18-04-2008 04:00 PM
الانظمة العربية بمجملها هي انظمة معلقة في الهواء، لا تمتلك أي شرعية تمثيلية كانت، وهي في مكانها بحكم الارث الكولونيالي، وتستمر في مكانها بالدرجة التي تستطيع خدمة المشروع الامبريالي وتقديم التسهيلات له. والانظمة العربية ليست "ايقونات مقدسة" لدى الولايات المتحدة، كما انها ليست جزء عضويا ضروريا بالدرجة التي يمثلها الكيان الصهيوني على سبيل المثال، وبالتالي فهي قابلة للاستغناء عنها في اي وقت تتوقف فيه عن كونها مفيدة بشكل او بآخر للولايات المتحدة، أو تبدأ بالتحول الى عبء سياسي او "دعائي" عليها.
الحديث الامريكي عن الديمقراطية حديث كاذب، الغرض منه اخضاع الانظمة العربية (التسلطية بطبيعتها) الى مزيد من الابتزاز لمزيد من الخنوع والتنازلات، ولا يرعب الانظمة التسلطية الفاقدة للشرعية الشعبية شيء أكثر من حديث "الديمقراطية"، وبالتالي فهي من أهم الادوات لابتزازها. اضافة الى ان "الديمقراطية" تبقي الخيارات الامريكية مفتوحة امام قوى اخرى تتطلع لاستلام السلطة، وبالتالي فتح قنوات للتفاهم معها واستكشاف مدى مقدرتها على التوافق والمصالح الامريكية. من ناحية ثالثة يلعب ادعاء "الديمقراطية" دورا هاما في الدعاية الامريكية داخل الولايات المتحدة نفسها وعند قسم من جمهور الدول العالمثالثية، وبالتالي يشكل ذريعة اساسية للتدخل والهيمنة.
لهذا تقع الانظمة العربية فريسة للابتزاز والرعب: الابتزاز خارجيا من قبل قوى دولية قادرة على قلبها في اي وقت؛ والرعب داخليا من أي اشكال سياسية تحمل شرعية شعبية ما (مثل الحركات الاسلامية)، خصوصا ان كانت هذه الاشكال يمكن ان تشكل بديلا مقبولا للامريكيين، ومن الممكن التفاهم معها.
في العراق، يشكل الحزب الاسلامي العراقي احد اركان العملية السياسية العميلة للاحتلال، في حين يصطف الاخوان المسلمون السوريون الى جانب المنشق عبد الحليم خدام المقرب من الدوائر الفرنسية والامريكية والجاهز للتوظيف في أي مشروع مفترض للتدخل في سوريا، وبينما يعلن الاسلاميون في الاردن ثوابت سياسية راديكالية نجتمع معهم عليها فيما يتعلق بفلسطين والعراق، فانهم يواجهون بشراسة اي خطاب يشخص عمالة الحزب الاسلامي العراقي، ولا يجدون غضاضة في الاجتماع مع المساعد الثاني لوزير الخارجية الامريكي عام 2001 اثر احداث 11 سبتمبر، وحتى الآن يجتمعون مع دوائر محسوبة على اليمين الامريكي مثل ممثلي معهد كارنيجي للسلام، ويشاركون في فعاليات لمنظمات معروفة محليا بتلقيها التمويل الاجنبي المشبوه والامريكي منه على وجه الخصوص، اما حركة حماس في فلسطين فقد ارتضت لنفسها الدخول في "انتخابات تشريعية" والصعود الى "مجلس تشريعي" وتشكيل "حكومة" ضمن اطر العملية السياسية الخاضعة للاحتلال الصهيوني والمؤسسة في اتفاقات اوسلو، وبدأت الآن تتحدث عن "دولة فلسطينية في حدود 67"، اي انها بدأت التعاطي مع الواقع كقوة سياسية سلطوية تريد المحافظة على مكتسبات هزيلة (سبقتها فتح الى هذا الطريق منذ مدة طويلة)، بدلا من الاعتراف ان "الدولة الفلسطينية" هي ليست دولة على الاطلاق، والحفاظ على نفسها في خندق المقاومة.
الاسلام السياسي ليس مستهدفا بحد ذاته من قبل الادارة الامريكية، المستهدف هو المقاومة تحت اي مسمى، ففي امريكا الجنوبية وجنوب شرق آسيا تأخذ المقاومة شكلا يساريا (القوات المسلجة الثورية الكولومبية، الحزب الشيوعي الفيليبيني، الحزب الشيوعي النيبالي) فتحاربها الولايات المتحدة، وفي المنطقة العربية تأخذ المقاومة شكلا اسلاميا، فتحاربها الولايات المتحدة ايضا. القاسم المشترك هو المقاومة لا الاسلام. في الواقع لا مانع لدى الولايات المتحدة من التعاطي مع اسلام معتدل (النموذج التركي وتناسخاته، ولا ضير من ملاحظة ان الاسلام السياسي التركي يحافظ على علاقة التحالف الاستراتيجي الكلاسيكية مع "اسرائيل")، بل وربما تفضل الولايات المتحدة تسليم المنطقة للاسلاميين المعتدلين لعدة اسباب، اهمها انهم يشكلون قوة ذات امتداد شعبي واجتماعي، وهم قادرون على التحدث مع الناس وبلغتهم، ولديهم مؤسسات اجتماعية/اقتصادية/سياسية، على العكس تماما من الانظمة العربية الحاكمة التي ليس لديها اي شيء من هذا، ولهذا تضطرالى المنع والقمع للحفاظ على سلطتها وبالتالي الحفاظ على المصالح الامريكية، وهذا يولد اوضاعا قابلة للانفجار او توليد ظواهر خارج نطاق السيطرة في اية لحظة، او تشكيل احراجات سياسية للولايات المتحدة، لذا فالاسلاميون قد يكونون بديلا اكثر ذكاء واطول امدا.
هذا يمكن ان يفسر لنا مقدار رعب السلطة السياسية في الاردن ومصر من الحركة الاسلامية، رغم ان هذه الاخيرة لم تتحول الى الراديكالية، وما زالت تطرح نفسها كحركة معتدلة وسطية، وما زالت تمارس انشطتها ضمن التفاهمات التقليدية. الجديد ان الانظمة بدأت ترى ان بدائل انجع قد تكون في طور التشكل، وبالتالي فهي -وقائيا- تحاول تفتيتها داخليا، فيما تخوض معركة علاقات عامة خارجية لاقناع الامريكيين ان هؤلاء الاسلاميين ليسوا معتدلين على الاطلاق (اعتقال ومحاكمة النواب الاسلاميين الذين زاروا بيت عزاء الزرقاوي في الاردن، التأكيد المستمر على روابط الاسلاميين مع حماس، خوض معارك على قواعد اجتماعية مع قيادات الحركة الاسلامية مثل الحملة على امين عام حزب جبهة العمل الاسلامي في الاردن بدعوى تهجمه على العشائر...الخ).
الاشكالية المزدوجة ان الحركة الاسلامية المتعطشة للسلطة لا ترى انه لا افق في المعادلات السياسية سوى بالخضوع للاملاءات الامريكية والاسرائيلية لأن السلطة التي تتعطش لاستلامها ذات بنية تابعة، ولعل مثال "السلطة الفلسطينية" ساطع في وضوحه، فضمن اشكال سلطوية تابعة، ليس هناك اسهل من خنق وابتزاز من يكون على كرسي الحكم.
على الجهة الاخرى، تدفع الاجراءات التي تمارسها الانظمة لتفتيت الحركات الاسلامية المعتدلة، لنزول اجزاء من هذه الحركات تحت الارض، وتوليد مجموعات وظواهر عنفية تدمر المجتمع، بل ان الانظمة ربما تتعمد هذه المسألة لأنه عندها تثبت نظريتها (الموجهة للخارج) بأن الحركات الاسلامية المعتدلة هي عنفية في جذرها ولا يمكن التفاهم معها، في حين يصبح المجتمع بحاجة للسلطة لأنه يفترض انها قادرة على الحفاظ على أمنه. وأعتقد هنا ان العنف السياسي هي ظاهرة تنتجها السلطة للحفاظ على نفسها في موقع السلطة، لانها فاقدة لاي شرعية شعبية حقيقية، وتحتاج دائما لمبررات داخلية وخارجية لاستمرارها في مكانها.
على الاسلاميين الذين يصنفون انفسهم في خانة الوضوح السياسي، ان يعوا استحالة التوفيق بين برنامج "تحرري" وسلطة ذات بنية تابعة، وأن يحسموا خياراتهم بعيدا عن برنامج براغماتي يسمح للقوى الدولية والاقليمية بتوظيفهم واحتوائهم، هذا من جانب، من جانب آخر، عليهم ان ينفتحوا مدنيا على قوى أخرى لا دينية (قومية وماركسية) لحمل برنامج تحرري مدني علماني، والتعلم من تجارب لبنان والعراق حيث يشكل المدخل الديني والطائفي اساس لعبة التفتيت والهيمنة، ووضع الناس في مواجهة انفسهم بدلا من مواجهة عدوهم.
طبعا هذا لا يعني عدم وجود انتهازيين ضمن القوى السياسية العلمانية (القوميون واليسار)، فمن يسار "التمويل الاجنبي" الى اليسار "الليبرالي" الى قوميين تحولوا شوفينيين ذوي نزعات عنصرية ضد الشعوب الايرانية والكردية والتركية، نجد ان الانتهازية وعدم وضوح الرؤية السياسية لها مكان بارز هنا ايضا. لكن تركيزي على الاسلاميين هو لكونهم القوة السياسية الوحيدة الحقيقية في المشهد العربي اليوم، فالقوى السياسية العلمانية ضعيفة وهامشية ولا تستطيع تحريك الشارع او المقارعة على السلطة.
ايضا، لا يعني الكلام اعلاه ان الاسلاميين هم كتلة واحدة صماء، فهناك تيارين او اتجاهين داخل الحركة الاسلامية، اتجاه انتهازي وآخر جذري، وعلى الجذريين منهم التزام الحذر لانهم سيكونون اول ضحايا "اخوانهم" الانتهازيين.
بشكل عام، وكأطروحة اساسية، هناك ضرورة حقيقية لوحدة اليسار – جميع تيارات اليسار، أو بالاحرى يسار جميع التيارات: يسار الاسلاميين، ويسار القوميين، ويسار الماركسيين، على قاعدة المقاومة والتحرر والوضوح السياسي، فاليمين الانتهازي في كل هذه التيارات موحد موضوعيا منذ زمن طويل، وهو يشكل جزء من الادوات السياسية للسلطة.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
18-04-2008 04:00 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |