11-02-2013 10:37 AM
بقلم : د. إبراهيم بدران
في خضم الأزمة المعقدة التي تمر بها الأقطار العربية بعد الربيع العربي، وإقحام السياسة على الدين ، والتخوف من بوادر الانقسام الطائفي والمذهبي، بل الفئوي على خلفيات دينية، يصبح الفكر الديني المستنير مطلباً ملحاً، وضرورة قصوى، للخروج من أزمة تغذيها اسرائيل وقوى أخرى،و ينميها الجهل و غياب الديموقراطية، وينشرها ضعف الأحزاب والقوى المدنية. لتعمل هذه الحالة على تفتيت الوحدة الداخلية للشعوب العربية، وإعادتها من عصر الدولة الحديثة إلى عصر المذهب والطائفة.و إذاك تشعر إسرائيل بالرضا أنها دولة يهودية بين دول ذات أديان ومذاهب شتى. لقد كان للأزهر مبادرات هامة في تصحيح اتجاه البوصلة، كما كان لعدد من المفكرين الإسلاميين المستنيرين جهدا مشابها يستحق التقدير. و جمال البنا كان واحداً من هؤلاء .
فبعد أكثر من سبعين سنة من العمل النقابي والاجتماعي والفكرى المتواصل، وبعد أن ترك بين ايدى القارىء العربي أكثر من مئة وخمسين كتاباً ما بين مؤلف ومترجم، ارتحل جمال البنا يوم الأربعاء (30/1) إلى مثواه الأخير كعلم من أعلام الفكر الإسلامي التجديدي، وباحث من أكثر الباحثين ربطاً ما بين الدين والعلم والمجتمع.هذا إضافة إلى اهتمامه العميق بالحقوق المدنية وحقوق العمال و المرأة.
ما ميّز ابحاث جمال البنا انطلاقه من منصة العقل والعلم، ليقرأ الدين ويتعامل معه وبالتالي يؤسس لفهم جديد مستنير للدين، هو جوهر القران والسنة المؤكدة كما كان يقول، ولكن ليس بالضرورة تكراراً لما قاله السابقون. لقد فحص جمال البنا التراث وخاصة الفقه من منظور غير تقليدي و ألف كتابه الضخم في (3) أجزاء بعنوان “نحو فقه جديد”وكتاب “قضية الفقه الجديد”. فقدم العقل على النقل و فضل الإبداع على الإتباع، و أعلى التجديد على التقليد. واعتبر أن ما اجتهد به السلف كان مجرد اجتهاد ليس له صفة القداسة، ولا سمة الديمومة، ولا ثقل الالزامية على مدى العصور والازمان. وكان يرى أن الماضي لا ينبغي أن يقيد الحاضر،ناهيك عن المستقبل. وأن كل اجتهاد هو ابن عصره ولأجل عصره، وهو نتاج لمجتمعه ولأجل مجتمعه. وبالتالي فمن غير المنطق وغير العملي أن نعمل على حشر مجتمعاتنا في ثوب المجتمعات السابقة . ولذا كان جمال البنا يرفض أن تسحب الاحكام والاجتهادات الماضية على حياتنا المعاصرة. وقد خرج هذا الباحث الدؤوب الذي نشأ وترعرع بالقرب من أخيه حسن البنا بأفكار متقدمة مستنيرة تسجّل له. فلم ينظر الى المرأة ابداً انها ذلك التابع للرجل، وإنما نظر أليها أنها شريك مكافئ بالواجبات والمسؤوليات. ولا يميزها عن الرجل الا الجدارة والكفاءة. وبالتالي فإن جميع المواقع ينبغي أن تكون متاحة لها بما في ذلك موقع الأمامة والذى انشغل فيها الفقهاء ولا يزالون سنين وسنين.و أصدر كتابه بعنوان” المرأة بين تحرير القران وتقييد الفقهاء”. أما الحجاب وهو القضية التي لا زال الجدل فيها قائما منذ قرون، فقد تناولها في كتابه “الحجاب”و رأى جمال البنا واستناداً الى النصوص القرانيه الكريمة أن الحجاب ليس فرضاً على المرأة وانما هو حرية واختيار، تمليه العادات الاجتماعية والقناعات الشخصية. وفي الجانب السياسي، فقد تابع اهتمامه بعدد من القضايا الرئيسية كان في مقدمتها الديمقراطية والحرية والمواطنة والحركة العمالية. وقد كتب في ذلك عدة كتب منها:الحركة العمالية الدولية و”العمال والدولة العصرية”و “قضية الإنتاج”
و كانت حرية الفكر والعقلانية العلمية واحدة من مرتكزات رؤيته للدين وللمجتمع. والف كتاباً بعنوان” الاسلام والعقلانية” بين فيه ان الاسلام والتعامل معه وفهم مكوناته لا يقوم الاّ على العقل والتفكير والتوافق مع العلم. وان وضع قيود أو حدود على العقل و التفكير من أجل الانسجام مع قاله رهط من الفقهاء ،لهم احترامهم ومكانتهم ،فهو ليس في الدين من شيء،بل ويتعارض مع صريح النصوص القرآنية الكريمة. وكان يؤكد على ان “ الفقه”لا يشكل شيئا قائما بذاته منفصلا عن الناس، و إنما هو فهم الفقيه للمسائل الدينية. وبالتالي فليس للفقه، في نظر جمال البنا، قداسة، لأنه ببساطة “يعكس فهم” الفقهاء للدين. وهذا قابل للنقاش دائماً. ورغم ان اخاه الاكبر ، الشهيد حسن البنا، كان مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، فلم ينضم جمال لتلك الجماعة، وشعر إنها، وبعد فترة من قيامها، انحرفت عن الهدف الدعوي الذي كان يسعى اليه مرشدها، و دخلت في خط من الجمود والمحافظة والتشدد، كان بعيدا عن ما كان يتطلع إليه مؤسسها . كان جمال البنا، و استنادا إلى دراساته للقرآن والسنة، يفصل تماماً بين الدين والسياسة.فكان كتابه “ الإسلام دين وأمة وليس دين و دولة”. فالسياسة تخدش قدسية الدين اذا استعملته اداة لها. والعباءات الدينية تؤطر السياسة بإطار يفضي إلى التعسف والدكتاتورية باسم الدين إذ تداخل معها أو تم توظيفه من أجلها.و كان جمال البنا يدعو إلى الدولة المدنية الديمقراطية ، وهذا ما جاء في وثائق الأزهر الهامة مؤخرا . ويقول إن الدولة الدينية لم تكن موجودة في التاريخ العربي الاسلامي أصلاً، فمن باب اولى ان لا تكون موجودة في هذا العصر، عصر العقل والعلم والابداع والتجديد.
ولعل ما مكنّ جمال البنا من الانطلاق الى افق التجديد المستنير،إضافة إلى رجاحة عقله و دؤوب بحثه واطلاعه على المدارس الفلسفية الغربية بما فيها الماركسية، هو التصاقه بالعمل السياسي الإجتماعي اليومي. فقد أسس بالإشتراك مع شقيقته جمعية لمساعدة المسجونيين السياسيين. وبدأ بمساعدة الاخوان المسلمين حين اضطهدوا في عهد عبد الناصر. ومن جهة الثانية انخرط في العمل النقابي العمّالي وفي إلقاء المحاضرات في الجامعة العمالية. وبالتالي كان على صلة مباشرة بالدور الإقتصادي ،و بالمعاناة الاقتصادية الاجتماعية التنظيمية للعمال. وكان يتفهم ويتفاعل مع رغبتهم في التغيير وتعبيرهم عن الشرائح الوسطى والادنى من ا لمجتمع. وهذا دفع برويته الفكريه لان تكون مرتبطة بالواقع والحاضر وليس بالخيال والماضي.
و أخيرا ، ففي العالم العربي، الذي تكاد تتعطل البوصلة فيه و تفقد اتجاهها الصحيح، ليس هناك من حاجة اشد ضرورة من مثل هذا المفكر المستنير، الذي كرس جهوده و حياته لفتح نافذة جديدة، تتعامل فيها الشعوب مع تراثها بشكل يساعدها على بناء مستقبل أفضل.