حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الخميس ,28 نوفمبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 12815

أيها الغريب

أيها الغريب

أيها الغريب

15-04-2008 04:00 PM

تعديل حجم الخط:

بقلم :

 

 

يناديني الأعرج السكير ، أيها الغريب !، أسمعه ، الا أنني لا أرد ، أيها الغريب!، وأستمر بالمسير ، وحيدا في زقاق الحي ...

 

على زاوية الزقاق ، لمحت حانة الحي مفتوحة ، فاتجهت اليها ، جلست الى المنضدة ، فجاءني الشاب ، ماذا تريد ؟ نظرت اليه بحدة وثبات ، كنت أفكر ، بماذا أفكر ؟ لست أدري ، انما كنت أفكر بعمق ،فأعاد سؤاله ، ماذا تريد ، قلت له ، لا شيئ ، ونهضت مسرعا نحو الزقاق...

 

من بضع سنين مضت ، كنت أجلس وحيدا في آخر الليل وحيث الجميع نيام ، أجلس في قريتنا على حافة جبل يطل على وادي عربة ، في الليل يكون الأفق أوسع ما يكون ، وفي ليل الجنوب ، يكون الظلام ، أعمق ما يكون....

 

كنت أتخيل لو أني أقفز في بحر الظلام ذاك الذي   تحتي لربما وصلت الاسكندرية .....

وأصل الأسكندرية ،

وكنت أراني غريبا على شاطئها ، ملابسي وذقني وشعري الطويل وحقيبتي ، كلها تبدو غريبة وسط المسافرين ، وأرى أني أرفض عروض المراكب للرحيل ، وأذهب حذو الشاطئ البعيد سائر بتركيز عميق ...

 مرة ، رأتني امرأة تبيع الذرة وقد اقتربت اليها ، قالت لي ماذا تريد ؟ ، الا أنني نظرت اليها بحدة وثبات ، وكنت أفكر ،بماذا عادة أطيل التفكير ؟، لست أدري ، انما كنت كما انا دائما ،دائم التفكير ، فأعادت سؤالها ، ماذا تريد؟ ، فقلت لا شيئ وعدت مسرعا عائدا نحو الزقاق ..

 

شعور عميق بالاغتراب ،

 

كانت السفينة قد أقلت ركابها وغادرت الميناء تاركة ولدا صغيرا وحده على الساحل ، أراد أن يدخل المدينة ،فسار باتجاه السلم الذي يصعد الى الكورنيش ، هناك ، كان الأعرج السكير يسير باتجاهه ، ليخبره أنه غريب ، ولا يجوز للغرباء دخول المدينة....

 

كبر الصبي على الشاطئ ، كبر ولا زالت السفن ترفض أن تقله...

كبر ولا زالت المدن ، ترفض أن تستقبله....

كبر ، ولا زال صدى الصوت يتردد في مسامعه عن بعيد ،ألا أيها الغريب ، ألا فابتعد....

 

 وكان يكبر حتى بات للميناء منارة ، صار الكل يعرفه ، البحارة والسواح وأبناء المدينة ، ان الميناء حيث يوجد الغريب...ان البحر حيث يوجد الغريب...

 

كان يسمع صوت اطلاقات النار في أيام الفرح ، يسمع أصوات الليل والموسيقى ، يسمع أيضا أنات البكاة ، ويسمع صوت العمل والحركة والحياة ، كل ذلك من بعيد ، وكلما كان يهم بدخول المدينة ، فأنه لا يفتأ يجد ذات الأعرج السكير يناديه   :    يا أيها الغريب..ألا فابتعد....

 

Depersonalization

 

حالة اضطراب الأنا وفقا للعلوم الطبية النفسية ،وفيها  يبدو الشخص في حالة غربة عن الواقع الذي يحيط به بسبب تبدل ادراكه لهذا الواقع ، وحيث يخرج الانسان من نفسه وجسده فيبدو كمن يراقب هذا الجسد وحركته دون ارتباط واع به ، أو استشعار الذات عبر هذا الجسد وهذه الشخصية...

 

يبدو هذا الاضطراب ناتج عن عوامل عده أهمها اضطراب الادراك بسبب تغير المفاهيم الناتج عن وطأة ضغوط معيشية معينة وتكرار أحداث مؤلمة في حياة هذا الشخص...

 

انه باختصار حالة هروب من الواقع السيئ كونه لا يتماشى مع الذات وتكوينها الواع العميق وتعريفها لنفسها وللبيئة المحيطة – فكريا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا ونفسيا....

 

في خضم زمن يمتاز بالتقاعس واللامبالاة والتهرب من المسؤولية ، وفي زمن الاعتراف بالمستحيل والانبهار بالغرب والشعور بالدونية تجاهه ، وفي زمن الرضا بالفقر والديكتاتوريات والهزيمة ، وفي زمن أنت فيه لكنه ليس لك ، فأن الطبيعي أن يشعر المضطهد العاقل بالغربة الثقافية والفكرية والحياتيه...

 

أمة عربية تعيش على الساحل ، يرفض البحر أن يقلها ، وترفضها المدينة...

أمة عربية ، يعاني مثقفها ونخبتها من اضطراب الأنا ومن الغربة العميقة....

 

أتطلع أحيانا لهذا الزمن العربي وأدرك جيدا أن مشكلتنا في الأساس مشكلة اضطراب بين الذات العميقة وبين الواقع ، هي حالة عدم تواءم بين ما كان وما يجب أنه قد كان ، انفصال بين ما هو كائن وبين ما يجب أن يكون....

 

كل ذلك الاضطراب هو كائن على كافة الصعد ، ثقافية كانت ، أو اقتصادية أو سياسية أو حياتية....

 

دول تحكم بعقلية التفرد والخلود ، حيث لا تبادل للأدوار ، وحيث فرعون هو ذات الفرعون  وحيث الرعية هي ذاتها  المشغولة ببناء المقابر ...لكن هذه ليست لفرعون هذه المرة ، انما لهذه الرعايا المستسلمة الراضية...

 

أضطراب ، يتقزم الرجل فيه لمجرد ذكر ، وتتقزم المرأة فيه لمجرد انثى ، وحيث يصبح الاستاذ الجامعي ،تاجر عقارات ، وحيث الطبيب بائع خدمة ،و العلم مجرد شهادة على الحائط ،بينما المختبرات موطنا لأعشاش الطيور والمصانع مجرد آلات للتعبئة والتغليف...

 

في اغتراب الأمة عن عصرها ، يظهر جليا مربي الأغنام الذي يمارس مهنته كما مارسها أسلافه قبل مئات السنين ، وحيث المزارع البائس الذي يرفض العلم ولا يسعى اليه ، بينما يمارس فلاحته كما كان الانسان الأول دونما تغيير....

 

في اغترابها ، يبدو أبناؤها ذوي رضا كامل بلعب دور المتفرج المبهور بينما الآخرون يلعبون....

 

 

أنه زمن غريب ، على الأقل من وجهة نظري ، فحين كنا صغارا تعلمنا أبجديات عدة ، في الدين والسياسة والوطنية والحياة ، ثم أننا تلقينا كامل الوصايا العشر ، وتشكلنا ذهنيا ضمن خطاب التربية الصادر عن المدرسة والأسرة والاعلام الرسمي وأحاديث الناس الطيبين، وحين كبرنا ، وجدنا ان العالم مختلف جدا ، أن النوتة مختلفة كليا عن السلم الذي حفظناه...

 

وبذا ، يتعمق الاغتراب كل يوم ويكبر....

 

 

تغير الزمان كثيرا...

 

وها نحن نحث الخطى في هذه البلاد ، خطا نحو التحقق والنجاح ، خطا نحو الحياة ، لكنما تبدو خطانا غريبة ، في بلاد هي في الأصل بلادنا ...الا أنها يوما بعد آخر ، تصبح بلادا غريبة...

 

ما العمل اذا....؟؟؟؟؟؟؟؟

 

أيتها الأمة...

 

( قومي من تحت الردم ، كزهرة لوز في نيسان ،قومي من حزنك ، ان الثورة تولد من رحم الأحزان).....

 

أيها العربي الغريب....

 

أقتل ذلك الأعرج السكير...أقتله ، فلقد كفتك الأيام غربة.....

 

 

 








طباعة
  • المشاهدات: 12815
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
15-04-2008 04:00 PM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
برأيك.. هل اقتربت "إسرائيل" ولبنان من التوصل لاتفاق إنهاء الحرب؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم