلك، أن الدولة لا يمكن أن تتساهل في مسألة احتكار السلاح. فقد أثبتت التجارب الإقليمية، من لبنان إلى ليبيا، ومن اليمن إلى السودان، أن وجود قوتين مسلحتين داخل دولة واحدة هو وصفة مؤكدة للفوضى والانهيار. لا يمكن لأي كيان أو جماعة أن يبرر امتلاك السلاح خارج سلطة الدولة بذريعة الدفاع عن الأمة أو مناصرة قضاياها. السلاح إذا خرج عن يد الدولة، خرج معه القرار، وانهار معه النظام، ودفع الشعب الثمن باهظًا.
جميع التجارب التاريخية تؤكد أن لحظة الانهيار تبدأ حين يتوزع القرار الأمني بين أكثر من جهة. فالسلاح لا يعرف التعايش طويلًا. وحين تصبح القوة موزعة، تفقد المؤسسات هيبتها، ويهتز الاستقرار، ويُفتح الباب واسعًا أمام التدخلات الخارجية والانقسامات الداخلية.
وسط كل هذا، جاءت ردة فعل الشارع والإعلام متباينة. فقد عبّر البعض عن القلق من حجم التهديد الأمني، بينما رأى آخرون أن في الطرح الإعلامي تهويلًا لا يخلو من التوظيف السياسي، خاصة أن الجماعة – تاريخيًا – تبنت مواقف وطنية واضحة، ولم تكن في يوم من الأيام طرفًا مسلحًا أو متمردًا على الدولة. هذا الانقسام في المواقف يعكس الحاجة إلى خطاب وطني متزن، يحافظ على الحريات السياسية، دون أن يتهاون في أمن الوطن أو هيبة مؤسساته.
وفي ضوء ما يمر به الأردن حاليًا من ظروف سياسية واقتصادية دقيقة، فإن السماح بوجود تنظيمات مسلحة – حتى وإن ادّعت النبل في أهدافها – يشكل خطرًا وجوديًا لا يمكن القبول به. فالحالة الداخلية لا تحتمل أي تهديد إضافي، والدولة بحاجة إلى التكاتف الكامل، لا إلى التوازي في القوة، ولا إلى مغامرات خارج الإطار القانوني. إن الأمن لا يتجزأ، والسيادة لا تقبل الشراكة.
وإلى جانب كل ذلك، لا بد من التذكير أن الأردن، قيادةً وشعبًا، وقف دائمًا في صف قضايا الأمة العادلة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية ونصرة أهلنا في غزة بما هو متاح من إمكانيات، وأحيانًا بما يفوق تلك الإمكانيات. وقد دفعت المملكة أثمانًا اقتصادية وسياسية كبيرة نتيجة هذا الموقف المبدئي، من خلال ضغوط خارجية، وحرمان من الدعم العربي والدولي، بل ومحاولات مكشوفة للمساومة على مواقفها المبدئية. لكن الحنكة السياسية التي يتمتع بها ربان السفينة، وقائد المسيرة، جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم، قادت الأردن بحكمة واقتدار إلى بر الأمان وسط أمواج متلاطمة تعصف بالمنطقة بأسرها. فكان الوطن ثابتًا في بوصلته، صلبًا في مواقفه، ومتزنًا في تحركاته، ما جعل الأردن نموذجًا فريدًا في الحفاظ على الاستقرار دون التفريط بالمبادئ.
في المحصلة، تشكّل هذه الأحداث اختبارًا جديدًا للعلاقة بين الدولة والقوى السياسية، وفرصة للتأكيد على أن العمل السياسي لا يكون من خلف المتاريس أو في الخفاء، بل في العلن، وتحت سقف القانون والدستور. فالدولة التي تحمي مواطنيها، لا بد أن تحتكر وحدها أدوات القوة، وتحمي نفسها من أي تكرار لتجارب محيطة أثبتت أن ازدواجية السلاح تعني حتمية الصراع.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
18-04-2025 04:26 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |