14-05-2013 05:09 PM
بقلم : د. إبراهيم بدران
الحديث عن الإصلاح السياسي والاقتصادي والإداري ينبغي أن لا يكون مقفلا على قطاع دون آخر، وموجها إلى الحكومة فقط. فهناك إصلاحات كبيرة وعديدة ينبغي أن يشرع بها القطاع الخاص، بتشجيع وتنظيم من الحكومة، ومشاركة فاعلة من غرف الصناعة والتجارة والزراعة والسياحة وغيرها من المؤسسات النوعية المتخصصة، حتى يستطيع هذا القطاع أخذ دور أكبر في الخروج من الأزمة الاقتصادية العامة،وحتى يكون جزءا من قاطرة النهوض الوطني.
وإذا كان متوقعا ومأمولا أن يكون الإصلاح عاماً وشاملاً، فإن البدء في إصلاح الشركات والتي يقترب عددها من (15) ألف شركة، لهو أهمية كبيرة، نظراً للدور الكبير الذي تلعبه في الاقتصاد الوطني. سواء كانت تلك الشركات مملوكة للحكومة أو للمساهمين أو كانت مساهمة عامة أو مساهمة خاصة محدودة. وكما هو في العديد من الدول فإن أموال المساهمين ممثلة بالأسهم ينبغي أن تعامل معاملة الأموال العامة فلا يجوز الاعتداء عليها أو المساس بها أو استغلالها أو سوء إدارتها.
فهناك أولا الشركات المتعثرة. إذْ الآلاف منها قد تراجعت أعمالها أو توقفت لأسباب مالية، مثل افتقاد السيولة، أو المديونية العالية، أو غياب رأس المال التشغيلي، أو غير ذلك.هذا إضافة إلى اضطراب الأسواق المجاورة نتيجة لعدم استقرار المنطقة وفوضى الحالة العربية؛ ما نتج عنه ظواهر سلبية ثلاث. الأولى: اضطرار الكثير من هذه الشركات لتخفيض إنتاجها، أو التوقف عن الإنتاج، وإيقاف أعمالها، وبالتالي تسريح العاملين لديها جزئياً أو كلياً؛ الأمر الذي يفاقم من البطالة ويبدد فرص التشغيل الجديدة التي يحتاجها المجتمع بدرجة عالية والثانية: تراجع قيمة الأسهم لهذه الشركات إلى مستويات هزيلة تقل أحيانا عن (10%) من قيمتها؛ ما يعني وضعها عرضة للشراء من أي مستثمر أجنبي كجزء من العمليات المالية الساخنة والثالثة: فقدان التواصل التكنولوجي والمهني مع السوق العالمي وبالتالي تراجع الخبرة التخصصية وتآكل رأس المال البشري الوطني.
وما تفعله الدول الحريصة على نموها الإقتصادي هو أن تجد حلولا عملية وسريعة لمشكلات هذه الشركات، كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية عام 2008، وبعد عملية الإنقاذ،تدخل الدولة في التفاصيل الإدارية والقانونية من أجل تحديد المسؤولية.
وهناك مؤسسات الإقراض المتخصصة التي تضاءل دورها. وكانت حكومة سابقة، أقرت للأسف، إلغاء بنك الإنماء الصناعي وبيعه إلى مستثمرين ليتحول إلى بنك تجاري عادي. وبذلك حرمت الصناعة من نافذة تمويلية متخصصة، أسوة بما هو معمول به في معظم بلدان العالم. وهناك مسألة الاقتراض الداخلي. إذ إن توسع الحكومات المتعاقبة في الاقتراض الداخلي دفع البنوك للتلكؤ والأحجام عن توفير التمويل للقطاع الخاص، أو فرض شروط مرهقة. الأمر الذي فاقم من أزمة السيولة لدى الكثير من الشركات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، فتراجعت أو توقفت عن العمل ومنها من ألغى مشاريع التوسع والإضافة.وهناك التراجع الإداري من جانب المؤسسات الرسمية والشركات. لقد أدى عدم اهتمام الحكومات بمساعدة الشركات على تجاوز أزماتها وفي حل مشكلاتها، إلى تشجيع الشركات عموماً على أن تنطلق في ادارة شؤونها بعيدا عن ضوابط الحاكمية الجيدة. ومنها من يتعامل بأموال المساهمين والتي هي جزء من الثروة الوطنية دون ضوابط كافية إلا في أضيق الحدود. فرواتب الإدارات العليا مثلا،لا تخضع لأية معايير علمية أو دولية. فترى مديراً عاماً في إحدى الشركات المتوسطة يتقاضى راتباً قد يصل إلى (10%) أو (15%) من مجمل الأجور والرواتب في الشركة التي يعمل فيها (200) شخص مثلاً. وليس هناك من علاقة بين مستوى الرواتب للإدارة العليا ومتوسط الرواتب للعاملين في الشركة أو متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الجمالي.
كل ذلك وغيره، يتطلب العمل على برنامج للإصلاح، لا بد وأن يشتمل على مفردات أساسية منها. أولاً: إعادة إنشاء بنك صناعي متخصص كمشروع مشترك بين الحكومة والقطاع الخاص لتمويل المشاريع الجديدة والقائمة، وفق شروط ميسرة وبخدمات تكنولوجية ومالية عالية المستوى. وتكون له فروع قوية في المحافظات. ويمكن أن تبدأ الفروع بصفة “نوافذ تمويلية خاصة” في عدد من البنوك القائمة. ثانياً: تكوين فرق من الخبراء الماليين والتكنولوجيين والاقتصاديين لدراسة أوضاع الشركات المتعثرة أو الضعيفة حسب قطاعاتها وتخصصاتها، وتقديم اقتراحات وبدائل للحكومة في كيفية مساعدة تلك الشركات على الخروج من أزمتها واعادتها إلى وضعها الطبيعي ثالثاً: وضع مدونة سلوك تلتزم بها إدارات الشركات ويعتبر الخروج عليها نوعاً من سوء الإدارة. ووضع الآليات التنظيمية والقانونية اللازمة لتطبيق معايير الحاكمية الجيدة رابعاً: تفعيل المشاركة التشاورية بين الوزارات المعنية والشركات ذات العلاقة من خلال مجالس مشتركة. خامسا إنهاء حالة التبعثر في مرجعية الشركات إزاء الوزارات والدوائر الحكومية، وهذا يستدعي الدولة لأن تضع رؤية واضحة لطريق النمو وتصنيع الاقتصاد ليكون دور الشركات واضحا فيها على ضوء تخصصاتها وإمكاناتها القطاعية.سادسا: إنهاء حالة (الفساد) أو التحيز التي أشار إليها البنك الدولي في تقريره الأخير، والمتمثلة بعدم تطبيق القانون بعدالة ودون تمييز على جميع الشركات.
لقد كانت واحدة من الإجراءات التي ساعدت ماليزيا على النهوض والتحوّل إلى دولة صناعية هي “الشراكة الحقيقية الإبداعية” بين القطاع العام والقطاع الخاص، أو ما اسماها مهاتير محمد في حينه، الشراكة الذكية. ونحن بحاجة إلى مثل هذه الشراكات في كل قطاع.
وبعد، فإن الإصلاح لا ينقصه المزيد من القوانين، ولكن تنقصه الرؤية الواضحة، والمواقف الجريئة، والإبداعات الإدارية والفنية، والخبرة الإدارية في تطبيق كل ذلك بكفاءة ونزاهة. إن الشركات الوطنية على مختلف تخصصاتها وأحجامها هي العمود الفقري للاقتصاد الوطني، وهي المؤهلة لتوليد فرص العمل الإضافية للخروج من أزمة البطالة الخانقة. وهي المؤهلة لتمويل المشاريع الجديدة وبناء الثروة الوطنية، والإفادة من الاستثمار في التعليم والتدريب بل وكامل رأس المال البشري في البلاد.. فهل يترك كل هذا في مهب الريح؟ أو تتعامل معه الحكومة بمسؤولية من يرى المستقبل ويعمل من أجله؟ تلك هي المسألة.