بقلم :
تؤكدُ التجاربُ الناجحة ُالمعاصرةُ أنّ العلاقة َبين التنميةِ والديموقراطية، تمثلُ مسارًا ذا اتجاهين: الديموقراطية ُتوفرُ آلياتٍ ومؤسساتٍ من شأنِها أن تـُمكّنَ من تحقيق ِتنميةٍ حقيقيةٍ ذاتِ وجهٍ إنساني، وتقدّم ُالمسيرةِ التنمويةِ من شأنِه أن يخلقَ الظروفَ الموضوعية َوالمَناخ َالملائمَ لترسيخ ِالممارساتِ الديموقراطيةِ في المجتمع. من هنا فإن ايمانَ ورؤية َجلالةِ الملكِ لمستقبل ِالاردن ِواضحة ٌوطـَموحة ُوعِمادُها الإصلاح ُوالتحديث ُبأشكالهِ كافة ًالسياسيُ والاقتصاديُ والاجتماعي. الرؤية ُالملكية ُعبّرتْ عنها تأكيداتُ جلالةِ الملكِ في جميع ِالمناسباتِ أهمية َالعمل ِعلى ترسيخ ِالوعي بالثقافةِ الديمقراطيةِ وتطويرِ الحياةِ الحزبيةِ؛ لتمكين ِالمواطن ِالأردني ِمن المشاركةِ الحقيقيةِ في صنع ِالقرار ، بمعنى أنّ وضْعَ حاجاتِ المواطنين الأساسيةِ في مقدمةِ أولوياتِ التنميةِ وتوسيع ِالمشاركة ِالشعبيةِ في عمليةِ صنع ِالقرار، وإخضاع ِالسياساتِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والثقافيةِ لمزيدٍ من الدرس ِوالتمحيص ِ خلالَ الحوارِ العام ِالمفتوح، الذي من شأنِه أن يؤديَ إلى إدارةٍ عقلانيةٍ للمواردِ الاقتصاديةِ والبشرية. ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّ ضمانَ سهولةِ الحصول ِعلى المعلوماتِ، وتوفرُ الشفافية َفًي الصفقاتِ الاقتصادية، وإفساح ِالمجالِ لتسليط ِالضوء ِعلى جوانب ِالقصور ِوعدم اِلكفاءةِ في الأجهزة ِالحكوميةِ والمؤسسات ِذاتِ الطابع ِالاقتصادي، والكشفِ عن التجاوزاتِ والممارساتِ المنحرفة، تساعدُ على تحسين ِأداءِ الأجهزةِ والمؤسساتِ الحكوميةِ، وتمكّن ٍمن محاربةِ الفساد. من هنا تأتي الرؤية ُالملكية ُعلى أهميةِ الديموقراطية، بإفساحِ المجال ِأمامَ المواطنين للمشاركةِ في صنع ِالقرارِ تـُمكّنهمُ من وضع ِ ِالحاجاتِ الإنسانيةِ في مقدمة ِأولوياتِ عمليةِ التنمية، ولا حاجة َإلى القول ِأنّ تلبية َهذه الحاجاتِ من شأنِها أن تعملَ على تطويرِ ِقدراتِ المواطن ِوتوسيع ِالخيارات أمامَه على نحوٍ يساعدُه على تحقيق ِذاتِه، وإطلاق ِ طاقاتِ الخَلـْق ِوالإبداع ِالكامنةِ فيه. وتستندُ الرؤية ُالملكية ُ على أنّ الاستقرارَ السياسيَ والاجتماعيَ هو أمرٌ لا غنى عنه للتنمية، إذ بدونِه يتعذرُ تحقيقُ تنميةٍ حقيقيةٍ ومستدامة.. في حين ِأنّ غيابَ الديموقراطيةِ من شأنِه أن يَحولَ دونَ تسويةِ الاختلافاتِ الفكريةِ عن طريق ِالحوارِ البنّاء، وكبتِ التوتراتِ الاجتماعية، ونقل ِ الصراعاتِ من الإطارِ العلني ِإلى العمل ِالسري ِ الذي ينطوي على احتمالاتِ العنفِ والتطرف، ويُعطل ُدورَ القوى المُحركةِ في عمليةِ التنمية. وكما أنّ الاستقرارَ السياسيَ والاجتماعيَ يُساعدُ على تسريع ِ عمليةِ التنميةِ ودفعِها في المسارِ الصحيح، كذلك فإنّ تقدمَ مسيرةِ التنميةِ من شأنِه أن يؤديَ إلى توطيدِ الاستقرارِ السياسي ِوالاجتماعي ِوترسيخ ِ التجربةِ الديموقراطية. فلا يجوزُ للمسؤول ِأن يتصرفَ اتباعاً للهوى، أو استجابة ًلرغباتِ القريب ِوالصديق ِوالزوجة ِوالناخب ِوالداعم، وهو مسؤولٌ عن كل ِتعيين ِيصادِقُ عليه، وعن كل ِمبلغ ٍيأذنُ بصـرفِه، بل هو مَدينٌ بكل ِما يَـصرفُ في غيرِ وجهِ حق ٍبيـِّن ٍ،ولا داعي للنفقاتِ التي تـُرهقُ كاهل َالدولة. إلا أن جلالتـَه يؤمنُ أن العملَ العامَ لا مجالَ فيه للمصالح ِالشخصيةِ أو الحزبيةِ أو العشائريةِ الضيقة، وأن مصلحة َالوطن ِ والمواطن ِيجبُ أن تكونَ فوقَ كل ِالاختلافاتِ والاعتبارات. إنّ الرؤية َالملكيةَ لمعالجةِ تلك المشاكل ِتحتاجُ إلى فهم ٍعميق ٍلها وإرادةٍ قويةٍ وأشخاص ٍقادرين على مجابهتِها، حتى لا نكررَ ونكرسَ بعضا منها، كما كان يحصلُ في الماضي. وهذه المسؤولية ُهي التي تنتظرُ النوابَ والمعنيين في الحكومة. التي ستكونُ مستنِدة ًعلى الشرعيةِ ولديها المواردُ الكافية ُكما نبّه جلالة ُالملكِ في خطابِ العرش ِالسامي بقوله : " وقد لاحظتُ في السنواتِ السابقةِ أن الحكومة َلم تـُنفذ ْكلَ المشروعاتِ والخططِ المطلوبةِ منها بالرغم ِمن وجودِ التمويل ِاللازم ِلهذه المشروعات" ، سبب ذلك برأينا ما كانت تعانيه الحكوماتُ السابقة ُمن سُوءِ إدارةٍ في مركزِ القرار ِنتيجة ًلغيابِ الديمقراطيةِ التي تقودُ المجتمعاتِ نحوَ اختيارٍ أكثرَ خبرةٍ وكفاءةٍ في إدارةِ شؤون ِالبلادِ ومحاسبتِهم حساباً عسيرا خلالَ الشفافيةِ وكشفَ الأخطاءِ وتصحيحِها، وهو ما يقودُ نحوَ المزيدِ من التقدم ِوالرخاءِ من أجل ِرفعةِ الوطن ِوعزة ِ أبنائِه بما ينسجمُ و الرؤى الملكية َ. وهذا لا يتحققُ إلا بعدَ تحديثِ الافكار ِوالتحول ِالى رؤىً جديدةٍ تفتح ُآفاقاً أخرى لعوالمَ خارج َالاطرِ المتبعة، وهذا يُمكنُ من رؤيةِ الاخرينَ عَبْرَ عيون ٍجديدة، فالتحديثُ الفكريُ يمكن أن يقودَنا الى فهم ِ افكارِ الاخرينَ خلالَ ايجادِ التقاربِ النفسي ِاولا، وازالةِ الحواجزِ ومحاولةِ دراسةِ آرائِهم بموضوعية، واستبعادِ روح اِلتحيزِ التي تـَحكمُ ذواتـَنا بتعصبٍ مفرِط.. التحديثُ لايتمُ إلا عبرَ اصلاح ِالعقول ِالتي جُمدتْ من انغلاقِها على نفسها، ورفضتْ الانفتاحَ على الاخرين، كما أنّ التحديثَ لايتمُ إلا عَبْرَ اصلاح ِالانفس ِالتي تمزّقتْ بالحقدِ والتعصب ِالاعمى والتطرفِ الجارفِ السلبي ِالذي يعتمدُ على الالغاءِ والتهميش ِللطرفِ الاخرِ ورأيِه وحقوقِه ووجودِه. فقد أثبتت تجربتـُنا أن الإنجازاتِ التي تحققت ، والتحدياتِ التي تجاوزناها بإرادةِ شعبنا، قد تمتْ خلالَ إفساح ِالمجالِ للحرياتِ العامةِ في الرأي ِوالتعبيرِ والمشاركة ِالسياسية. والآن ونحن مقبلونَ على تحدياتٍ أكثرَ تعقيدا تفرضُها المرحلة ُاالمقبلة، فلا بدَ أن نعمقَ من مسيرتِنا الديمقراطيةِ وفقَ رؤيً ملكيةٍ واضحةٍ للإصلاح ِالسياسي . و تستندُ هذه الرؤي الملكية ُإلى ركيزةٍ هامة ٍتتمثلُ في توسيع ِ قاعدةِ المشاركةِ الشعبية، سواءً في الحياةِ السياسيةِ أوالاجتماعية. ويبدأ ذلك بتطويرِ مؤسساتِنا السياسيةِ وعلى رأسِها الأحزابُ السياسية، والتي يجبُ أن تكونَ منبراً حقيقيا للتعبيرِ عن تطلعاتِ وآمال ِالشعب، تطرحُ الحلولَ لمشاكلِه وفقَ برامج َحزبيةٍ قادرةٍ على التعامل ِالجاد ِمع تحدياتِ الواقع، وتعملُ لصيانةِ مصالحِه في إطارِ حياةٍ نيابيةٍ نشطةٍ قائمةٍ على التعدديةِ السياسية . ومن الجديرِ بالذكر ِأن تحقيقَ الرؤى الملكيةِ تتعامل مع العالم ِ الخارجي ِمن منطلق ِتضافرِ الجهودِ والعمل ِالمؤسسي، الهادف ِلتوحيدِ مصالحِنا وتوجهاتِنا إزاءَ التعامل ِمع التجمعاتِ الأخرى على اختلافِ مواقعِها وتوجهاتِها . فالرؤى تـُطورُ من النظرةِ الدوليةِ لديانتِنا الإسلاميةِ السمحاء، وتؤكدُ أن التطرفَ والتشددَ هوالاستثناء، وأنّ الأصلَ هوالاعتدالُ والسماحة ُ والعلاقاتُ القائمة ُعلى النِديةِ والتكافؤ . واخيراً، فان الدخولَ الى عصرِ الحداثةِ أصبحَ خياراً لا رجعة َعنه، ومن يتخلفُ عن هذا الخيار، يفوتـُه القطارُ ويصبحُ مهمشاً وربما يخرجُ من التاريخ؛ لان التغييرَ والاصلاحَ والتحديثَ ستدخلُ المجتمعاتِ ليس من أبوابـِها الخلفيةِ كما كان يحدثُ في السابق، وانما من أوسع ِأبوابـِها، وتصبحُ ممارسة َ تغييرِ انماط ِالحياةِ وطرائق ِالتفكيرِ والعمل ِوالسلوكِ بما ينسجمُ وروح َالعصرِ وتكون بالتالي القدرة َعلى مواجهةِ التحدياتِ التي تفرضُها العولمة ُوثورة ُالمعلوماتِ الالكترونيةِ والسيطرة ُعلى الوجودِ وتحويلُ الامكاناتِ المتاحةِ الى قوةٍ ديناميكيةٍ مبدعةٍ نستطيعُ التحكمَ بآلياتِها المتعددة. فالحداثة ُ ليست وهماً، وانما هي مشاركة ٌوتفاعلٌ وانتاجٌ واعادة ُانتاج ٍ وابداع ٍيقومُ على ممارسةِ الحريةِ والتعدديةِ والعدالةِ الاجتماعيةِ التي من الممكن ِان توفرَ فرصاً أكبرَ واوسعَ لتحقيق ِسعادةِ الانسان، انسان ِاردننا الجديد.