26-05-2008 04:00 PM
الطريق الطويل حبل سري يصل المدينة بالقرية ، الهزيع شيخ جليل خلع للتو عباءته السوداء ليبوح الوضح بتفاصيل المكان ، الشمس تصحو من سباتها الأزلي بخجل كبير وتطرد ما تبقى من جحافل الغيهب ، وتزيل الستار عن اليفاع المختبئ وراء الظلمة ليصبح أبلج دون أن تمسسه نار. وهكذا تتضح الرؤية أمام اسعد بعد أن قطع أكثر من ثلثي المسافة فلم يبقى إلا القليل اليسير. زقزقة العصافير لحنا أبديا خالد ، تشكّل مع صوت جرس المرياع سموفونية عشق للأرض عندما تخالطه ثغاء شويهات انتشرت على التلال المجاورة للطريق التي خطّتها حوافر البهائم وأقدام المارة جيئة وذهابا إلى القرية. أمام جمالية المشهد لم يستطع أسعد أن يقاوم رغبته في الغناء فتعالى صوته " والبيض هجن هجيج الصيد" ، فاعترته نشوة فرح تسللت إلى جسده كله ، فامتطى صهوة أحلامه الصغيرة في بيع ما جادت عليه أرضه وأغنامه ونحله من لبن وعسل ، والتي حشرها في خرج استقر على ظهر حماره ، ليشتري ما تشتهيه نفسه بثمنها . أسعد ،في العقد الرابع من عمره ، طويل القامة ،ممتلئ الجسد ، أهرت الشدقين ، أشمط الرأس ، حفر الزمن على وجنتيه سنين الشقاء ، يرتدي "فوتيكا" عسكريا رثا ، يختبئ وراء بطن مترهلة ، يحمل عصى مدببة المقبض كرأس الأفعى يهش بها حماره وله فيها مآرب أخرى،يسير خلف الحمار ويضرب الأشواك التي نمت على شاكلتي الطريق وهو ما زال يغني . وهكذا اشتد الأوار وأسعد على أطلال المدينة يملأ عينيه بتفاصيل المكان حتى ابتلعه السوق فوجد نفسه أمام دكان صديقه جمال الذي لم يتوان عن استقباله بحفاوة وترحاب بل ساعده أيضا على بيع كل ما لدية بعد أن اشترى لدكانه كل ما يملكه صديقه أسعد من العسل . لم يكتف بذلك فقط فدعاه إلى وليمة في بيته بعد أن ينهي أسعد التسوق وشراء ما يمكن شراؤه بالدنانير القليلة التي حصل عليها فقد وعد الأفواه الجائعة في القرية بالهريسة التي أصبحت طقسا من طقوس التسوق له ، أما الحمار فقد تركه في الخان القريب لينال قسطا من الراحة ووجبة تبن وحشيش وماء تولى أمرها صاحب الخان بعد أن نقده أسعد نصف دينار . وهكذا كان اسعد يستنفض المكان متفحصا كل ما عرض فيه من بضاعة فأنفق معظم ماله ، فكلما ملأ عينيه بالأشياء كان يعلم بأن أمامه مزيدا من الحرمان . الجوع أخذ من أسعد مأخذه فأصابه الخور و النكس و همّ إلى دكان جمال الذي اصطحبه إلى منزله بمزيد من الترحاب . رائحة الطعام تفوح من المنزل ، الجوع يكاد يفتك به فلم يدخل جوفه شيء منذ ليلة البارحة . يبدو أن جمال قد اعد لهذه الوليمة جيداً ، أكوام اللحم تتوسد تلة أرز تناثرت فوقها حبيبات الصنوبر وكأنها لجين مضيء ، رأس الخروف كان سيد الحضرة على الإطلاق تارك لسانه ممدود وكأنه يهزأ بأسعد الذي أقسم على أن لا يترك له أثراً . خوار المعدة يعلو جمال يصيح بولده، أحضر اللبن يا ولد أسعد يتلمظ رأس الخروف ما زال يتمادى جمال : أهلا وسهلا والله انك عزيز يا أسعد أسعد يتوعد الرأس وأكوام اللحم ، واللبن ينسجم تماما مع تفاصيل اللحظة هو الانتظار إذن ..................... اللحظات أصبحت زمناً لا اسم له ولا عنوان ، زمن مضى على أسعد حتى أعلن جمال ساعة الصفر .بسم الله . إنها وليمة حامية الوطيس , لم يترك أسعد باباً مفتوحا لجمال للتحضيض فراح يغوص في بحر اللذة وينتقم لنفسه من الجوع ، كرات الأرز توالت على معدته،وكأنها جلاميد صخر حطت من عل ، ولسان الخروف أصبح نسيا منسيا وأكوام اللحم تختفي شيئا فشيئا حتى أحرز أسعد تقدما تجاوز به المنطقة المحايدة وأحتل مناطق أخرى في ساحة جمال . الابتسامة ارتسمت على شفتي جمال وأسعد بدأ يتصبب عرقا ثم أردف يقول : الحمد لله جعله الله عامرا قاطعه جمال : والله انك عزيز يا أسعد خذ هذه من يدي ويضع أمامه قطعة لحم مكتنزة لا أستطيع الحمد لله لقد شبعت بالله عليك أن تأكل هذه من يدي أرجوك يتناول أسعد قطعة اللحم ويبدأ بنكشها برؤوس أصابعه ، يسحبها جمال من يده ويقطعها إربا ويضعها في فم أسعد وهكذا ظل جمال يمارس سياسة الحشو مع أسعد حتى فر من بين يديه، ولكن بعد أن عجز عن ابتلاع حبة أرز واحدة . يخلف يا جمال والله ما قصرت بارك الله فيك قم و اغسل يديك صحة وهنا يا أسعد أحضر القهوة يا ولد عبثا يحاول أسعد شرب القهوة ، أحضر الشاي يا ولد ،أحضر الحلوة يا ولد ، أحضر الفاكهة يا ولد الأعراض الجانبية للمنسف تظهر على أسعد و التخمة يشتد أزرها وضيق التنفس يجعل الحياة أصعب.فيلقي بجسده المنهك على الفرشة و يترك العنان لنفسه فعل أي شيء حتى لو وصل ذلك حد النوم فهو ما يحتاجه في تلك اللحظة . غادر منزل جمال في طريقه إلى الخان ،عبثا حاول أن يطعم حماره، ويسقيه قبل أن يرحل حتى أشار إليه صاحب الخان بأن الحمار أخذ حاجته ولن يزيد . خطوات مثقلة تحمل عبئا ثقيلا ، تلاحق الحمار الذي عرف طريقه جيدا ،الطريق طويل، والوقت كالسيف المسلط على عنقه ، والشمس في طريقها لمعانقة الأفق الغربي ، والقرية حلم بعيد المنال.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
26-05-2008 04:00 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |