بقلم : د.عبدالله عامر البركات
جيلي من القرويين يتذكر كيف كان يتم قطع الحجارة من المحاجر التي كانت تفتح في داخل القرى لتزويد البنائين بما يلزمهم من حجارة . كان الحجار يحفر حفرة اسطوانية بقطر 6سم وبعمق 60سم يملأ ثلثها بملح البارود ثم يعيد دك الاتربة والحجارة الصغيرة الخارجة من الحفرة نفسها فوق الملح الذي وضعه. كان يترك سيخ حديد رفيع وطويل اثناء وضع الاتربة يصل الى الملح , وبعد الانتهاء من اغلاق الحفرة التي اصبحت الان لغما يقوم بسحب السيخ وحشو الفراغ الذي تركه بملح البارود كذلك ليعمل عمل الفتيل. وقبل ان يضع عقب سيجارته المشتعل على طرف الملح الواصل الى سطح اللغم, وبعد ان يأخذ مصة طويلة من تلك السيجارة يقوم وينادي بأعلى صوته (بارووود) عدة مرات فينتبه المارة ويلوذون بالزوايا والدكاكين والبيوت. كانت لحظات رهيبة مروّعة وممتعة معا. كنا نحن الاطفال منقسمين بين الابتعاد بداعي الخوف والاقتراب بداعي الفضول. ثم يقوم ابو جمعة بوضع عقب السيجارة ويهرب مبتعدا ثم محتميا بما تيسر من حماية. هنا تبدأ الاعصاب بالتوتر والشد ونطل نحن الاطفال برؤوسنا الصغيرة من خلف الجدران والخرابات. تمر الثواني ببطئ ورهبة ومتعة ونهمس لبعضنا همسا وكأن اللغم يجب الا يسمعنا كي لا يعرف مخابئنا. ثم ينطلق اللغم. انفجار هائل وتطاير للحجارة صغيرها وكبيرها. علينا ان ننتظر حتى خروج ابي جمعة وتقدمه للمحجر فهذا وحده هو علامة الامان. ولكن ذلك لا يحدث دائما. فقد يتأخر اللغم كثيرا. وهنا على ابي جمعة ان يقرر فترة الامان الواجب انتظارها. وعندما يتيقن ان اللغم فشل ولم تصل النار الى مستودع ملح البارود يقوم بالتقدم على حذر الى اللغم, ويقوم بسكب الماء عليه زيادة في الامان ثم يقوم باعادة حفره وتعبئته, مع ما يرافق ذلك من خيبة امل وضياع جهد ومال. كلنا كنا ننتظر ابا جمعة ليعلن زوال الخطر ,الا حسونه ذلك الولد الشقي الذي ما في جسمه شبر الا به عضة من كلب او لسعة من دبورة او عقطة من حمار او فشخة من حجر . كان يقرر لوحده فترة الامان المعقولة ثم ينطلق بحذر نحو اللغم مستهزئا بصيحاتنا وتحذيراتنا وتهديدات ابي جمعة ان (يمغه كتله) اذا لم يرجع وهو يقول \"يا ناس اشهدوا ان انكسر راس هالقاروط اني ما دخلني \". كان فعلا قارووط اي يتيم ولم يكن يعبأ به احد . كانت جدته الضريرة لا تملك ان تمنعه وكلما عاد لها في المساء كانت تحمد الله انه مازال على قيد الحياة. عندما مات ابو جمعة تسلم المهنة ابنه جمعة الذي كان يعد لها منذ زمن. فقد اتقن لف سيجارة الهيشي والمج عليها ونفث التتن المتساقط في فمه. كان ابو جمعة يرمقه باعجاب فقد اتقن من المهنة ما يكفي لتبؤي المقام. اما حسونه فقد ازداد جرأة على الالغام في عهد جمعة فليس لهذا الاخير هيبة ابيه التي كانت تحد من تهور حسونه قليلا.اليوم حصل امر عجيب فقد اتم جمعه حفر اللغم وقال لنا \"يالله انهزموا\" , فتناثرنا في كل الزوايا والخرابات ووراء الجدران والتشريكات, اما حسونه فقد مشى بكل توئدة الى اقرب قرنة وكمن بها. عندما انتبه جمعة الى وجود حسونه بالقرب من المحجر صاح به \" ولك شو بتساوي هون ابعد غاد هون مش امين\". استهتر حسونه بأوامر جمعة وهو يعيدها بطريقة ساخرة مبدلا الشينات والسينات بالثاءات \"ولك ثو بتثاوي هون ابعد غاد هون مث امين\". كان جمعة متعود على مثل هذه السخرية فلم يعبأ بها. وضع عقب السيجارة في المكان الذي رآه مناسبا وانطلق مسرعا الى مخبئه. بدأت اعصابنا بالتوتر والاستمتاع , الخوف والترقب والفضول. مرت عشر ثوان............ ثم عشرون.................... ثم دقيقة, والاعصاب تزداد انشدادا والهمس يتضاءل. انَّ تأخر اللغم قد يعني انفجارا هائلا, او فشل تاما. بقيت روؤسنا تظهر وتختفي ونتدافع كي نكون في المقدمة ثم نتدافع كي نكون في المؤخرة. بعد دقيقة واحد خرج حسونه واتجه الى الغم بكل تهور ثم اطلق ضحكة مجنونة ولم يقل شيئا بل توجه الى المكان الذي يختبئ به جمعة ووقف وصاح بنا \" يا هبايل جمعة مش حاط السيجارة على اللغم وهاظهوه بفطر هو قاسم مزنرة. ثم قال \" تفيه عليكو يا زعران, حبستو الناس تاتفطروا ! مطرح ما يسري يهري. انطلقنا وخرج الرجال والنساء ومروا على جمعة وقاسم وكل واحد كان يمر يقول تفيه عليكو.\" الناس ملو وجوهم بزاق وهموه طاقين من الظحك
كم في حكام العرب اليوم مثل جمعة وقاسم؟؟؟ وهل في الشعوب مثل حسونة؟؟