20-01-2013 10:07 AM
بقلم : د. قاسم جديتاوي
إن المتأمل بورقة الدولار الأمريكي من أي فئة يجدها موسومة بالعبارة الآتية :
This note is legal tender for all debts public and private ) ) وتعني أن ورقة الدولار هي مستند قانوني لكل من الدَيْن العام والخاص ، أي أن حيازة أي جهة لهذه الورقة تعني أن لهذه الجهة دَيْن في عُنق الحكومة الأمريكية، فمن يملك ورقة الدولار سيُلزم الحكومة الأمريكية بسداد ما يُعادل قيمتها من السلع والخدمات ، في حين تكتب الدول الأخرى على أوراقها النقدية عبارة :" ورقة نقدية صادرة بموجب القانون عن البنك المركزي لتلك الدولة " ، أو" ورقة نقدية مضمونة القيمة بموجب القانون " . إن مثل هذه الصيغ هي التي جعلت الأوراق التي لا قيمة لها أوراقا نقدية ذات قيمة ، فالنظام الرأسمالي ، سابقا ، ظل يتعهد باستبدال أوراقه النقدية بمقدار ثابت من الذهب حتى جاءت إجراءات نكسون عام 1971 وألغت ذلك ، وتابعتها في صنيعها هذا سائر دول المنظومة الرأسمالية ، فأصبحت الأوراق النقدية تتحدد قيمتها تبعاً للكميات المطبوعة منها ،أي تبعاً لِما تُصدره آلات طبع النقود ، وهي قطعا لا تستبدل ذهبا بالقيمة التي حازتْها أولا أو صدرت بموجبها ، وهذا يعني أن سكان العالم يملكون أوراقا نقدية متناقصة القيمة بمرور الزمن ، وهذا ما يُسمّيه خبراءُ الاقتصاد تضخُّماً حيلةً وخداعاً ، وفائض القيمة هذا يذهب الى أمريكا أولاً وإلى الحكومات ثانياً ، إذن يقوم النظام النقدي الرأسمالي بسرقة الناس ويُسمّي ذلك تضخُّماً.
وسيبقى هذا النظام قائماً حتى يعي الناس أن النقد يجب أن يكون نقداً حقيقةً وليس قانوناً فحسب ، أي عند العودة
إلى النظام النقدي القديم الذي كان يَعُدُّ الذهب والفضة هما النقد حصرا
فرفعُ سَقْف الدَيْن ، أو سياسة التيسير الكمّي، أو التضخُّم أو غيرها من المصطلحات التي يخرج علينا بها خبراء الاقتصاد الأمريكي من حين لآخر ما هي - في الحقيقة - إلا زيادة في طبع النقود يتحمل نتائجها الناس بنقصان قيمة مدخراتهم، وذهاب أموالهم وجهودهم لسنين عديدة أدراج الرياح ، أي إلى الحكومات صاحبة آلات طبع النقود. ولِنَعُد الآن إلى الإدارة الأمريكية والكونغرس ، فهذه الإدارة تريد رفع سقف الدين حتى تتمكن من طبع النقود للايفاء بالتزاماتها، وإلا ستُعلن الخزينة إفلاسها أو ما يُسمُّونه حالياً بالهاوية المالية، والكونغرس يعارض رفع هذا السقف للحفاظ على ماء وجهه وكذبه بما يوحي بأنه ضد هذا الإجراء حفاظا منه على مُدّخرات الناس. فهذه الممانعة المصطنعة -إنْ هي في الواقع - إلا خداع في خداع لأنه في النهاية سيوافق على رفع هذا السقف بشكل مرحلي ، أي بأقل مما تطلبه الحكومة ثم يزيد في هذا الرفع بشكل تدريجي حتى تكون سرقة أموال الناس وجهودهم ومِنْ ثَمَّ الدول مقبولة لأنها ستجري بشكل غير ملحوظ . وبلغة الأرقام ، كان سقف الدين الأمريكي عام 2001 م أي قبل دخول القوات الأمريكية إلى أفغانستان هو 3000 مليار دولار، وهاهو قد تجاوز الـ 16000 مليار دولار مع نهاية عام 2012م ، أي أن العالم أجمع أنفق 13000 مليار دولار على حرب أمريكا في أفغانستان والعراق. وهذا يعني أن كل فرد من هذا العالم شارك أمريكا بـ 81.25% من قيمة مدخراته في الإنفاق على هذه الحرب ، وهذه حقيقة ، بدليل أنه لو سُئلَ أي فرد في العالم عن قيمة الدولار الذي كان يملكه عام 2000م مقارنة بالدولار الذي يملكه عام 2013 م لأجاب بأن الدولار الآن أصبح بربع قيمته عام 2000م .
ويمكن توضيح ما نتج عن هذا بما يلي:
كان سعر الذهب عام 2000م هو 350 دولارا للأونصة وينبغي أن يصبح 1635 دولار للأونصة ((350/ 3000=0,214) ،أي 350 مقسوما على 0.214 = 1635)، وهو اليوم قريب من هذا السعر الذي هو 1663 دولارا للأونصة. فإذا رُفِعَ سقفُ الدَيْن إلى 20000 مليار دولار فسَيُصبح سعر الذهب بعد الطبع وضخ السيولة إلى السوق العالمي بحدود 350 مقسوما على 0.15 ، أي 2333 دولارا للأونصة خلال المدة القريبة القادمة ، في حين كان سعر النفط عام 2000 بحدود 35 دولارا للبرميل وينبغي أن يُصبح 163 دولارا ، وهو اليوم بحدود 110 دولار للبرميل. فإذا رفع سقف الدين إلى 20000 مليار دولار سيُصبح سعر برميل النفط بحدود 35 دولارا مقسوما على 0.15، أي 233 دولارا للبرميل خلال المدة القريبة القادمة. وهذا ما سوف يؤدي إلى ارتفاع قيمة المواد الغذائية عالميا ولاسيما الضروري منها : كالقمح والأرز والذرة واللحوم والألبان والخضروات والفواكه بأكثر من النسبة التي يرتفع بها الذهب والنفط، أي أن أسعار هذه المواد سترتفع خلال السنة القادمة من ضِعْف أسعارها الآن إلى ضِعْفَيها ، والمستفيد من ارتفاع هذه الأسعار – طبعا بالإضافة إلى أمريكا- هم مُنتِجُو هذه السلع ومُصَدْرِوها.
مسك الختام ، من يحمي الدولار ليس قوة الاقتصاد الأمريكي العجيبة التي يتغنى بها المبهورون بالكاوبوي الأمريكي ، إنما القوة العسكرية الأمريكية بالمقام الأول وعدم وجود منافس حقيقي للدولار في المستقبل القريب في المقام الثاني ، ومن قَبْلُ دُعاء كل من يَحمِلُ حتى ورقة نقدية واحدة من فئة الدولار له بعدم السقوط . إن استمرار عجز الموازنة الأمريكية ، وزيادة المديونية ، وزيادة عجز الميزان التجاري الأمريكي وبالتالي زيادة عجز ميزان المدفوعات ، كلها تُشيرُ إلى أن السرقة التي تنفذها الولايات المتحدة من خلال زيادة سقف الدين وطبع مزيد من الدولارات سوف تكتوي بنارها ، هي قبل سواها ، عاجلا أم آجلا .