26-03-2013 12:19 PM
بقلم : علي نصيرات
لم يكن عمر عندما رأى نتيجة نجاحه في الثانوية العامة على دراية بحجم الهموم والمتاعب التي تنتظره بعد تخرجه من الجامعة. بالنسبة إليه ولقطاع كبير من الشباب الأردني البسيط، فإن هذا الحدث إنجاز تاريخي لدى مواطن كُتب عليه الهلاك في وطنه حتى يعيش تلك الحياة العادية التي يعتبرها منحة وهِبة حكومية ربّما تمنّ عليه بسببها إلى الأبد.
عقل هذا المواطن البسيط (أو الممنوع من التفكير) لا يحتمل استيعاب قضايا الفساد السياسي والتي خلّفت وراءها الفقر والبطالة وغيرها من نتائج راح هو وغيره من أبناء هذا الوطن ضحية لها. من الصعب جدا على عمر (مثالا) إجراء مقارنة بين الظروف المعيشية لأبناء القرى والبوادي وأبناء الرينبو وعبدون، علما أن كليهما يوضعان في نفس قالب المنافسة والفرص التعليمية والوظيفية وغيرها، هكذا تقول الرواية الرسمية الحكومية، و "وراء الأكمة ما وراءها"، من الصعب أيضا على عمر أن يتوسع في مدارك التفكير عندما نجح في الثانوية العامة ليتأمل مليا بالفائدة العملية لكافة مراحل التعليم اللاحقة في حياته المستقبلية، على العكس تماما من آخرين، يستطيعون في نفس المرحلة رسم ملامح مستقبلية مرافقة لإنجازات عملية مدروسة مصاحبة لبيئة مهيأة بالكامل ماديا ومعنويا، هذا بالنسبة لأنا س يعترفون (ولو مجاملة بالأردن)، أما الذين اتخذوا الأردن فندقا أو حاضنة لمشاريعهم الاستثمارية والتي يديرونها من دبي أو باريس فنحن لسنا بصدد الحديث عنهم، صحيح أن (عمر) غير قادر اليوم (وبعد تخرجه من الجامعة) على فهم الكلام السابق، لكنه ما زال يدين بالولاء والانتماء عندما رأى اسمه ضمن قائمة المقبولين في "مكرمة القوات المسلحة" أو "مكرمة أبناء العشائر" أو "منح الديوان الملكي".... إلخ.
تحرك عمر من الزرقاء إلى إربد في أول يوم دراسي له بجامعة اليرموك، حتى اللحظة ما زال ذلك اليوم مميزا عن باقي أيام حياته، وهو بالنسبة لغيره لا يعدو عن كونه يوما عاديا، ببساطته المعتادة، اختلط في متاهات الجامعة ودخل مكانا اسمه (القاعة) تلقى فيه محاضرة أكاديمية من شخص ربما كان في يوم من الأيام مثل (عمر)، رفاق جدد، مرافق جامعية، أفكار واتجاهات، مناسبات وطنية واحتفالات جامعية، أحاديث مع زملاء الدراسة تتلخص في زراعة الأرض وقطف الزيتون والرعي بالماشية وأحاديث مشابهة تعطي صورة واضحة عن بساطة المواطن الأردني الذي لا يعرف شيئا حتى اليوم عن اغتيال وصفي التل أو اتفاقية وادي عربة، وإذا تطور نقاشهم إلى أرقى مراحله فإنهم يتناقشون حول ماهية الأسئلة المطروحة في امتحان الغد، يعود كلّ منهم إلى بيته وامتحان الغد يهز كيانه الداخلي ويشوش مسار حياته اليومي.
شعر عمر بالإجهاد والتعب بعد فترة، فالترحال اليومي من الزرقاء إلى إربد أرهقه جسديا وماديا ونفسيا، وكان لا بد من البحث عن سكن، ولتواضع إمكاناته المادية، اضطر إلى مشاركة طلاب آخرين في السكن علّه يخفف العبء المادي، السكن هنا ليس إلا للراحة الجسدية فقط، فهو غربة عن الأهل واستنفاد للوقت، حيث أنهم مطالبون بخدمة أنفسهم، وعلى الرغم من ذلك استمر عمر في مشواره الدراسي وأنهى المرحلة الجامعية بتقدير "جيد جدا"، وسط شهادة من زملائه ومدرسيه بالجد والاجتهاد.
حصل عمر على شهادته وأوراقه الجامعية وتوجه كحال مئات الآلاف من الخريجين إلى ديوان الخدمة المدنية لتقديم طلب يعقبه حلم العمر وهو الوظيفة، ربما تفاجأ عمر عندما قيل له أن عليه الانتظار لسنوات نظرا لكثرة أعداد الخريجين ومحدودية فرص العمل، عاد عمر إلى البيت والخيبة والألم يرتسمان على وجهه، ولأن الرزق بيده سبحانه وحده، حصل عمر على فرصة في مدارس "الأونروا" في الزرقاء على نظام المياومة، فرح فرحا شديدا وكأنه بالأمس لم يتألم، توجّه إلى عمله معبئا بالعطاء والإنتاج، وصار طالب الأمس معلم اليوم، ولكن دوام الحال من المحال خصوصا في أوطاننا العربية، بُلّغ عمر بالاستغناء عنه لصالح معلم آخر نزح من سوريا قادما من مخيم اليرموك السوري للاجئين الفلسطينيين، نعم، تألم عمر ثانية، وكان ألمه في هذه أشد من تلك، لكن المشكلة التي يعيشها في أنه فسر كل ذلك من باب القضاء والقدر ومن باب الأرزاق، عمر حتى اليوم ما زال عاجز عن فهم التفسير الحقيقي لما جرى، وهو مؤامرات وتلاعب بمصائر الأردنيين واستهتار بعقولهم وأرزاقهم، يُحاك ذلك عبر أيادٍ خفية تنظر إلى الأردن كما نظر الأمريكان إلى العراق ونفطه، وكما نظروا إلى هاييتي وثرواتها، يسرقونها ويسحقون أبناءها ويعدمون كل ذرة أمل قد تنهض بهذا البلد يوما ما، ثم يمضون إلى عواصم الغرب وتحديدا سويسرا حيث حساباتهم السرية، ربما لم يسمع عمر يوما بعبارة "السيادة الوطنية"، وهو ما يحجب تفكيره عن فهم جلب لاجيء وتعيينه في وظيفة وطرد صاحب الجنسية الأردنية منها.
يقال أن الحاجة أم الاختراع، ولأننا في مجتمع طبقي بامتياز، يًحرّم فيه على العوام أن يختلطوا بالذوات، تعرف عمر على أحد أبناء الزرقاء والذي لديه قصة ربما تشكل توأما مع قصة عمر، قررا أن يبيعا بعض الحاجيات البسيطة عند الجامعة الهاشمية على بسطة متواضعة، لا أدري ماذا قسم الله لهما من رزق خلال فترة لم تتجاوز الشهر، إلى أن جاءت في أحد الأيام دورية الأمن تحمل تعليمات من مسؤولين تكلموا كثيرا عن ثقافة العيب وحثوا الشباب على العمل مهما كان متواضعا، وأغنوا تلفزيوناتنا وإذاعاتنا وصحفنا ومحافلنا الرسمية بخطابات رسمية تتحدث عن ثقافة العيب وتحقيرها، أمرت دورية الأمن عمر وصاحبه بالانصراف وعدم البيع بتاتا، وإلا فإنهم مضطرون لاتباع التعليمات التي بحوزتهم، مشهد ربما يكون حالة مصغرة عن حادثة البوعزيزي.
تألمت كثيرا عندما سمعت قصة صديقي عمر، ربما أنني لست أفضل حالا منه، لا أدري من سيقرأ هذا المقال وإلى أي مكان سيصل صداه، بل لا أدري إن كان عمر نفسه سيقرؤه، لكن على الأقل شعرت أنني متضامن مع صديقي ولو بكلمات أضحت لا تسمن ولا تغني من جوع في مجتمع يصلي للقرش ويكفر بالقلم.
أعتقد أن عمر لو تلقّى خبر تعيينه اليوم سوف يرفع العلم الأردني عاليا ويطرب آذان الجيران والأهل بالأهازيج والأغاني "الوطنية" وعيناه تزفان أصدق معاني والولاء والانتماء وحب الوطن، وأجل معاني الشكر والعرفان للدولة على هذه المنحة العظيمة، أخاف أن عمر وصل في اعتقاده الداخلي إلى أنه لا يستحق هذه الوظيفة، لكن الدولة تفضلت عليه بها.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
26-03-2013 12:19 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |