حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الأحد ,27 أبريل, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 2458

نافذة على الهشاشة .. قراءة في «لعبة القفز من النافذة»

نافذة على الهشاشة .. قراءة في «لعبة القفز من النافذة»

نافذة على الهشاشة ..  قراءة في «لعبة القفز من النافذة»

27-04-2025 09:09 AM

تعديل حجم الخط:

سرايا - ليست «لعبة القفز من النافذة» عنوانًا لواحدة من قصص المجموعة، لكنها في الحقيقة العنوان الأعمق الذي تتوارى تحته كل القصص، مثل شرفة ضيقة تطلّ على الألم، أو فتحة لا نهائية للهروب، أو مجاز يحاذي الحافة بين الحياة واللا حياة. لم يكن العنوان اختيارًا عبثيًا، بل إحالة ذكية إلى رؤية سردية وفكرية تتلبّس كامل النصوص، حيث تتكرر حركة القفز من الداخل إلى الخارج، من الذات إلى العالم، أو من عالم ضاغط إلى مجهول لا يقل قسوة.

فالقفز هنا ليس موقفًا بطوليًا، هو لعبة عبثية، تُمارس في مساحة محدودة، بحجم نافذة، نافذة لا نعرف علوّها، ولا نعرف إن كانت تطلّ على شوارع، أم على هاويات، أم على فضاءات تتبدّد فيها الذات. هذا القفز المتكرر يلبس لبوسًا وجوديًا، لكنه في الآن ذاته رمز طبقي بامتياز؛ لأن الشخصيات التي تقف عند حافة النافذة، أو تتخيلها، هي دومًا من أولئك الذين تدهسهم عجلات الحياة اليومية. هي شخصيات مسحوقة، مغتربة، مأزومة، تبحث عن خلاص ولو مؤقت، ولو عبر السقوط.

ومثلما تنفتح النافذة على احتمالات غير محسوبة، فإن القصص تنفتح بدورها على أسئلة لا تُغلق: من نحن حين لا نمتلك خيارًا سوى الهرب؟ ما معنى النجاة إن كان السقوط هو الطريق الوحيد إليها؟ وهل يُمكن للغة أن تعوّض الفقد؟
الكاتبة، في هذا العمل، لا تنتمي إلى تيار «الفن للفن»، بل تقف بوعي جماليّ في منطقة الالتزام، لكنها لا تُسقط خطابًا جاهزًا على الشخصيات، فتبني هذا الالتزام من الداخل، من تفاصيل المقهور، من تنفّس المهمّش، من اختناق المرأة المنسية، من عجز الرجل المكسور، ومن صمت الطفل اليتيم. فتجربة الهامش هنا هي قلب التجربة الإبداعية، وقد تمّ تحويلها إلى شكل جماليّ متوتر، لا يخضع لبلاغة الزينة، حيث يصدر عن إيقاع التمزّق والتشظّي والانطفاء.


تكتب هدى الشماشي بلغة ذات نَفَسٍ شعريّ، لا يغرق في الزخرفة، ويصنع مسافة تأمل، ويُحمّل المشهد اليومي أبعادًا رمزية. إنها لغة الهامش المتأمل، لا الصراخ، لغة من يقف في زاوية الغرفة يحدّق في نافذة مفتوحة، دون أن يقرر القفز بعد. وهكذا، تتشكّل القصص في الغالب كأحلام مفزعة، أو هلوسات صاحية، أو تداعيات ذاتية تكاد تكون بلا خطّ زمنيّ أو حبكة تصاعدية. القصص تُبنى من الخواء، من التوتر، من الانقطاع، وكأنها تحاكي الزمن المشروخ لشخصياتها.
لا شيء مكتمل في هذه المجموعة؛ لا النهاية، ولا الشخصيات، ولا حتى الذاكرة. فالقصص تسعى لأن تمثل الإنسان حين يكون هشًا، ممزقًا، يائسًا، مترددًا. وهذا في حد ذاته موقف أدبيّ بالغ الجمال: أن تحوّل الهشاشة إلى فن، وأن تجعل من الفقد أداة للخلق.

مجموعة «لعبة القفز من النافذة» بيان سردي كامل، تُعلن فيه الكاتبة أنها تنتمي إلى أولئك الذين لا يكتبون من أبراجهم العالية، وإنما من نوافذهم المفتوحة على الشارع، وعلى الفقد، وعلى الموت، وعلى الحب المكسور، وعلى الحياة حين تكون مجرد لعبة ثقيلة، لا أحد يربح فيها، لكن لا أحد يملك التوقف عن لعبها.


يتكشّف النص القصصي حين تلامسه المناهج النقدية كما تُضاء الأروقة المظلمة حين تمرّ بها يد تمسك مصباحًا، لا تعيد ترتيبها، وتفضح نسيجها الداخلي وتُحرّر ما فيها من همس. وهكذا، فإن ما يُقرأ في «الموز»، لا يمكن اقتناصه إلا عبر عدسة النفس المأزومة، ذلك أن الساردة لا تُحدّثنا عن حدث، تحدثنا عن ارتجاف داخل العقل، عن مسار ذهني يفرّ من الواقع إلى رغبة مشتهاة لا تنتمي لأي منطق مألوف. يتسرب صوتها من اللاوعي، عبر كلمات متقطعة، شهوات مشوّشة، صور جسدية تختلط بالرغبة في التملّك والنبذ في آن. هنا، يتحول السرد إلى شريط من التداعي الحر، ويُمسي الجسد مركزًا للصراع، والرغبة عبئًا لا لذّة. لا يمكن فك هذا التشابك إلا عبر المنهج النفسي، حيث تظهر النزعة السادية – المازوخية في أقصى تمظهراتها، ويتكشّف أن «الموز» ليس فاكهة، هو رغبة مبتورة، وهم تعويضي عن حرمان عاطفي وجسدي غائر، كما أن الغياب المتعمّد للمنطق الزمني يُحيل القصة إلى مرآة للخلل العقلي لا للتجربة الموضوعية.
وفي قصة دخان إلى المرأة، تأخذ الرمزية نَفَسها الأوسع، إذ تُحاط الشخصية الأنثوية بقدسية سردية تُلامس الأسطورة، تقفز من نافذتها لتنجو، لكن فعل القفز هنا يُقاس بما يُحدثه في ذاكرة الجماعة. المرأة التي صارت «رمزًا» تحيا في وجدان قريتها رغم أنها اندثرت في الهواء. لم تكن تسعى إلى البطولة، كانت تسعى إلى الهرب، لكن الهرب نفسه استحال خلاصًا جمعيًا. قراءة هذه القصة تتماهى مع المنهج الرمزي – التأويلي، حيث يتحول الجسد إلى علامة، والنافذة إلى ممرّ نحو المطلق، والقرية إلى ساحة للمحو والتقديس في آن. فالقصة لا تُسرد كحدث، بل كأثر، والمرأة لا تتكلم، وإنما يُروى عنها. وما يُروى عنها ليس ما جرى، ولكن ما آمن الناس أنه جرى. في هذا الانزياح من الواقع إلى التمثيل، تُصبح القصة معلّقة بين التاريخ والأسطورة، بين الحقيقة والرمز.


ثم تأتي إنه يغني بوصفها الأرض الأخصب للمنهج الوجودي، حيث لا شيء يقينيّ، لا الهوية، ولا الأبوة، ولا الانتماء، ولا حتى الكينونة. طفل يغني، لكن صوته احتجاج صامت، وهو لا يُنشد، يتوارى خلف نغمةٍ لا يلتفت إليها أحد. القصة لا تمنح القارئ يقينًا، ترميه في وادٍ من التردّد والتأرجح، حيث يصبح السؤال «من هذا الطفل؟» مرآة لسؤال أوسع: «من نكون حين لا يعترف بنا أحد؟». من هنا، ينبثق الوجودي: في تفكّك البُنى الصغيرة التي تكوّن الإنسان – الأسرة، والاسم، الذاكرة. ولا يوجد تصعيد درامي، ولا ذروة، لأن القصة كلها بُنيت على غياب الذروة، على استدامة التيه.


أما حكايات الغابات والنهر، فتمارس سردًا متخليًا عن التعالي، لصالح سرد يلتصق بجسد المقهور، الهارب، المهاجر. إنها قصة تتلبّس الحكاية، لتُربك. المجموعة تشتبك هنا مع الواقعي – الطبقي، لكن ليس بالمعنى الوثائقي، وإنما بوصفها تمثيلًا لعالم الهامش المتآكل، لأجساد تركض نحو موت معلّق على أمل مزيف. أصوات متعددة، لكنها جميعها تُعيد إنتاج سؤال واحد: ما الذي يدفع إنسانًا ليرتمي في قاع النهر طوعًا؟ تتداخل الأسماء، تُنسى، تُمحى، وتُبعث في كل جثة جديدة. هنا، تكون القراءة الاجتماعية – الواقعية حاضرة بقوة، لأنها تفسّر الفقر، ولأنها تُظهر كيف يصير الفقر بنيانًا لسردية جماعية، كيف يتحوّل اليأس إلى فعل مشترك، والقارب إلى نعش يضمّ أرواحًا هاربة لا تملك غير الحكاية.


وفي نص لعبة القفز، يظهر التهكّم كحيلة وجودية، حين تُروى الرغبة في القفز بوصفها «لعبة». الجملة تُقال عرضاً، لكن ما تحتها أثقل من الصمت. يتسرب الحسّ ما بعد الحداثي من هذا النص، لأن النص ذاته يرفض البنية، ويرفض المعنى، ويتلاعب بالخطاب ذاته. لا توجد ذروة، لا توجد نهاية، وإنما صوت يُقاطع ذاته، ويخون لغته، ويعيد صياغة الألم بشكل استهلاكي تقريبًا. تأتي اللعبة تفكيكًا للسرد التقليدي، لثنائية البطل والموقف، للجدية والمأساة. كل شيء يُقدّم وهو متفكّك، هش، غريب، وكأن اللغة تمارس بدورها القفز على حدود المعنى ذاته.

هكذا تنكشف المجموعة عبر مشارب متعددة، كل قصة منها تُلائم منهجًا نقديًا بعينه، لأن النصوص فاضت بتعدديتها. فالقصص كائنات تتنفس ضمن غابة سردية واحدة، تُحرّكها رياح السؤال، وتخترقها نوافذ تطلّ على مجهول اسمه الحياة. ثمّة نصوص حين نبلغ منتصف الطريق في قراءتها، نشعر أن كل نهاية تكتبها لها لا تُنهيها، بل تفتحها أكثر.

«لعبة القفز من النافذة» من هذا الطراز: مجموعة لا تنغلق على تأويل واحد، ولا يُستنفد باطنها بقراءة مهما تعدّدت أدواتها.

ومع ذلك، فإن بلوغ الخاتمة هنا هو اقتراح تأمل أخير، أو الوقوف عند عتبة، كما تقف شخصيات الكاتبة عند نوافذها، معلقة بين الداخل والخارج، بين الواقع والتخييل، بين الحلم والسقوط.

فلنقل إذن إن هذه المجموعة تُجسّد تجربة كتابة لا تركن إلى البلاغة، ولعلها إلى الارتباك الإنسانيّ في أقصى تمظهراته. لا تحتفي بالنصر، ولا تبكي الهزيمة، إنها تُقيم على الحافة، وتكتب منها. وفي تلك الحافة بالتحديد، تتقاطع المناهج لتدلّ عليه من زوايا متباينة: النفسي، حين يُنقّب في عُتمة الذات؛ الرمزي، حين يُضيء كهوف المعنى؛ الوجودي، حين يسأل عن جدوى القفز من أصله؛ والاجتماعي، حين يُظهر من الذي يُجبر على القفز أساسًا.

الخاتمة الممكنة هي إدراك أن هذه القصص لا تُقرأ بعيون نقدية فحسب، إنها بحاجة إلى قارئ يُنصت بكيانه، لأن كل قصة ليست إلا وجها من وجوه إنسان يقف أمام نافذة. قد يقفز، وقد يتراجع، وقد يظلّ واقفًا ما بقيت الحياة لعبة.

هدى الشماشي لا تُعرّف نفسها بكلمات، فتترك لقصصها أن تقول ما لا يُقال. ولا تظهر الكاتبة خلف نصوصها بصوت سلطوي، وإنما تنسحب لتمنح شخصياتها مساحات كاملة للتنفس والبوح والانكسار، وكأنها تُمارس الكتابة من عمق المعايشة.

في «لعبة القفز من النافذة»، تبدو الشماشي كاتبة مشغولة بما هو أبعد من الحكاية، بهمٍّ سرديّ يتقاطع فيه الجمالي مع الأخلاقي، واللغة مع الوجع، والانتماء مع الغربة. لا تنحاز للأشكال الجاهزة، ولا تُغويها الزخارف الأسلوبية، فتميل إلى تكثيف العبارة وخلخلة البناء، في توازن دقيق بين التأمل العميق والاقتصاد اللغوي. كل قصة تكتبها تبدو كأنها محاولة لفهم هذا العالم من زاوية منسية، أو من كُوّة لا يُطلّ منها أحد.

لم تأت الكاتبة صوتًا نخبويًا منفصلًا، فهي شاهدة على اليومي، على الناس الذين يسيرون في الهامش، وتكاد الحياة تبتلعهم دون أن يراهم أحد. اختارت هذا الموقع عن وعي، لا عن شفقة، وراهنت على أن الالتزام في الأدب هو أن تكتب بصدق عمّن لا يُكتب عنهم غالبًا.

هدى الشماشي، في هذه المجموعة، تضعنا أمام مرآة، لا نرى فيها وجوهنا، وإنما ظلالنا وهي تحاول القفز بحثًا عن مساحة تنتمي إليها ولو لحظة واحدة.

أ. د. سلطان المعاني











طباعة
  • المشاهدات: 2458
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
27-04-2025 09:09 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم