24-04-2013 09:35 AM
بقلم :
الحمد لله الدائم برُّه، النافذ أمرُه ، الغالب قهرُه ، الواجب حمدُه وشكرُه ، وهو الحكيم الخبير ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الملك والتدبير ، جلَّ ذكرُه ، وإليه يُرجع الأمر كلّه ، علانيته وسرُّه ، لا رادّ لقضائه ، ولا معقب لحكمه وهو على كل شيء قدير ، سبحانه وبحمده جعل لكلِّ أجلٍ كتاباً ، وللمنايا آجالاً وأسباباً .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله ، الهادي البشير، والسراج المنير، صلّى الله عليه وعلى آله الأبرار، وصحابته الأخيار، ما جن ليل وبزغ نهار، وسلَّم تسليماً كثيراً.
وبعدُ :
إنّ الله – جلّ في علاه – قد تفضّل على عباده بنعم وفيرة جليلة ، وعطايا كثيرة جزيلة ؛ منّاً منه – جلّ ثناؤه – وتكرّماً ، وعلوّاً على خلقه وتعظّماً ؛ نعمٌ لا تُحصى ، وعطايا لا تُجزى ؛ وإنما بالعِرفان والصيانة تُشْكر ، وبالنكران و الخِيانة تُكْفر .
والأمنُ من الخطوب والرزايا، والخوف والبلايا ؛ من أعظم ما أنعم الله به على العباد ؛ بل جعله لا يقلّ – من جهة الحاجة إليه – عن الطعام والشراب ؛ فقال تعالى – مُمْتنّا على الناس -ً : { فليعبدوا ربَّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف } ؛ وهذا الخطاب وإن كان موجّهاً لقريش ؛ فإن مدلوله يصحُّ في حقّ الناس جميعاً ؛ لأنّ العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب ، وهو من باب الربط بين نعم الله – تعالى – وموجباتها كما بيّن أهل العلم .
وليس الأمن أن يكون الناس بمنأى عن الخوف فحسب ؛ بل الأمن له معانيَ أشمل ، ومبانيَ أكمل ؛ يُستدل عليها بالنظر إلى واقع المسلمين المُعاش ، وأحوالهم الدّينيّة ؛ وهذا يلزمه – قطعاً – ردُّ الأمور إلى أهل العلم المجتهدين ؛ القادرين على النظر السليم في الوقائع ، وبيان أحكام الدّين ؛ ولا تترك لأهل الأهواء الذين هم للفتنة من القاعدين ، وللنصوص الشرعيّة من المتعدّين ، أو – عليها - من المُعْتَدِين .
فما الأمن اليوم ؟
إنّ الحقّ هو ما كان عليه أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلّم – ( سلفنا الأول ) ؛ هو السبيل الموصل إلى الله – تعالى – ربِّ العباد ، وطريق النجاة والرشاد ؛ وما عداه من السُبُل لا تجلب إلا الشّر والفساد ، ولا يكون منتهاها غير التفرق والتّحزّب والتناقض والتضادُّ .. قال الله - عزّ ذكره - : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
ولذا فأنْ تسود في ديار المسلمين دعوةٌ مبنيّةٌ على هذا الأصل لهو ( أمنٌ للناس ) من توغل ( المناهج الفكريّة ) المُنحرفة ، و ( جماعات الغلوِّ ) المُتطرّفة ، أو ( الأحزاب الجافية ) المُتعجرفة ؛ كتلكم التي نراها اليوم بيننا واقفة ، وعلى الفتنة ( متوافقة ! ) .
وأما العلماء فهم " ورثة الأنبياء " ، و ( بَلْسم الأمة ) والدواء ، وعلى خلق الله أمناء ؛ إنْ ( سادوا ) أفادوا ، وإنْ ( قادوا ) فمجد الأمة أعادوا ؛ توقيرهم عزٌّ وتمكينٌ وفخارٌ ، وتحقيرهم ذلٌّ وهوانٌ وشَنارٌ .
وعليه .. فإنّ وفرة أهل العلم ، وأخذهم المكانة اللائقة ، وان تكون لهم الكلمة السابقة ؛ أمنٌ للناس من الضلال عند تفشي الجهل والشبهات ، و وقاية من الانحلال حين انتشار المعاصي والشهوات ..
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما رواه البخاري وغيره : " إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ ؛ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا " .
ولذا فلا عجب أن يقول الحسن البصري – رحمه الله - : " موت العالم ثلمة في الإسلام ، لا يسدّها شيء ما اختلف الليل والنهار "
ولمّا سُئل سعيد بن جبير : ما علامة الساعة وهلاك الناس ؟ قال : " إذا ذهب علماؤهم "
قال عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – : " لا يزال عالمٌ يموت ، وأثرٌ للحق يُدرس حتى يكثر أهل الجهل ، ويذهب أهل العلم ، فيعمل الناس بالجهل ، ويدينون بغير الحق ، ويضلون عن سواء السبيل " .
وفي هذا ( العصر الإلكتروني ! ) وأحداثه المُتسارعة ، وظهور ( الإعلام العلمانيّ ! ) والمحطات الفضائية المُتصارعة ؛ ازداد الناس عن العلم بُعداً ، بل صاروا لأهله ضدّاً ؛ فتشتت العقول ومالت ، وضعُفت القلوب أكثر وماتت ، وتفرّقت الأمة وتعادت ؛ وما زاد الطين بِلّة والجسد عِلّةً : ظهور صُحف ومواقع إخباريّة ( إلكترونية ) لا ترقب في المسلمين ديناً ولا نعمة ، يبتغوننا الفتنة وفينا ( سمّاعون لهم ! ) ، مشّاءون معهم ؛ وقد – واللهِ – رأينا ما ( يُذيعون ! ) كلّ يوم من ( أخبار التهييج ! ) ، و ( أنباء ومقالات التعويج والتّحويج ! ) ؛ بما هو قريب – جداً جداً - من التهريج .. ! ؛ متذرّعين بحاجة الناس لمعرفة ( الحقيقة ! ) ، و للمعلومات ( الدقيقة ! ) ، مُتدرّعين لباس ( الإصلاح والتغيير ! ) ، ومتمتّعين بـ ( حريّة الإعلام والتعبير ! ) .
أما علموا أنّ ما أصابنا مما كسبت أيدينا من الذنوب .. فلِمَ – على بغض الأوطان – تحريضُ القلوب ؟
لِمَ .. وفينا .. وفينا - من العيوب - ما لا يعلمه إلا علّام الغيوب ؟
من أجل هذا ، ولـ ِ ( أمن المسلمين ) .. وجب علينا التصدّي لمثل تلك المواقع والصحف والمحطات الجائرة ؛ كلٌّ قدر وسعه واستطاعته ؛ أفراداً بعدم الالتفات لها ، أو الخوض معها ؛ وجماعات ومؤسسات وحكومات ببيان ( الضوابط الشرعيّة ) التي تحدّد أعمالها في بلاد المسلمين ، وبوضع العقوبات التي تحِدُّ من ظهورها وانتشارها .
ورأس ذلك كلّه : ردّ الأخبار والأنباء لأهل العلم العارفين بما ينفع الناس ؛ يقرّرون ما يصلح إذاعته مما يصح وقوعه ، وما ينبغي كتْمه ؛ قال الله – تعالى - : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً }
قال العلامة السعدي – رحمه الله - : " هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق ، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة ، والمصالح العامة ، ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين ، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم ؛ أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، أهلِ الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة ، الذين يعرفون الأمور ، ويعرفون المصالح وضدها "
قلت : فكيف بمن ينشر أخباراً كاذبة ( مفخّخة ! ) ، أوأنباءً عادية ( مضخّمة ! ) ، أو مقالات – بماء الجهل - ( مُضمّخة ! ) ؛ همّهم الإثارة التي تحرّك غبار الفتن ، وتحرّش بين المسلمين ؟
لمصلحة من هذا ؟!
أما ترون ما قد شَجَرَ بين المسلمين ، وما جرى فينا ؟ من يعجبه حالنا ؟
فأين ( الإعلام الملتزم ! ) بقواعد الدّين .. يبثُّ ما يحفظ جناب التوحيد ، وينشر صالح الأخلاق ، وما يرقق القلوب ، ويهدئ النفوس ، ويحبّب إلى الناس أوطانهم ، ويبيّن وسطيّة الإسلام وعدله وإحسانه ، ويقرّر منهج السلف الصالح مع الفتن والنوازل .. ذلكم الأمن .
***
إنّ استقرار الناس ، وحفظ أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ؛ من أهم مقاصد شريعتنا الغرّاء ؛ وهذا يلزمه - قطْعاً – هيبةٌ معتبرةٌ لحكم الدولة ، وبسط النظام فيها ؛ ويلزم لهذا وعي الناس وتعقلهم ، و - بأهل العلم - تعلّقهم ، وقوة حازمة عادلة ؛ وإنني – هاهنا – أسوق كلاماً حصيفاً فصيحاً للشيخ سعود الشريم – حفظه الله تعالى – يبيّن جانباً عريضاً من مفاهيم الأمن المنشود ؛ وبتصرف يسير لا يخلّ – إن شاء الله - بالمقصود ..
" في ظل الأمن والأمان تحلو العبادة ، ويصير النوم سباتاً ، والطعام هنيئا ً، والشراب مريئاً ، الأمن والأمان ، هما عماد كل جهد تنموي ، وهدف مرتقب لكل المجتمعات على اختلاف مشاربها.
بل هو مطلب الشعوب كافة بلا استثناء ، ويشتد الأمر بخاصة في المجتمعات المسلمة ، التي إذا آمنت أمنت ، وإذا أمنت نمت؛ فانبثق عنها أمن وإيمان ، إذ لا أمن بلا إيمان ، ولا نماء بلا ضمانات واقعية ضد ما يعكر الصفو في أجواء الحياة اليومية.
إطراء الحياة الآمنة هو ديدن كل المنابر، لما للأمن من وقع في حسّ الناس ، من حيث تعلقه بحرصهم على أنفسهم ، فضلاً عن كونه هبة الله لعباده ، ونعمة يغبط عليها كل من وهبها ولا غرو في ذلك.
وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من أصبح آمناً في سربه ، معافىً في بدنه ، عنده قوت يومه ؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها "
بضعف الأمن وانحلاله ؛ تظهر آثار خبث الشيطان ، وألاعيبه هو وجنده من الجن والإنس ، وإقعاده بكل صراط ، يوعد بالأغرار من البشر، ويستخفهم فيطيعونه ؛ فيبين حذقه وإغواؤه ، محققاً توعده بقوله : { لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـاكِرِينَ }
إن المزايدة على الأمن والأمان في مجتمعات المسلمين بعامة ، لهو مدعاة للسخرية والفوضى المفرزين للممارسات الشاذة والإخلال المرفوض بداهة، والمهدد لسفينة الأمان الماخرة ، كل ذلك غير مستساغ شرعاً ولا عقلاً، ولا قبول له تحت أي مبرر كان.
ومزعزع الأمن ومخلخله إنما هو بادي الرأي يزعزع أمن نفسه ووالديه وبقية أسرته، قبل أن يزعزع أمن غيره من الناس ".
قلت : ولا يُعتقد – لما قدّمت – أنني أنكر ما للأمن المادي من أهميّة في حياة الناس ؛ فتوفر الغذاء لهم ، وتحسين معايشهم ، والتقليل من البطالة ، وغير ذلك .. ؛ من الأمور التي تساعد على استقرار الطمأنينة في النفوس ، وتحِدّ من العداوات بين الناس ، وفشوّ الشرّ فيهم .
ولكن الذي ينبغي إدراكه أنّ هذا يأتي تَبَعاً بعد تحقيق الإيمان ، والتقوى والإحسان ؛ وليس أساساً .. تصرف كامل الجهود من أجله ، وتُنْذر كافة الوسائل لطلبه ؛ قال الله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ } ، بل إنّ النعم والأرزاق تمحق بالمعاصي والذنوب ، والبعد عن جادة الطريق ( سبيل المؤمنين ) ؛ قال تعالى : { ذلكَ بأنَّ اللهَ لم يكُ مغيّراً نعْمَةً أنْعمها على قومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم } .
من هنا كان مقتل ( كثيرٍ من دعاة الإصلاح ) - خاصّة الأحزاب الإسلاميّة - ؛ حين اختزلوا أسباب عزّة المسلمين وتمكينهم ، وأمنهم بالجانب المادي ؛ فوجّهوا جُلّ نشاطهم ، وكُلّ وقتهم و ( شطارتهم ! ) إلى مقارعة الحكومات ، و ( الضغط ! ) عليها بشتى الوسائل ، وربما لجأت إلى العنف والصدام معها ، أو التحريض بين الأخوة ؛ وحتى لو كان الثمن زعزعة أمن الوطن .. ؛ كلّ ذلك من أجل زيادة الرواتب – مثلاً - ، أو تخفيض الأسعار ، أو ... ، أو ... ! ؛ في وقت تغضّ الطرف فيه عمّا يفتقر إليه المسلمون من الأمن الفكري ، والإعلامي ، والأسري ، والاجتماعي .. فـ ( تشارك! ) ، وتتعاون مع غيرها في تحقيقه للأمة ؛ فهذا هو ( السبيل الصحيح ) ، وأكبر نعمة .
خاتمة :
يقول الله – جلّ جلاله - : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } ، وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنّ رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قال : " الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء "
فلتلهج ألسنتنا بالدعاء : ( ربّ اجعل هذا البلدَ آمناً ، وارْزق أهلَه من الثمرات )
وسائر بلاد المسلمين ..
والله الهادي إلى سواء السبيل