15-05-2013 01:01 PM
بقلم : د. إبراهيم بدر شهاب الخالدي
يكثر الحديث الذي يخالطه الزهو والتفاخر عن التعليم العالي في الأردن ، من حيث عدد الجامعات الذي يقارب الثلاثين جامعة بين رسمية وخاصة ، أو سيل الخريجين السنوي الذي يتزايد بمعدلات كبيرة ، أو تنوع التخصصات بين ضروري مهم وترفي غير مهم …إلخ. ونحن في الأردن مولعون بالأرقام كثيراً ، ونبالغ بالكم دون الكيف ، ولا نلتفت إلا لماماً إلى الجوهر أو المضمون أو النوعية. وأمام المغالاة في الاهتمام بالشكل دون المضمون ، أو طغيان الكم في نظرتنا على حساب الكيف ، فإننا بحاجة إلى وقفة مراجعة لما نحن فيه وما صرنا إليه ، ذلك أن اندفاعنا بالتوسع في التعليم الجامعي من حيث عدد الجامعات وتنوع التخصصات مع عدم ربط ذلك بحاجة السوق ، وتراخينا في ضبط معايير القبول في الجامعات مع تراخي معايير التقويم ومطالب التخرج فيها ، قد أوقعنا في أمرين خطيرين: الأول - تعاظم أرقام البطالة الهيكلية التي شبت عن الطوق ، وأخذت تقرع بعنف أجراس الأزمة على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي ، وربما يتجاوز الأمر إلى الصعيدين الآخرين الأمني والسياسي. والثاني - نوعية الخريجين وانعكاسه المباشر على واقعنا الاقتصادي والثقافي والتعليمي .
أما البطالة فقد تصدى لها الكثيرون واشبعوها بحثاً ودراسة ، وعقدت لها المؤتمرات وقدمت بين يديها التوصيات تلو التوصيات ، وما تزال هي الشغل الشاغل على كافة المستويات ، ولذلك فليست مدار حديثنا هذا. بيد أن الأمر الثاني ، ونعني به سوية جامعاتنا ونوعية الخريجين فيها هو محور هذا المقال ، رغم ارتباطه الوثيق بالحديث عن البطالة وحجمها ونوعيتها .
أما الجامعات فلا أحد ينكر أهميتها ودورها في إعداد الكوادر البشرية وتهيئتها لدخول سوق العمل ، واستلام الراية لمواصلة مسيرة البناء والعطاء ، كما لا ينكر أحد ما وصلنا إليه في هذا المجال ، فعدد الجامعات في الأردن في ازدياد ، وعدد الخريجين في ازدياد كذلك ، وقد ارتفعت نسبة الجامعيين في بلدنا بما يفوق نسبتها في الدول العربية الأخرى ، بل وفي بعض الدول المتقدمة أيضاً. بيد أن مرحلة الدراسة الجامعية-التي هي تتويج لسنوات عديدة من التعلم والتعليم والتدريب- وخطورتها وأثرها المباشر في مسيرة التقدم والبناء ، وتميزنا نحن في الأردن عن سوانا في هذا المجال ، يفرض أن تكون صورة جامعاتنا غير الصورة المشوهة التي هي عليها الآن. فالمطلع على واقع جامعاتنا من الداخل يصاب بالإحباط ، وينتابه شعور باليأس والأسى ، ذلك أنه يخال الجامعات الأردنية بلا استثناء وكأنها أماكن للهو والترفيه ، وملتقى العشاق والمراهقين ، ومعرض دائم لآخر تقاليع الموضة والأزياء والعطور والمساحيق ، مع ما يصاحب ذلك من سلوكات شاذة غريبة ، تميع فيها القيم ، ويهان العلم ، ويخدش الحياء ، وتنهار عوامل الضبط الذاتي وموانع الانزلاق والانفلات ، إلى جانب ظاهرة العنف التي تتميز بها الجامعات الأردنية دون سواها من جامعات العالم ، تلك الظاهرة التي شوهت سمعة بلدنا ونظامنا التعليمي والتربوي ، وهزت بعنف قيمنا الأخلاقية وثوابتنا الوطنية.
ومما يشجع على مثل هذه السلوكات الشاذة والمظاهر الشائهة أن معايير اجتياز الامتحانات الدورية والفصلية وبالتالي معايير التخرج في الجامعات معايير متداعية متهالكة ، تستند في أغلبها إلى أسس شخصية وعوامل غير موضوعية ، لا تحرسها النزاهة أو تقوى الله ، مع قلة الواجبات العلمية التي يكلف بها الطلبة ، حيث تقتصر متطلبات ( المادة أو المساق ) على مذكرة وجيزة من إعداد الدكتور مدرس المادة ، لا يلبث أن يحذف نصفها أو يعفي الطلاب من دراستها إرضاء لهم ، ورأفة بعقولهم الغضة ، وبناء لشعبية موهومة ، ولذلك تكتظ قاعات المحاضرات التي يدرس بها أمثال هذا الدكتور ، فهو قليل المتطلبات والواجبات ، عنده العلامات (بالكريكات) ، وغير معني بصورة جادة بالتوجيه العلمي والتربوي. وهي أمور تبعث – بجملتها- في نفوس الطلبة على الأمان والاطمئنان ، فالجميع في دار أبي سفيان ، من دخلها فهو آمن. ولذلك يميل الطلبة- والحال كذلك - إلى الانصراف عن العلم والجدية في طلبه إلى مثل هذه السلوكات والمظاهر السلبية المشار إليها ، حيث لا مبرر للانهماك في طلب العلم والمعرفة ودراسة المقررات والتحضير والمشاركة الفاعلة في المناقشات ، وكتابة التقرير والأبحاث والالتزام بحضور المحاضرات ، مادامت العلامة هي الغاية والنجاح مضمون وسبيل التخرج مأمون. وبذلك صار هناك متسع من الوقت لكتابة شعر الغزل وتبادل رسائل العشق والغرام ولقاءات الطوابق العلوية المسائية والخلوات غير الشرعية…وغير ذلك من وجوه الانحراف والفساد.
وكان من الطبيعي أن تنعكس هذه الأمور كلها سلباً على خريجينا ، فصرنا نجد بينهم أنصاف متعلمين ، وأشباه أميين ، وحاملي شهادات غير مؤهلين ، فترددت أصداء ذلك بوضوح في مدارسنا وفي أماكن العمل التي تستقطب هؤلاء الخريجين ، وفي كل مكان يذهبون إليه أو يعملون فيه . ففي المدارس كثرت شكاوى الطلاب من تدني مستوى مدرسيهم ومن ضعف شخصيتهم ، والأمثلة هنا كثيرة جداً ، ولا تكاد تخلو مدرسة من معلم أو أكثر يحمل شهادة هي أكبر منه ، وصار الكثيرون منهم محل تندر ومثار سخرية واستهزاء ، وفي المصانع والشركات والمؤسسات المختلفة يتساءل الناس هناك : هل هؤلاء المهندسون والموظفون هم خريجو جامعات؟! ألا تخشى الجامعات إن هي دفعت بأمثال هؤلاء إلى ميدان العمل وهم يحملون الشهادات الممهورة باسمها المزينة بشعاراتها أن يشوهوا سمعتها ويسقطوا هيبتها؟! وليت الأمر يقف عند مستوى الإجازة (البكالوريوس) إذن لهان الأمر ، ولكننا نجده بكثرة ووضوح فيمن يحملون درجة (الماجستير) والدكتوراة حيث يعم الهزال كافة التخصصات.
ومع غياب الفلسفة العامة والأهداف الاستراتيجية للتربية والتعليم في الأردن ، وتعارض ما يطرح من أهداف- كثيرة التعديل والتبديل- مع فوضى الإعلام المحلي الذي هو الآخر بلا رسالة وبلا أهداف وطنية أو مبدئية- ويحتاج إلى وقفة أخرى إلى جانب الوقفة التعليمية ، ومع كل ما سبق ذكره من تشويه مقصود وغير مقصود لرسالة التعليم ، انهار النظام التعليمي والتربوي برمته ، وصار الأمر إلى ما نحن عليه من واقع تربوي وتعليمي لا نحسد عليه. ولا غرو في ذلك ، فالتعليم عندنا يقدم مبتوراً بلا روح ولا عقيدة ، مندرس معالم الهداية ، منسلخ من القيم التي لا يمكن أن يسري إلا بها ولا يصح أو يصلح تطبيقه في واقع حياتنا معزولاً عنها.
وليس فيما نقول تجنٍ أو تحامل أو تشفٍ بما آل إليه واقع جامعاتنا ، أو جلد للذات- كما يقولون - ولكنها محاولة غيرى لتشخيص الداء وتعرية أسبابه ومسبباته ، ومن ثم تقديم النصيحة المخلصة لمن يعنيهم الأمر وبيدهم الحل ؛ لتدارك ما يمكن تداركه ، وطرح ما طرأ على قيمنا وثقافتنا ونظامنا من قشور فكرية مستوردة وأمراض دخيلة ، أقحمت في حياتنا على غفلة منا ، يتطلب الأمر وبإلحاح أن تُجتث قبل أن تستوطن وتتمكن ، فتستعصي على العلاج والحل .
والحديث عن الطلبة ومستواهم العلمي وأهليتهم للتخرج وبالتالي العمل بما تعلموا يقودنا- في إطار من شمولية النظرة وموضوعيتها- إلى الحديث عن الأساتذة والمدرسين في جامعاتنا الأردنية. فكما هو معلوم بالضرورة ، أن الطلبة كيفما كانوا أو كان مستواهم العلمي أو سلوكهم الأكاديمي هم صورة لمدرسيهم ، وإفراز طبيعي للجو الذي عاشوه داخل الجامعة-حيث البوتقة التي تنصهر فيها الأنظمة والتعليمات والمناهج وأساليب التدريس ووسائله ، والمعايير والثقافة التنظيمية بشكل عام ، وأهمها على الإطلاق المدرس الذي يستطيع بشخصيته العلمية المتوازنة ، وبما يملك من قدرات فكرية ، وما يحمله أو يختزنه من العلم والقيم والعقيدة ، أن يصوغ شخصيات الطلاب ، ويوجههم التوجيه الذي يريد .
ونحن لا ننكر أن جامعاتنا محظوظة بعلماء أجلاء وأساتذة عظام أسهموا برفد الفكر الإنساني بكافة ميادينه ومجالاته ، ولهم بصمات واضحة على الجيل الذي مرَّ تحت أيديهم ، وتعد كتبهم وأبحاثهم مراجع علمية قيمة للطلاب والدارسين داخل الأردن وخارجه ، وقد تجاوزت شهرة بعضهم حدود الوطن العربي لتبلغ أقاصي الأرض وآفاق الدنيا. بيد أن هذه النخبة من العلماء الأجلاء قليلة العدد ، كثيرة المشاغل والمهام والواجبات ، محبطة بما تلاقيه وتعانيه من التحيز والمحسوبية ونكران الجميل وإغفال الجهود ، والحرمان من المزايا التي يتمرغ بها غيرهم .
ولكن الذي ننكره هو وجود عدد كبير من المدرسين ممن تسللوا إلى جامعاتنا أو تم حشرهم فيها بفعل الواسطة ، تلك الآفة الاجتماعية التي أضرت كثيراً بنسيجنا الاجتماعي والوطني ، وحلت محل قانون الخدمة المدنية بكافة تعديلاته ، حتى باتت من التحكم والتمكين والخطورة بحيث تتهاوى أمامها محاولات الإصلاح اليائسة أو صيحات النذير غير المسموعة ، ولا تستطيع أية حكومة مهما حظيت بدعم أو تأييد أن تجتث هذه الآفة أو تخفف من سطوتها ، ولو حاولت ذلك لفقدت موقعها بسهولة ، علماً أن قانون الخدمة المدنية لا يجرؤ على الدخول إلى الجامعات الرسمية والمؤسسات العامة المستقلة على اختلافها ، فهي محصنة ضد عدوى هذا القانون ، ولذلك يتمتع مجلس إدارتها أو رئيسها التنفيذي بحرية مطلقة في تعيين من يشاء ، وابتعاث أو إعارة من يشاء ، وتقريب أو إقصاء أو تحجيم من يشاء .
ومع انعدام الرقابة على أداء المدرسين مع منحهم أو تمتعهم بالحرية المطلقة في التدريس واختيار المنهاج والتقويم والتحكم بمصائر الطلاب بلا رقيب ولا حسيب ، مال بعضهم – وبعضهم كثير- إلى الرخاوة والدعة ، فتكرر غيابهم بعذر أو دون عذر عن المحاضرات ، وأهملوا واجباتهم في تصحيح أوراق الامتحانات ومناقشة أبحاث الطلاب ، وصار الأمر إلى حال من الفوضى والفساد ، انسحبت آثاره على معظم الخريجين تقريباً ، وهؤلاء الخريجون بدورهم نشروا ذات القيم التي اكتسبوها من مدرسيهم في نفوس طلابهم في المدارس ، ومن يتعاملون معهم أو يرأسونهم في مواقع العمل المختلفة ، وبذلك عمت قيم اللامبالاة والاستهتار وانعدام المسؤولية أو تراخيها وشاعت ، وانحسرت قيم الولاء والانتماء والجدية والإخلاص إلى حدود ضيقة لا تتجاوز المصالح الشخصية والفئوية والحزبية .
ولا غرو في ذلك ، فكيف يتمثل قيم النزاهة والانتماء والإخلاص طالب مرد على تلك القيم ، واستمرأ الغش في الامتحانات ، أو حظي برعاية أستاذه الإقليمي أو الحزبي أو المصلحي ، فنجح وتفوق وتخرج محملاً بذات القيم التي انغرست فيه أثناء الدراسة؟! وهل يتوقع منه عكس ما تعلم وعايش؟! وإلا فمن أين جاءت مظاهر العبثية على كل صعيد ، فلا تكاد تخلو دائرة حكومية أو مؤسسة عامة أو سيارة حكومية أو حافلة إلا وآثار العبث واضحة في أركانها مشوهة لجنباتها .
إن فاقد الشيء لا يعطيه ، وهذا المثل يصدق في كثير ممن عرفنا من أمثال هؤلاء ، ذلك أن جل بضاعتهم رطانة مكسرة بالإنجليزية- وهم في الغالب عاجزون عن الحديث بالعربية الفصيحة- وحديث مكرور عن مغامراتهم في أمريكا أو دول الغرب عموماً ، وانزلاق سهل نحو السياسة وتحليل أحداثها ، وهكذا تمضي المحاضرات ويمضي الفصل الدراسي وهم يدورون بين أمريكا والسياسة ، والطلاب- بطبيعة الحال- يسرّون بمثل هذه الأحاديث ، وربما يتعمدون إثارة الأسئلة الجانبية لإشغال الدكتور السياسي أو المغامر الأمريكي عن موضوع المحاضرة ، فذلك يعفيهم أو يعفيه ولو جزئياً من واجبات الدرس والتفكير بمعطيات العلوم ونظرياتها وقوانينها ، ويقلل من حجم المادة المطلوبة للامتحان النهائي. ولا بأس فقد صار معيار التخرج في جامعاتنا هو( عد أيام وأحصل على الشهادة ، أو رخصة المرور بالجامعة ) .
ومع ضعف مقاييس الأداء وربما انعدامها أو صوريتها ، ومع غياب حقيقي لإجراءات إدارية حازمة ، ترتبط بنتائج التقويم ثواباً وعقاباً ، اطمأن هؤلاء المدرسون إلى ما هم فيه ، ففي دار أبي سفيان متسع للجميع ، ولذلك ثارت ثائرتهم عندما طرحت على صفحات الجرائد قبل أشهر فكرة تقويم الطلبة لمدرسيهم ، فانخلعت قلوبهم ، وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها ، وتحركوا بكل ثقلهم لإجهاض الفكرة قبل أن ترى النور . وفي يقيني أن هذه الفكرة إنما طرحت على استحياء ، وربما لقياس ردود الفعل ودرجة الديمقراطية في الوسط الأكاديمي . فأصحاب النفوذ المسنودون المتمترسون في مواقعهم لا يمكن تحريكهم ولو أجمعت كل التقارير على عدم صلاحيتهم أو أهليتهم للتدريس ، ذلك أن طبيعة نظامنا الاجتماعي وإرثنا الثقافي منذ ظلام الاستعمار حتى الآن لا يسمح بالمؤسسية ، وطبائعنا تأنف أن تتواضع للديمقراطية أو ترقى إليها. وهكذا تعودنا في كافة المواقع أن تسير أمورنا كيفما اتفق ، حتى لو كان مجتمع المؤسسة كله مجتمع مثقفين أو مجتمع النخبة أو تخرجنا في جامعات أمريكا أم الديمقراطية كما يقولون أو يزعمون.
ومما يجدر ذكره في هذا الصدد ، بعض الممارسات والسلوكات غير المقبولة في المجتمع الأكاديمي - وهي بطبيعة الحال ليست نزوات عابرة أو سلوكات نادرة ، إنها مشكلات مؤرقة وأخطاء جسيمة ، ويجيء معظمها نتيجة منطقية لما سبقت الإشارة إليه- كظاهرة تسريب أسئلة الامتحانات ، وظاهرة انتحال الأبحاث المميزة التي يقدمها الطلبة ونشرها بأسماء الدكاترة ، والإتجار بالمؤلفات ، وإكراه الطلاب على اقتنائها مباشرة أو عن طريق زملاء المهنة ، ضمن المبدأ التعاوني ( حكلي تحكلك ) ، ولا ضير ، فمؤلفات الدكاترة جزء من المنهاج ، أو يجب أن تكون كذلك وفق منطق ( الوظيفة الحلوب ). ومنها كذلك ظاهرة تقدير علامات الطلبة بناء على الانطباع العام أو المظهر أو الجنس أو اسم العائلة أو غير ذلك من العوامل الشخصية المحضة ، وقد يتواطأ بعض المدرسين الذين تربطهم علاقة ما ؛ لإفشال طالب مجد متفوق ؛ لأسباب تحددها هذه الفئة ، التي من بينها : توجه الطالب أو انتماؤه السياسي ، أو اتخاذه مواقف معينة لا ترضاها هذه الفئة. وإذا ما نشب خلاف بين الطالب وأستاذه لسبب ما- وخصوصاً فيما يتعلق بالعلامات- فإن حكم المدرس أو مزاجه الشخصي يأخذ الصفة القطعية ، ولا يقبل المناقشة أو الاستئناف ، ولا سيما مع غياب المرجعية المحايدة النزيهة التي يحتكم إليها مثل هذه الأحوال ، وغير ذلك مما يصعب حصره في مثل هذه العجالة .
هذه الحقائق وغيرها الكثير من الأمراض السلوكية والإدارية التي تعكس الواقع المر لجامعاتنا بلا استثناء ، باتت من الخطورة بمكان بحيث لا يجوز السكوت عنها أو تأجيل النظر فيها ، وهي تنذر بشر مستطير لا يمنعه إلا وقفة مراجعة جادة مخلصة لنظامنا التعليمي والتربوي برمته ، ينعقد لها مؤتمر وطني ، تكون غايته الإرتقاء بمستوى التعليم بشكل عام ، وتصويب مسيرة التعليم الجامعي بشكل خاص ، على أن تشمل مهامه تشخيص المشكلات التي يعاني منها بمنتهى الصراحة والشقافية ، والبحث في أسبابها ومسبباتها الداخلية والوافدة إليها من خارج الأسوار ، وصولاً إلى الخروج بقرارات ملزمة تنظم بصورة قانون شامل واضح لا لبس فيه ، بحيث يمثل الخروج عليه اعتداء صارخاً على العلم والقيم والوطن ، ويترتب عليه- دون مجاملة لأحد- فصل عضو هيئة التدريس إذا ثبت تورطه بإحدى السلوكات التي سبقت الإشارة إليها ، وإنذار الجامعة الخاصة أو سحب الاعتماد الخاص الممنوح لها. وفي هذا الإطار فإنني أقدم بعض المقترحات والأفكار لعلها تثري النقاش حول هذه القضية الحيوية ، أو تمهد الطريق لتصويب مسيرة التعليم الجامعي في بلدنا وتحسين صورته :
أولا- أن يستبدل أسلوب التقويم الحالي لمستوى الطلبة في كل مادة ، بحيث تشكل لجنة خاصة في كل كلية لهذا الغرض ، يناط بها مهام تصحيح أوراق الامتحانات وإعداد النتائج ، وتحاط أعمالها بالسرية التامة ، على ألا تظهر أسماء الطلبة على دفاتر الإجابة ، ويترك للدكتور مدرس المادة 20%من العلامة الاجمالية ، تقدر بناء على مجمل أعمال الطالب ونشاطه أثناء الفصل الدراسي ، ويكلف الدكتور بالإضافة إلى ذلك بإعداد أسئلة الامتحان النهائي وأجوبتها النموذجية ، على أن يؤخذ بهذه الأسئلة من حيث دقتها وشموليتها ومدى قياسها لمجالات المعرفة التي يتطلبها المساق ، بصفتها جزءاً من تقويم أداء الدكتور ، وأن يضمن ذلك في تقديره السنوي . وبهذا الأسلوب يتحرر الدكتور أو المدرس من مهام التصحيح وضغوط الطلبة والزملاء لرفع العلامات أو تعديلها من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإنه في ظل هذا الأسلوب لا يستطيع المدرس حذف ما يشاء من المادة التي يدرسها للطلاب ، أو أن يعفيهم من بعض الموضوعات المشتملة عليها ، سيما وأنه ليس له حرية تحديد حجم المادة المقررة ، فأمر ذلك متروك للقسم أو للجنة إعداد الامتحانات ، وبالتالي فإنه لا يستطيع الانزلاق نحو الموضوعات الجانبية أثناء المحاضرات ، فليس هناك متسع من الوقت لذلك ، ثم أن الطلبة أنفسهم سيضطرونه إلى الالتزام بشرح المادة بأكملها ضمن الوقت المحدد ؛ لأنها مطلوبة برمتها في الامتحان النهائي ، وفي هذا الأسلوب أكثر فائدة ، منها : العدالة في التقويم ، وإعطاء أهمية وهيبة خاصة للامتحان ، يجد لها الطلاب ويجتهدون ، وهو ما سيفضي إلى جملة آثار مرغوبة أيضاً أهمها : أن الطلبة سيعكفون بجدية على حضور المحاضرات وعدم تفويتها ، والمشاركة الفاعلة فيها ، وسيطرحون الأسئلة الجادة المتعلقة بموضوع الدرس ، وسيلجؤون إلى المكتبة للمطالعة والتحضير وكتابة الأبحاث والتقارير ، وهو ما من شأنه تعزيز ميول الطلبة نحو الكتاب والمطالعة ، وتمكينهم من مفاتيح العلم ، وبذلك تنتهي مظاهر الاستعراض والتسكع في جنبات الجامعة ، الأمر الذي سينعكس بجملته إيجاباً في سلوك الطلبة ومستواهم الفكري والعلمي .
ثانياً- العمل بصورة جادة على منع الاختلاط أو حصره في أضيق نطاق ، وذلك بابتناء جامعات خاصة للذكور وأخرى خاصة للإناث كما هو متبع في جامعات بعض الدول العربية والإسلامية ، وكما كان معمولا به في الأردن ، فيما كان يعرف بجامعة البنات الأردنية ، قبل أن تتحول إلى النظام المختلط ، وهناك بعض كليات المجتمع غير المختلطة كذلك ، وإذا تذرّع المعارضون لهذه الفكرة - وهم كثر بطبيعة الحال- بحجة عدم إمكانية ذلك أو لغاية في نفس يعقوب ، فالأردن قليل الامكانات شحيح الموارد ، وهو المشجب الذي تعلق عليه قرارات الرفض السهلة ، فإننا نطرح البديل الذي لا يملكون ذريعة لرفضه أو الالتفاف عليه ، وهو توزيع الطلبة والطالبات على فترتي الصباح والمساء أو تخصيص أيام السبت والإثنين والأربعاء للطلبة ، ويومي الأحد والثلاثاء للطالبات أو العكس ، وفق ما يتم الإجماع عليه. وهو نظام معمول به في بعض كليات المجتمع في الأردن حالياً ، وهو مناسب ومريح للطلبة ولذويهم على حد سواء .
ثالثاً- أن يعقد امتحان قبول تنافسي للطلبة الجدد بذات الطريقة التي يجري بها امتحان الثانوية العامة ، على أن تكون الأسئلة عامة ، تقيس الحد الأدنى المطلوب من المعرفة الذي يجب أن يحوزه كل طالب ، بما يؤهله لدخول الجامعة ، على أن يؤخذ بعين الاعتبار أن يتم احتساب نقاط محددة لمعدل الثانوية العامة ، ونقاط أخرى لإمتحان القبول ، وبناء على مجموع النقاط ، يتم قبول الطلبة تنافسياً وفق درجة استيعاب كل جامعة . وإذا ما اضطرت الجامعات لقبول بعض الطلبة بموجب قوائم الاستثناءات لسبب أو لآخر، عندها يصار إلى أحد أمرين أو كلاهما: الأول - أن يعطى المقبولون استثنائياً مواد دراسية عامة إضافية ؛ بهدف مساواتهم بنظرائهم الذين قبلوا تنافسياً . والثاني- إجراء امتحان تقويمي آخر لجميع الطلبة في آخر المرحلة الجامعية ، يسمى امتحان التخرج أو الامتحان الشامل- كما هو الحال في المسار الشامل الذي يتخرج بموجبه طلبة الماجستير وطلبة كليات المجتمع .
رابعاً- أن يعقد امتحان تعيين لاختيار عضو هيئة التدريس ، وتجرى له مقابلة ذات أهداف واضحة وبنود محددة وموحدة ؛ للتأكد من مخزونه العلمي ، ومعرفته بأساليب التدريس ، وقدرته على الحديث باللغة العربية الفصيحة والتعليم بها ، وسلامة نطقه وحواسه ، وسلامة توجهه الفكري والعقدي ، وانسجام ذلك مع فلسفة الجامعة وأهدافها الوطنية. وهو ما يستوجب إلغاء ظاهرة الحشو بالواسطة ، والتصدي بحزم لهذه الظاهرة بصورة عامة ، وفي مجال التعليم العالي بصورة خاصة .
خامساً – أن يتم تقويم أداء أعضاء هيئة التدريس بأسلوب تعدد جهات التقدير ، على أن يعطى للطلبة 50%من العلامة الاجمالية و20% للزملاء في القسم ، ويترك لرئيس القسم 30% منها. وفي يقيني أن هذا الأسلوب أقرب للدقة والعدالة ، وأبعد عن التحيز والمحاباة ، ولا سيما إذا ارتبطت نتائج التقويم بحوافز وروادع مناسبة .
سادساً – العمل بصورة جادة لربط الإعلام بالتربية والتعليم في إطار ثقافة الأمة وعقيدتها ، وتوحيد السياسات في هذين المجالين ، وردم الهوة بينهما ، حيث يقتضي المنطق الحضاري عدم انفصالهما عن بعضهما ؛ وإلا كانت جميع الخطط والاستراتيجيات المجزأة حبراً على ورق ، وسحائب صيف لا تلبث أن تنقشع ، ولو حشدت لكل منها أقصى الجهود ، وأغدقت في سبيلها الأموال والثروات .
وبعد ، فأن هذه المقترحات لو قيض لها أن ترى النور في رحاب جامعاتنا ومعاهدنا ؛ لتغير الحال إلى حال أفضل منه بكثير ، وأنا على مثل اليقين أن هذه الأفكار ، متى تم تبنيها بجدية وحزم ، وخلصت لها النوايا والنفوس ، لهي كفيلة بجعل خريجينا علماء متميزين بالعلم والأخلاق ، ولتهافتت دول كثيرة على استقطابهم في مدارسها ومؤسساتها ؛ لأنها حينئذٍ ستطلب الأخلاق مزينة بنور العلم ، أو العلم متوجاً بالأخلاق ، ولغدا الأردن الصغير بحجمه كبيراً بأبنائه ، متميزاً برسالته وعطائه ، وبذلك نحل جزءاً من مشكلة البطالة المزمنة وما تسببه من مشكلات متولدة عنها أو مفضية إليها .
Ibrahi_60@yahoo.com