بقلم :
الأردن الذي يعتبر نفسه وارثا للنهضة العربية و حاملا للواء ثورتها الكبرى ومبادئها التي تدعوا إلى الوحدة والحرية و الاستقلال والتخلص من الاستعمار والتبعية, والذي مازال يسمي جيشه ب (الجيش العربي ) شعارا مكتوبا على جبين جنوده البواسل , كان منذ نشأته وما يزال يقف مع القضايا القومية وموئلا للأحرار والثوار والمضطهدين من أبناء العروبة والإسلام,على الرغم من كونه يعرف أن إمكاناته المادية( الجغرافية والسكانية والاقتصادية والسياسية والعسكرية ) ضعيفة , ورغم وقوعه تحت الانتداب البريطاني , إلا انه كان يعي ويعرف ويؤمن برسالته القومية وأهمية موقعة (الجيو سياسي ) , , فكان دائم الدعوة منذ البدء إلى الوحدة العربية في مشاريع سياسة مثل( مشروع سوريا الكبرى والهلال الخصيب) , وكان طبعا يلاقي معارضة من الدول الاستعمارية وبعض القوى العربية ........
لقد كان جلاله الملك عبد الله الأول رحمه الله مؤسس المملكة , يدير سياسة واقعية واعية , تعرف قوة الاستعمار وهيمنته وجبروته ...فاعتمد (سياسة خذ وطالب) ...مبدأ معتدلا ...(ينادي به ألان من كانوا من غلاة الرفض والممانعة ...صراحة وكما ورد على لسان الدكتور رياض نعسان الاغا وزير الثقافة السوري ..
في برنامج الاتجاه المعاكس الذي تبثه قناة الجزيرة الفضائية مساء الثلاثاء الموافق31/3/2006) , ولذلك اجتهد رحمه الله و دعا إلى قبول قرار التقسيم)رقم ( 181 الصادر عن الجمعية العام للأمم المتحدة بتاريخ 29/11/1947 كأول قرار دولي يدعو إلى تقسيم فلسطين وإقامة دولتين عربية ويهودية, رفضه العرب واتهمه بعضهم بالخيانة والتفريط , رغم انه كان يعطيهم مساحات من الأرض أضعاف مضاعفة عما يقبلون به ألان , في حين قبلة اليهود وأعلنت إسرائيل نفسها دوله على أساسه ......... الاعتدال والوسطية والواقعية السياسية ,دون تفريط بالثوابت القومية والدينية , نهج سار علية الأردن فيما بعد وكان يضعه دائما على حافة الهاوية ,ولكنه استطاع أن يصمد , رغم كل المؤامرات والضغوط علية , ليكون بعد ذلك المحور والمحرك الرئيسي لمعظم الأحداث و مكنه من تكوين رؤية واضحة للقضايا العربية والدولية مما اكسبه احترام الجميع. ......
هذا النهج العقلاني الواقعي سار علية المغفور له بإذن الله جلالة الملك الحســين بن طـلال رحمه الله , فبعد أن أنهى المعاهدة مع بريطانيا , وعرب الجيش , تطلع إلى الوحدة مع العراق فيما عرف( بالاتحاد العربي الهاشمي ) الذي أعلن رسميا في 14 فبراير 1958 ,الذي لم يقدر له أن يستمر بسبب الانقلاب الانفصالي الدموي في العراق ,ولقد كان جلالته مرنا في مواقفه الفكرية والسياسية وحريصا على هدف تحقيق الوحدة العربية أو التنسيق العربي المشترك وتعزيز علاقات الأردن بالأشقاء العرب ولم يكن ليرفض يوما مد يد التعاون والتنسيق مع أي من , ملوك ورؤساء الدول العربية في سبيل مصلحة الشعوب العربية والتأكيد على أن حل المشاكل والنزاعات والقضايا الخلافية بين الدول العربية , الذي يجب أن يتم من خلال التمسك بالمصلحة العليا والأيمان بالمصير المشترك للامة العربية..... ....
وفي خطـــابه فـــي افتتاح الـدورة العاديــة الأول لمجلس الأمــة الحـادي عشـر, يــــوم الاثنيـــن الموافق 27 تشـريـن الثانـي 1989 قال جلالته (وانسجاما مع الثوابت التي يقوم عليها الأردن، ووفاء للأهداف العليا التي يتمسك بها، وتجسيدا لمبادئ الثورة العربية الكبرى التي يحمل الأردن لواءها، فقد كنا نبادر دائما، إلى بذل كل جهد مخلص في سبيل جمع صفوف أمتنا وتوحيد كلمتها،) , لقد عمل رحمه الله على بذل كل الجهود من اجل إنجاح مؤسسة القمة العربية و تفعيل دورها وتعزيزه باعتبارها الجهة المجمعة للأمة العربية واتخاذ قراراتها بعد التشاور الكامل مع جميع أعضائها, والالتزام بكل قراراتها..لذلك كان حريصا على حضور, معظم مؤتمرات القمم العربية بل ومؤتمرات الامم المتحدة ودول عدم الانحياز والمؤتمر الإسلامي ........
وفي إطار (الوفاق والاتفاق) فقد سميت قمة عمان التي عقدت 8 تشرين ثاني عام 1987 بهذا الاسم , والتي أعادت مصر إلى الجامعة العربية , بعد القطيعة التي حصلت معها بسبب قرارات قمة بغداد 1979 على أثر توقيعها اتفاقية كامب ديفيد , ثم بالوصول بهم إلي قمة الدار البيضاء 1989 -التي شارك فيها الرئيس مبارك لأول مرة- وبعودة مقر الجامعة العربية إلي القاهرة، وفي قمة عمان أيضا , جدد القادة العرب تمسكهم بدعم التعاون العربي وأكدوا الالتزام بمعاهدة الدفاع العربي المشترك وعبروا عن استيائهم بسبب استمرار الحرب الإيرانيه العراقيه وتهديدها لدول الخليج وأعلنوا تضامنهم مع العراق ودعمهم له , كما أيد الزعماء العرب عقد المؤتمر الدولي للسلام في الشرق الأوسط بمشاركة جميع الأطراف بما فيهم منظمة التحرير الفلسطينية والدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن ، وأكد المؤتمر في بيانه الختامي على التمسك باسترجاع كافة الأراضي العربية المحتلة والقدس الشريف كأساس للسلام ، وضرورة بناء القوة الذاتية للعرب ،- تأكيد وحدة لبنان وعروبته........
وفي أجواء الوفاق والاتفاق والمصالحة أيضا ,شارك الأردن في مجلس التعاون العربي بموجب اتفاقية وقعها قادة كل من العراق ومصر والأردن واليمن، وأعلن عنها في 16 فبراير/ شباط 1989. وأبقت الاتفاقية العضوية فيه مفتوحة لمن يرغب من الدول العربية ..., ،وفي نفس الإطار أيضا ,سعى الأردن للتوسط في الحرب الأهلية اليمنية, وتوقيع وثيقة العهد والاتفاق بين اليمن الشمالي والجنوبي في عمان في 20/2/1994 ......
. لقد وقف الأردن على الحافة , بعد غزو العراق للكويت , وبذل جهوداً جبارة خلال أزمة الخليج بين عامي 1990 - 1991 لضمان انسحاب عراقي سلمي واستعادة الكويت لسيادتها مفضلا( الحل العربي ), و لم يرسل قواته إلى حفر الباطن للمشاركة في حرب عاصفة الصحراء , رغم كل الضغوط الأمريكية والعربية , ودفع الأردن في سبيل ذلك ثمنا كبيرا جراء مواقفه السياسية , واصدر الأردن الكتاب الأبيض الذي يشرح الموقف الحقيقي والعقلاني للقيادة الأردنية من أزمة الخليج تلك.........
وفي إطار القضية الفلسطينية إذا كانت تعتبر القضية المحورية في السياسة العربية , فهي الشغل الشاغل للأردن والأردنيين , وتعتبر قضيتهم الأولى والمصيرية , حيث يربطهم مع اخوتهم الفلسطينيين وحدة الدم والهم والمصير المشرك عبر التاريخ , ويعتبرون شعبا واحدا , و خاصة عندما كانت الضفة الغربية جزء من المملكة لمدة عشرين عاما , و شارك الأردن في كل الحروب العربية ضد إسرائيل , وعندما رغب الفلسطينيون أن تكون منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا لهم , اعترف الأردن لهم بذلك عن طيب خاطر تأييدا وانسجاما مع قرار العرب الذي اتخذوه في قمة الرباط عام 1974, ولم يتخلى عن مساندتهم أبدا في المحافل الدولية , بالمطالبة بحقوقهم المشروعة ,ومساعدتهم في دعم صمودهم وما يزال , بل انه لم يحاول أن يعقد أي صلح مع إسرائيل رغم كل الضغوط التي مورست علية في كامب ديفيد وما بعده , إلا بعد أن سلك الفلسطينيين مسلك الحل السلمي بعد مؤتمر مدريد ...واتفاقيات أوسلو التي مهدت لهم الحكم الذاتي .......
الأردن وبسبب موقعة (الجيو سياسي ) وضعف إمكاناته المادية( الجغرافية والسكانية والاقتصادية والسياسية والعسكرية ) يتطلب أن يكون في الاعتدال والوسطية والحياد الإيجابي في القضايا العربية والإسلامية , مصلحة أردنية عليا , فهو لا يمكنه الاستغناء عن علاقات إيجابية مع كل الدول الأجنبية والعربية وخاصة المحيطة به (سورية و السعودية والعراق) بالإضافة إلى مصر , بحكم الجوار و الحدود المشتركة والتجارة والاقتصاد والعمالة والسياحة والمياه والآمن, فهذه الدول تعتبر العمق الاستراتيجي الحقيقي للأردن .......
والأردن لم يتعود على الحرد السياسي , وكان يتخذ قراراته بحرية مطلقة ولا يستجيب للضغوط مهما كانت, لكي ينحاز إلى جهة دون أخرى , مراعيا بذلك مصالحه الوطنية والقومية , وقوة الأردن الحقيقية تكمن في ضعفه وتشكل له الدور المحوري الأساسي الفاعل الذي يمكنه من القيام به , في المنطقة والجوار , و يصبح على مسافة واحدة من كل القوى و الدول في المنطقة ,بسبب اعتداله و وسطيته وحياده الإيجابي , ويستطيع أن يؤثر على إسرائيل بموجب اتفاقية السلام الموقعة معها , ويستطيع أن يبقى بلدا للوفاق والاتفاق , ويجري المصالحات كما كان يفعل سابقا , بين الدول وبين القوى المتصارعة في فلسطين والعراق ولبنان وحتى بين إيران مع أمريكيا ......
وقى الله العلي القدير الأردن الحبيب من كل مكروه وأدام عليه عزه و أمنه وسيادته واستقلاله بقياده راعي المسيرة جلاله الملك عبد الله الثاني بن الحسين المعظم حفظه الله ورعاه .....