06-03-2013 09:31 AM
بقلم : الدكتور شفيق علقم
الاسرة هي ظاهرة اجتماعية اساسية ، مستمرة قديمة حضارية، لها دور حيوي في بناء المجتمع ، ولها وظائف ومهام متعددة ، تطورت مع الزمن ، فوظائفها اجتماعية واقتصادية وسياسية وتربوية واخلاقية ، وهي نواة المجتمع واساسه وركيزته الاولى ، ومصدر السلوك والدعامة الاولى لضبطه، وبناء المنظومة الاخلاقية، والاطار الذي يتلقى فيه الانسان اول دروس الحياة، وهي المنبت الحسن للبذرة الطيبة ، وهي المدرسة الاولى في ترسيخ العقيدة، وتنمية المواهب ،وتغذية العقول، وتقوية الاستعدادات الفكرة واللغوية، وغرس الاخلاق التي هي البذرة الاولى في اصلاح الاسرة والمجتمع والامة ، وهي ذات مهمات صعبة، فهي التي تضع حجر الاساس لتنمية جوانب النمو الخمسة لدى الاطفال، والتي هي النمو الجسدي او الحركي والعقلي او الفكري والاجتماعي والعاطفي او النفسي والروحي، وترسيخ قاعدة الامن والامان لديهم ،وتوفير كل المتطلبات النمائية وركائزها.
لقد ظهرت في السنوات الاخيرة تحديات وصعوبات اخذت تقف حائلا في طريق تأدية الاسرة لوظائفها، وتشكل عقبة كأداء تحد من قيامها بدورها الصحيح؛ ففي ظل هذا العصر الذي يسمونه النظام العالمي الجديد، والذي يعكس بصراحة ايدلوجية ارادة الهيمنة الامريكية بقيمها الغثة، واعرافها الفاضحة، وتدخلها السافر في جميع الشؤون الحياتية الاجتماعية، والاقتصادية والثقافية والسياسية والسلوكية ، وتحطيم الحدود دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة او الانتماء إلى وطن محدد؛ ففي ظل هذه الاجواء المفخخة تغيرت اتجاهات ومفاهيم كثيرة طالت عصب الاسرة ومقتلها ، النواة الاولى للمجتمعات ، فقد انحرفت اتجاهات الولاء والانتماء للاسرة العربية والاسلامية نحو الفردية ؛فاخذ كل فرد فيها يتمحور حول نفسه ومصالحه، ولو على حساب الاسرة اوالاخرين ، كما اشتدت الصراعات بين اعضائها التي قد تستعصي على الحل في حالات كثيرة ، واتسعت الفوارق وازدادت الفجوة بين الآباء والابناء نتيجة الحرية الزائدة الممنوحة لهم ،ونتيجة افرازات قيم عصر العولمة، والنظام العالمي الجديد، او المجتمع العالمي المفتوح، وما صاحبه من اختراعات علمية وتقنية، وسيطرت الايدولوجية الفردية بقيمها البراقة ، كالاستقلالية والحرية الفردية، وتفضيل النجاح المادي على المعنوي، والذي تقف وراء هذه القيم وتشجيعها وتكرسها قوى السوق ،والتعليم الحديث، ووسائل الاعلام المختلفة، وتقنيات التواصل والاتصالات الحديثة.
كما وتراجعت وضعفت اتجاهات الوالدين في تنشئة ابنائهم نتيجة ازدحام مبادىء واساليب التربية والتنشئة الوافدة والمستوردة، وتفضيلها على ما لدينا من التراث الادبي التربوي العتيد، واختلاط الحابل بالنابل في ذلك، وما تبعه من انفتاح مضطرب وفقدان للامن والامان الاسري ، فقد اشتد تيه الآباء وضياعهم بين خضم هذه الايدلوجيات والمذاهب والمناهج التربوية الغريبة؛ فابتعدوا باسم التقدم والحضارة عن منبع القيم واساليب التربية النقية الصافية ،وضوابط السلوك القويمة التي تمتلىء بها خزائن رسالتنا ومبادئنا السامية.
ومع اتساع ساحة الصراع السياسي والامية السياسية والحضارة المزعومة ضاع الابناء ايضا في دهاليز هذه المذاهب والاتجاهات السياسية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية الضالة المضلة، واخذوا يبحثون عن حقوقهم ونسوا واجباتهم باسم الحرية السياسة، اما الآباء فاعتبروا حتى لفظ كلمة السياسة جمرة تلمظ الافواه لانها تعني لديهم السجون والمعتقلات والضياع والتشرد؛ كما خبروها في زمانهم.وبذلك افتقر الابناء إلى القدوة الصالحة ؛فوجدوها في الانتهازية ومع المرتزقة، والسياسيين المارقين ، وسماسرة السوق، ورجال الاعمال المتفعين ، والانتهازيين فاخذوا يقلدونهم.
لقد حل لديهم الصراع النفسي بين الذات الواقعية والذات المثالية نتيجة الاحباطات التي يواجهونها ، والتقوقع والعزلة عن المجتمع التي استحبوها ،ورفضوا التفاعل الا مع امثالهم من المحبطين المقهورين ، كما ساعدت سوء بعض النظم التعليمية التي عززت الفردية ،وتجاوزت العمل الجماعي عمليا، وقد افتقدت مدارسنا في اغلبها القدوة الصالحة، والتطبيق العملي للسلوك الاخلاقي الاجتماعي، والنموذج الديني الامثل ، كما تعزز لديهم شعور فقدان الامن والامان نتيجة للحرمان والاحباط بالاضافة إلى فقدان القيم الحقيقية للعمل، وفقدان اعتبار غياب المعنى ،والقيمة للكرامة الانسانية ؛مما عزز تولد الفزع والخوف في القلوب ،مع غياب السلطة الضابطة والموجهة ، وازداد الصراع الناشىء من تضارب الرغبات والحاجات، والفشل في اشباع الحاجات الاساسية لديهم ،والخوف من المستقبل واختلال القيم واختلافها ،والفراغ المادي والروحي ،وضعف الايمان، وهكذا ضاعت الاتجاهات الوالدية في التنشئة، فكثرت التنشآت الاجتماعية الخاطئة التي تقوم على القسوة الزائدة او اللين الزائد والتي تذهب فيها الرقابة إلى الحد الزائد من الحرية.
ان عدم اشباع الاسرة للحاجات الاساسية للابناء تظل طاقاتهم حبيسة ومعرضة للانفجار ، ويصبح امام الابناء اما التحول إلى الانحراف والانخراط في زمر المجرمين وممارسة السلوك الانتهازي المنحرف باعتبار ان الغاية تبرر الواسطة، او الانزواء والانسحاب من الحياة الاجتماعية للمجتمع وعدم التفاعل معه والانتماء اليه، او العيش مهاجرا داخل الوطن رافضا لواقعه ساعيا للهروب إلى الخارج.
لقد ضعفت لدى الابناء الحياة الروحية والوازع الديني وانخفض مستوى التدين لعدم وجود القدوة الصالحة في الاسرة او المدرسة اوالمجتمع،وغني عن القول ان اسباب دعائم السعادة الاسرية وتقوية روابطها يكمن في الاخلاص والتعاون والتضحية والمعاملة الحسنة ،وكل ما يؤدي إلى الاتفاق ويقود إلى الوفاق ،وان عماد الاسرة المتماسكة الناجحة هوالتراحم والتفاهم بين افرادها ،والاحترام المتبادل والطاعة الصادقة، والتضحية المخلصة والتكافل والتكامل ، فالعلاقة الاسرية تقوم على تأدية كل ما فرض على الفرد من واجبات شرعية ووضعية، ونيل جل حقوقه من الحرية المشروطة، وليست حرية الفوضى والصخب، وحرية التعبير عن الرأي ،والتصرف من الاولاد فيما لا يخالف شرع الله ومنهجه.
يقول ستيوارت مل الفيلسوف المعروف: ان النظم الشرعية والقوانين الوضعية انما تهدف إلى اسعاد البشرية ،وان الحياة الاسرية القائمة على التفاهم والتضامن والتكامل والتكافل والمحبة والمودة وارضاع الابناء لبن الفضائل على التحلي بالاخلاق الحميدة والسمات المجيدة هو الذي يثريهم في الدين والدنيا على حد سواء.