22-04-2008 04:00 PM
كان آخر مقالاتي البارحة يعلمني دروسا عديدة ربما احتاج لسنين طويلة كي أدركها ، وبعد أن تم سحب المقال من العزيزة سرايا ، وبناءا على طلب الصديق المثقف محمد الخالدي ، فأني سأتطاول بلا وجه حق ، راجيا العذر المسبق ، بأن اكتب شيئا عن فقه القراءة ، راجيا أن يؤخذ ما سيأتي على سبيل محاولة من تلميذكم جميعا ، لفتح باب من النقاش الجاد ، بما يطور أدواتنا النفسية والفكرية في التعاطي مع ما نقرأ أو مع ما نكتب...
سأسوق المثال التالي على سبيل محاكاة الفكرة ،فقبل شهر ، كانت سرايا تنشر لي قصيدة ميلاد جديد ، وسنأخذ مثالا على ما جرى من تعليق وتناول ، ففي فقرة تقول ( وحين تحب أن تحب ، سأمنحك امرأة لا تأتيك بالمأذون ، ولا تهتم لكل القيم البدوية ) ، الآن ، أنا كقارئ ، ربما أنظر لهذه الفقرة ، فأسلخها عن سياقها ، وأحاول تركيبها على مداركي ، هكذا ببساطة وتسرع ، دون بذل اي محاولة جادة للفهم ، ومتناسيا انني أقرأ من أجل توسيع مداركي ، والمدارك ، في تراكمها ، ستؤدي للوعي ، أنا ، كانسان ، بالتأكيد تكون الوعي لدي عبر العديد من التجارب ، الآن اذا نظرت لما أقرأ كتجربة جديدة ، فأنني بالتأكيد ، يجب أن لا أخضعها لمنطقي الا بعد أن أتناولها فهما وتحليلا كشيئ قائم بذاته ، بعد ذلك ، لي الخيار بأن أقبلها ضمن منظومة الوعي لدي أو أن ألقي بها بعيدا في سلة المهملات...
فمثلا كنت في الفقرة الشعرية المذكورة أناقش أمران ، أولهما ، أن العلاقات المبنية على المصلحة ، الآن حين يسأل احدنا أي فتاة لماذا تأخرت في الزواج ؟ ستقول لك كذا او كذا ، من أكثر الأجوبة التي سمعتها ، أن من جاء لخطبتي لم يكن يراني لذاتي وانما لكذا وكذا ، هكذا تجاوب الفتاة ، اذا أليس من حقي كشاب أعزب ، أن اطلب حب امرأة تفكر في كانسان ، جوهرا وقيما وثقافة بعيدا عن أنها تبحث في أول ما تبحث عن زوج ، وتبقى هذه تجربة ذاتية ، الا أن الكتابة ، تأخذها من الذاتي الى الموضوعي بفعل أن تجارب الكاتب أو الشاعر هي ليست ملكا له وأنما لكلماته ، الآن ، ربما لو أني قرأت هكذا جملة ، دون أن أمر بتسلل منطقي للفهم ، والتحليل ـ والأهم بدون اتساع في المدارك ودون تدريب سلوكي وذهني على تقبل الفكر الآخر ، فأنني سأقول مباشرة ، انظروا لهذا اللعين منصور يريد أن يلغي الزواج ، ثم سآخذها بعيدا ولأقول يعارض الدين ، كافر وخارج عن الملة الى نهاية طريق طويل من التعصب لذاتي وفكري ورفض بالمطلق للآخر...
نفس الشيئ بالنسبة للبداوة ، أنا شخصيا أعرف البداوة كمرحلة ضمن مراحل تطور المجتمعات ، فالانسان الاول كان بدائيا جدا ثم جاء العصر الحجري فالبرونزي وصولا لمرحلة الزراعة ، ورعي الاغنام وما يرافق ذلك من ثقافة ، ثم تطورت المجتمعات وصولا لحياة القرى ، فكبرت القرى وصارت مدنا ، وتكونت المدينة وثقافتها ، الآن ، مثلما أنه من غير المنطقي أن يرضى الراعي بثقافة البدائي وأن يتخلى عن اغنامة عائدا للصيد ، ايضا من غير المنطقي ، أن أرتضي أنا العيش ضمن ثقافة الرعي في ظل تطور المجتمعات وصولا للمدنية ، ما أؤمن به ، أن المدنية لا تعني الا التحضر ، والتحضر في القرن هذا يجب أن يمارسه الجميع ، راعي الاغنام في الصفاوي ، أو مزارع التفاح في الشوبك ، وصولا الى أقصى درجة من التمدن ربما تتخيلوها .
الآن حين أقول أرفض القيم البدوية ، فان هذه الجملة تخرج من تعريفي لمفهوم البداوة ، اذا ، أنا أرفض البداوة ، بمعناها الثقافي لا الاجتماعي ، بقيمها الغابرة ( السلب وقطع الطرق والقتل والثأر وثقافة المنسف وعدم استعمال الادوات المدنية ..الخ). ، ولنسأل الآن ، أليس من حق أي انسان أن يرفض ، اصلا وجد الانسان ليرفض ، لولا الرفض لما كان الانبياء والفلاسفة والمصلحين ، أصلا لولا رفض النمط الثقافي السائد ، اذا لا زالت البشرية تحيا في العصر البدائي ،أليس كذلك ؟
أنا يا أصدقائي أعتذر مرة أخرى لتطاولي في هذا الطرح الذي لا احبة ، فأنا أتعلم منكم جميعا ولست بالموضع الذي يخولني بتعليم أي أحد...الا أنني أعجب كل العجب من المتحجر ذهنيا ومن كل من هو رافض لما يخالف ما اعتاده من ثقافه ، وأود أن أؤكد أن لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة ، هكذا يعلمنا العلم والطبيعة وحتى الأديان ، فالله يطلب أن نتفكر في خلق السماوات والأرض ويطلب منا أن نقرأ ، لماذا كل هذا ، لأن ما يقوم في الذهن الآن من حقائق ، فهي بالتأكيد ليست الحقيقة النهائية ، وربما نطور ايمان اكثر في ما نملك من حقيقة أو ربما نتخلى عن ما ندرك، فما يدور باذهاننا من قناعات هي ليست أصنام ، ان كانت أصنام ، فهذا كفر حقيقي ، وارجاع للانسان من مرحلة العقل لمرحلة الغريزة ... وهذا بلغة الدين ، هو الكفر بعينه...
الآن سنعود للمقالة السابقة ، التي علمتني أن مستوى الرعب الأمني لدينا يبدو كالوباء المنتشر ، البارحة حدثني العديد من الأصدقاء مستنكرين ما قمت به ، ليس لأني جانبت الصواب ، وانما لأني ، من وجهة نظرهم ، المليئة بالحب والخوف علي ، أني أعرض نفسي لمأزق أمني ، وستلاحقني الجهات الأمنية وسأدفع ثمنا غاليا لما قلت ، رغم أني لا أؤمن بكل تلك المخاوف لأسباب عديدة..
أولهما ، أني مواطن ، اذا أنا لست عبدا في اقطاعية ، ولدي الدستور الذي يمنحني ويكفل لي الحق والحرية في التعبير ، بفضل هذا الدستور ، أشعر بأني فرد محترم ضمن جماعة تحترمني ، أقدم ما علي وأنتظر ما لي ، أما ما تطرق له أصدقائي ، فأنه بالتأكيد يخرجني من دائرة المواطنة ، ويجعل مني مملوكا ، ان كان الوضع كذلك ، فلماذا أبقى اذا في البلد ، أنا هنا أتحمل ضغط الحياة والعديد من الضغوط الاجتماعية وأعاني من شح المياه ومن الصحراء ، ولا أجد نهرا أمضي على ضفافه مساءاتي ، ولا أستمتع بحياتي ، فكل يوم أخبار عن شهداء ودماء ودمار،فاذا ، اذا لم يكن لدي ايمان بمواطنتي وشعورا بها ،وقناعات مليئة بالحب والولاء للوطن ، فاذا لماذا أبقى ؟
لو لم أكن أشعر بأني مواطن مسؤول ، علي واجب تجاه وطني ، الذي أنا مواطن فيه ، واجب نحو اسرتي ومجتمعي ونحو الدولة التي أنتمي اليها ، لو أني لا أستشعر ذلك ، اذا لهاجرت ، لا شيئ أسهل من الهجرة ، وارض الله واسعة ، أليس كذلك ؟
صدقوني ، كان بعض زملائي يهاتفوني من أمريكا ، وقد رحلوا اليها بعد تخرجنا ، يحدثوني عن رفاه الحياة وسهولتها وعن نجاحهم المهني والمعيشي ، الا أنني وصدقا أقول لكم ، لم يكن ذلك الكلام يحرك في الا مزيدا من الرغبة في البقاء في الأردن ، وكنت أراني وأنا أعالج المرضى في الجفر ، أكثر نجاحا من أي من زملائي الذين هاجروا وتركوا الوطن ، أشعر بأعماقي أن السيدة المتقدمة بالسن حين أخاطبها بيمه واحسن علاجها ومعاملتها ، كنت أراها لحظة نجاح عظمى مقارنة بمعالجة أي سيدة في نيويورك حتى ولو كانت لورا بوش....
اذا ، انا في الوطن لأني مواطن ، في اللحظة التي أشعر بها بفقدان مواطنتي نحو العبودية فيجب على أن أدرك لحظتها أني بلا وطن ويجب علي أن أتمحور على ذاتي ، وأن أبحث عن الأفضل لي كشخص بعيدا عن أي مشاعر أخرى لا يقدمها لي بلدي ، بالطبع يا أصدقائي ، أنا أتحدث عنا جميعا ، عن الجميع بالتأكيد.
شيئ آخر ، أنا ابن الجيش العربي ، ولا زلت ضابط احتياط فيه ، وعن قرب عايشت العديد من الزملاء في الأجهزة الأمنية وأفهم بعمق واجباتهم وحدود صلاحياتهم ، أما الرعب الأمني في المجتمع ، فصدقوني هو كالغولة ، صدقنا اسطورتها وآمنا بها ، ولتميم البرغوثي جملة رائعة ( لا يوجد السلطان الا في خيالك ) وصدقا لا يوجد الرعب الأمني الا في خيالنا ، فجهاز المخابرات هو جهاز وطني لنا جميعا ، سلطة وشعب ، وهو مثله مثل دائرة الأحوال المدنية ، أنا أراه كذلك ، ويجب أن يكون كذلك وأظنه ومؤمنا بما أقول ، أنه كذلك .
أخيرا، كان الملك من يومين ، يطلب من الشباب ممارسة العمل السياسي ، وهي سابقة فريدة ، فلأول مرة يطلب رئيس عربي من شعبه هكذا مطلب ، أي أن القيادة ، ترى ما لا يراه الذي لا يرى الا الرعب الأمني ، فجلالة الملك ، يؤمن بأن الوطن للجميع ، وعلى الجميع الشعور بالمسؤولية تجاهه ، والعمل السياسي ، هو أرقى هذه المسؤوليات ، اذ أنه سيساعد على افراز الصواب واختيار الانسان المناسب للعمل العام ، بينما نحن كشعب ، اذا بقينا نتعذر بالرعب الأمني ، فأن هذا عذرا غير مقبول ، ببساطة ، لأن الابتعاد عن مناقشة شوؤن الوطن ، على كافة الأصعدة ، وتبيان مكامن الخلل بالحكمة والموعظة الحسنة ، هو تهربا من المسؤولية ليس الا ، تجاه الوطن وتجاه أنفسنا.
ربما يا أصدقائي أن لديكم المزيد بما يختص في هذا الموضوع ، فكوننا قادرون على القراءة والفهم ، ومنفتحون على الآخر ، فهذا ببساطة يعني ثقة بالنفس ، وايمانا بأن القادم أفضل ، وأننا وبما أننا تطورنا لهذا الحد في المئة سنة الماضية ، فأننا لا زلنا قادرين على التطور أكثر والنمو أكثر باتجاه الكمال والحضارة.
أرجو أن تعذروا تطاولي بادعائي القدرة على التفسير ، وأنتظر منكم ما يغني وعيي وثقافتي ، ودمتم
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
22-04-2008 04:00 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |