28-05-2013 12:14 PM
بقلم : د. خالد الخلفات
( لي كوان يو ) هو أولُ رئيسٍ للوزراء في سنغافورة بعد الاستقلال ، الدولةُ التي نشأتْ في القرن الماضي ، على مساحةٍ تُقَدَّرُ ب(640كم مربع )، وظهرتْ بقوةٍ وعقلانيةٍ ووعيٍ في أسيا_ رغم قلة مواردها الطبيعية - على يدِ هذا الزعيم، الذي رسمَ سياستها وقوتها الاقتصادية والمالية، وعاشتْ وبقيتْ محافظةً على هذه القوة ، وسطَ دولٍ كبيرةٍ في مساحاتها ومواردها واقتصادها وجيوشها .
تذكرتُ هذا الرئيس عندما كنا قبل سنوات نحلمُ بأن يكون الأردنُّ هو سنغافورة في الشرق الأوسط .
كتب هذا الرئيسُ مذكراته ليستفيدَ منها السنغافوريون ، وقدمها هنري كيسنجر ، وكتب في المقدمة عن ( لي كوان يو) : "كانت رؤيته تتمثلُ في إقامة دولةٍ لا تقدر على البقاء فقط ؛ بل تسودُ وتفوز وتتفوق ، ولسوف يعوّض التفوق في الذكاء والانضباط والإبداع عن غياب الموارد"
وتحدّث(لي ) عن هموم دولته حين نشأت، وكان اهتمامه الأولُ الاعترافَ الدوليّ بسنغافورة وعضويتها في الأمم المتحدة ، ثم كيف يجعلُ هذه القطعة من الأرض واحةً للأمن النظام ، حين خرج المستعمر البريطاني منها .وقرّر في هذه اللحظة ألّا يتبنّى عقلية الغير في الاعتماد على المعونات الخارجية وصندوقِ النقد الدوليّ ، وغيرها من دول الدعم والابتزاز ، وقالَ في مذكراته: ( كنتُ مقتنعا بأنَّ على شعبنا ألا يتبنَّى ذهنيةَ الاتّكالِ على المعونات ، فإذا ما أردنا النجاحَ علينا الاعتماد على أنفسنا ) .
ثم كانت رؤيته الأخرى ترسيخَ معايير العالم الأول في ميادين التعليم والصحةِ والأمنِ والاتصالاتِ والمواصلات ، فإذا ما توفَّرت هذه الأمورُ ، فستكون سنغافورة واحةً جاذبةً للمستثمرين ، وتنفيذاً لفكرتهِ في جذبِ المستثمرين ، رأى أن أحسنَ وسيلةٍ لإقناعِهم بالاستثمار في سنغافورة ، هي التأكدُ من أنَّ الشوارعَ المؤدِّية من المطارِ إلى فنادقِهم ومكتبي نظيفةٌ ومرتبةٌ، تحفُّها الأشجارُ والخضرة ، وكلّ ما يحتاجه المستثمرُ الزائر ؛ فيأخذ انطباعاً عن السنغافوريين ،أنهم شعبٌ كفءٌ ومنضبطٌ وأهلُ ثقة .
أما عن كيفيةِ اختيارِه لرجالِهِ ، الذين سيعتمدُ عليهم في إدارة الحكومة ، فذكر أنَّه اختارَهم من أهلِ الاستقامةِ والأمانةِ والذكاءِ ، والمبدعينَ في التنفيذ والانجاز ، واختارَ من الطلاب المبدعين، والشباب اللامعين من سيكونونَ علماءَ سنغافورة في المستقبل ، ولهذا أرسلَهم ليواصلوا تعليمَهم في أشهرِ الجامعاتِ في الدول الغربية ، فجعلهم - عند عودتهم- خبراءَ ومستشارين لكبرى الشركات السنغافورية .
ومن أجلِ توفيرِ الأمنِ والاستقرارِ لشعبهِ ، حرصَ على أنْ يكونَ لكلِّ مواطنٍ حصةٌ في الوطنِ ومستقبله ، من خلال توفيرِ مسكنٍ وبيتٍ له مهما كلَّف ذلك من ثمن، حتى لا يكونَ هناك مجتمعٌ طبقيٌّ ، (أصحاب قصور وفلل وأصحاب خيم ).
أما عن الفسادِ الماليِّ والإداريِّ ، فقد تحدَّثَ عن أنَّه حين وصلَ إلى السلطةِ بعد حكومةِ ( ليم هيو هوك ) ، التي حكمتْ في الفترةِ من سنة 1956 -1959م ، كان همُّه الأولُ بعدِ الفسادِ، الذي كان متفشِّياً في البلد ، أن يكونَ لديهِ إدارةٌ نظيفة ، يقولُ : ( آلمنا طمعُ وفسادُ وانحلالُ العديدِ من الزعماءِ الآسيويين . لقد تحوّلَ المقاتلون في سبيل الحريَّةِ ، والمناضلون لإنقاذِ شعوبهم المضطهدةِ إلى زُمَرٍ من الفاسدين، الذين يبذّرون ويبدّدون ثرواتهم . وعقدْنا العزمَ على التخلُّصِ من الحكمِ الاستعماريِّ ، لكننا شعرْنا بالاستياءِ والخجلِ من الزّعماءِ الوطنيين الآسيويين، الذين أدّى فشلَهم في تطبيقِ مُثلِهم العُليا إلى إزالة غشاوةِ الوهمِ عن عيوننا).
وعندما حلفَ اليمينَ مع حكومتهِ في احتفالٍ أُقيمَ في قاعةِ مجلسِ المدينة سنة1959م ، لبس هو ووزراؤهُ ثياباً بيضاءَ ،في إشارةٍ رمزيةٍ إلى النقاءِ والطهارةِ والأمانةِ في سلوكِهِم الشخصيِّ وحياتِهم العامّة .
وكإجراءٍ عمليٍّ تطبيقيٍّ لمنعِ الفسادِ المالي، قال : (تأكَّدْنا منذُ اليومِ الذي استلَمْنا فيه الحكمَ في سنة 1959م، أنَّ كلَّ دولارٍ من العائدات، سوف يُسجَّلُ ويصلُ كلّه إلى المحتاجين على مستوى القاعدةِ الشعبيةِ ، دونَ أن يُقْتَطَعَ منه شيءٌ في الطريق إليهم . وهكذا ..).
ثم نفَّذَ (لي كوان يو ) عام 1960 مبدأ " من أينَ لكَ هذا ؟" (أي السماحُ للمحاكمِ بالتعاملِ مع البيِّناتِ ، التي تثبتُ أنَّ المتَّهمَ يعيشُ حياةً تتجاوزُ حدودَ إمكانيَّاته الماديّة ، أو أنَّه يملكُ عقاراً لا يسمحُ دخلَهُ بشرائهِ ، كدليلٍ دامغٍ على أنَّه قَبِلَ أو تقاضَى رِشوةً . )
وكانت نتيجةُ هذا المبدأ أن أُدينَ عددٌ قليلٌ من الوزراءِ وكبارِ رجالِ الدولةِ ، بمعدَّلِ واحدٍ في كلِّ عشرِ سنواتٍ بتلقِّيهم الرِّشا ، ومنهم وزيرُ التنمية الوطنية حين اتُّهِمَ بأخذِ رشوة، وطلبَ من رئيسِ الوزراءِ أنْ يقابلَه ، فرفضَ ذلكَ حتى ينتهي التحقيقِ معه من قبلِ القضاء، وبعد أسبوعٍ من هذا الطلب، وُجِدَ متوفِّياً في بيتهِ ، تاركاً رسالةً خاطبَ بها رئيسَ الوزراء ، يقول فيها " رئيسَ الوزراء : تملَّكني شعورٌ بالأسى والاكتئابِ طيلةَ الأسبوعين الماضيين ، أحسستُ بأنني مسؤولٌ عن هذا الحادثِ المشؤومِ، ( أخذِ الرشوة)، وأنَّ عليَّ تحمُّلَ المسؤوليةِ كاملةً ، وبوصْفي رجلاً شرقيّاً نبيلاً وشريفاً، أشعرُ أنَّ من الحقِّ أنْ أُنْزِلَ بنفسي العقوبةَ القصوى على خطأي )
دولةَ الرئيس الدكتور عبد الله النسور ، أبعثُ إليكَ هذهِ الرسالةِ دونَ تعليق ، مع شكري وتقديري.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته