28-04-2025 09:47 AM
بقلم : د. ليث عبدالله القهيوي
في قلب الجغرافيا المشتعلة، وبين أمواج التغيير التي تعصف بالإقليم، يقف الأردن كجسر بين الاستقرار والطموح، بين إرث التاريخ وإلحاح المستقبل، وفي وسط هذا المشهد، برز جيل أردني جديد، لا يرضى بأن يكون شاهدًا صامتًا على عبور الزمن، بل يصر على أن يكون صانعه الحقيقي، إنه جيل التغيير؛ جيل لا يكتفي بالمطالبة بالإصلاح، بل يسعى لصياغة معناه، وإعادة رسم حدود الممكن.
هذا الجيل ليس امتدادًا تلقائيًا لمن سبقوه، هو نتاج تحولات تكنولوجية، وانفتاح معرفي، وصدمات اقتصادية متلاحقة، جعلته أكثر وعيًا وأقل صبرًا على أنصاف الحلول. لقد نشأ في زمن يرى فيه العالم يتحول أمام عينيه: قيم الحرية والعدالة تُنتزع انتزاعًا، والمشاركة الشعبية تُعاد صياغتها في نماذج أكثر انفتاحًا وديناميكية. في المقابل، يواجه داخل بلاده مشهدًا اقتصاديًا خانقًا، ومناخًا سياسيًا يحتاج إلى جرأة في التغيير تفوق مجرد التصريحات والوعود.
إن تحديات جيل التغيير الأردني لا تقتصر على البطالة أو ضعف الفرص الاقتصادية فحسب، بل تمتد إلى إحساس عميق بوجود فجوة بين الطموحات الوطنية الكبرى والممارسات اليومية الضيقة. يريد هذا الجيل دولة تُحاكي أحلامه لا أن تحدها، دولة تؤمن بالجدارة والكفاءة معيارًا وحيدًا، وتبني منظومتها السياسية على الشفافية لا على التوازنات الظرفية.
وفي الوقت الذي طرحت فيه الدولة مبادرات طموحة لتحديث المنظومة السياسية، ما زال جزء من الشباب يشعر أن هذه الجهود لا تصل إلى عمق الأزمة. فما لم تُكسر حلقات الجمود البيروقراطي، ويُعاد رسم خريطة الثقة بين المواطن والدولة، فإن مسار التغيير سيبقى متعثرًا، مما يفتح المجال لسيناريوهات أخرى.
استشراف المستقبل يحتم علينا أن نقرأ المشهد بأعين مفتوحة وعقول باردة، فهناك ثلاثة مسارات ممكنة أمام الأردن في التعامل مع جيل التغيير:
الأول، أن تتبنى الدولة مشروع إصلاح شامل، جذري، شجاع، يحتضن طاقات الشباب ضمن مشروع وطني متجدد، مما يطلق موجة نهوض جديدة.
الثاني، أن تبقي على إيقاع الإصلاح البطيء، معتمدة على عامل الزمن، مما سيزيد تدريجيًا من حدة الإحباط وانفصال الشباب عن السياق السياسي الرسمي.
أما الثالث، وهو السيناريو الأخطر، فيتمثل بانفجار اجتماعي مفاجئ، تدفع إليه تراكمات الغضب المكبوت والتطلعات المجهضة.
ليس خافيًا أن الرهان على الزمن كحل للأزمات لم يعد خيارًا واقعيًا في زمن السرعة، فجيل اليوم أكثر وعيًا وأقل استعدادًا للصبر على إيقاع الماضي. إن منطق «الإدارة بالأزمة» لم يعد صالحًا لعالم تتغير معادلاته في شهور لا عقود، اليوم، إما أن تلتحق النخب بوعي الجيل الجديد، أو تجد نفسها خارج معادلة الشرعية الشعبية.
إن بناء المستقبل لا يبدأ بإدارة المطالب، بل بإطلاق طاقات الإبداع، وتأسيس بيئة سياسية واقتصادية حاضنة للكفاءات والابتكار. فالاقتصاد السياسي التقليدي الذي يعتمد على المحسوبيات وتوزيع الامتيازات لم يعد قابلًا للاستمرار، وان البديل الحقيقي هو اقتصاد إنتاجي ديناميكي، ترفده منظومة تعليمية تحرر العقول لا تقيدها، ومنظومة سياسية تفتح المجال للشراكة الشعبية لا تقصيها.
جيل التغيير الأردني لا يطلب المستحيل، إنه يطالب بما يراه حقًا طبيعيًا: أن يكون شريكًا لا تابعًا، أن يكون فاعلًا لا متفرجًا، أن يكتب بنفسه فصل الأردن الجديد لا أن يقرأه منقوصًا. أمام هذا الجيل فرصة تاريخية لصياغة نموذج أردني ثالث؛ لا هو نسخة مستنسخة عن الماضي، ولا قفزة فوضوية في المجهول، بل بناء تراكمي واعٍ لمستقبل أكثر توازنًا وعدالة وجرأة.
في لحظة التحولات الكبرى، تكون القيادة الحقيقية هي التي تسمع نبض الجيل الجديد، وتلتقط إشارات المستقبل قبل أن تتحول إلى عواصف، إن الاستثمار في جيل التغيير ليس رفاهية سياسية، بل هو صمام الأمان الحقيقي لمستقبل الأردن، ومصدر قوته الإقليمية وسط عالم لا يعترف إلا بمن يحسن استشراف الغد وصناعته.
وفي نهاية المطاف، فإن الأمم لا تُقاس بحجم ثرواتها الطبيعية، بل بقدرتها على استنهاض طاقات شبابها، وتحويل لحظات التحدي إلى فرص للنهضة، وجيل التغيير في الأردن، بكل ما يحمله من طموحات ورؤى، هو الفرصة الأثمن، وإن الرهان على جيل التغيير لم يعد خيارًا تجميليًا، بل ضرورة وجودية لضمان استمرار الدولة الأردنية في محيط إقليمي يتسم بالاضطراب والتغير السريع، إن إدارة هذه المرحلة بذكاء سياسي وإستراتيجي ستحدد ما إذا كان الأردن قادرًا على تحويل هذا التحدي إلى فرصة نهوض وطني جديدة، أو الانزلاق إلى مسار المراوحة في المكان مع ما يحمله من مخاطر مستقبلية على الاستقرار والديناميكية الوطنية.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
28-04-2025 09:47 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |