06-06-2013 11:23 AM
بقلم : د. إبراهيم بدر شهاب الخالدي
تعني الحكومة الالكترونية فيما تعنيه استخدام الوسائل والتقنيات الالكترونية في أداء أعمالها ومتابعة نشاطاتها المختلفة بما يسهل على المواطنين إنجاز معاملاتهم بأقصى سرعة وأيسر سبيل ، ويرفع عنهم الجهد والمشقة في الاصطفاف في طوابير طويلة ولساعات عديدة للحصول على معلومة أو لإنجاز معاملة .
بيد أننا في الأردن كثيرا ما نتبجح بإنجازات وهمية وسلوكات مثالية لا تسعفها حقائق الواقع ، ولم نجد لمثل هذه الأوهام والمثاليات رصيدا في حياتنا ، وربما يكون هذا التبجح انعكاسا لواقع مر نسعى للانعتاق منه أو تطويره ، وكلما كان الواقع مّرا شديدا كان الحديث عن المثاليات حلوا لذيذا .
بدأت تجربتي في الشهر الماضي ، حيث اضطررت إلى استخراج مخطط موقع وسند تسجيل لقطعة أرض تملكتها بالميراث ، وذلك من أجل إيصال الكهرباء إلى بيت كان أقيم عليها ، وقد راجعت البلدية لهذا الغرض فطلبوا مني إحضار المخطط وسند الملكية وإذن إشغال الكهرباء ، وهو ما اضطرني إلى مراجعة دائرة الأراضي والمساحة . ولأنني منذ زمن بعيد لم أراجع هذه الدائرة فقد فوجئت بعدد كبير من كتبة الاستدعاءات ( وكتبة الاستدعاءات مظهر يتنافى مع التطور الإداري المزعوم ولا سيما في عصر المعلوماتية والإنترنت وما يسمى بالحكومة الإلكترونية ) حيث لا بد لك من الوقوف أمام كاتب الاستدعاءات للحصول على استدعاء يسمح لك بالبدء بماراثون المعاملة .
فلما دلفت إلى البهو الكبير في الطابق الأرضي للدائرة وجدتها تغص بالمراجعين الذين يتزاحمون على نوافذ الخدمة ويتدافعون ويتصايحون ، فتسمع بين الحين والآخر أصوات انفعالات وشتائم بين المراجعين بسبب عدم التزام بعضهم بالدور، هذا فضلا عن الاتهامات المتبادلة بينهم وبين الموظفين الذين يجلسون خلف الشاشات الالكترونية ، بسبب بطء إنجاز المعاملات والفوضى التي تشهدها الدائرة .
وبسبب هذه الحال وما يرافقها من انتشار الدخان المتصاعد من أفواه بعض المراجعين ومن سجائرهم لا تستطيع أن تقف بالدور ؛ لأنه لا يوجد دور أصلا . فليس هناك تنظيم أو حواجز تلزم المخالفين بالانتظام ، فتبحث عمن تعرفه من الموظفين لعله ( يدحش ) لك المعاملة في الفتحة الزجاجية التي تفصلك عن الموظفين ، وتنادي على الموظف الذي لا يسمعك بسبب المعارك الطاحنة التي تدور حوله ، فتفقد أملك في إنجاز المعاملة . وبعد طول انتظار وتدافع يقول لك الموظف – لا فض فوه : راجع شباك رقم (4) في الطابق الثاني .
وفي الطابق الثاني وجدت معارك أشد ضراوة من معارك الطابق الأول ، ولكني بحمد الله وصلت إلى الموظف المعني بعد جهد جهيد وعراك شديد ، بيد أني لم أكد أشعر بفرحة الوصول إلى بغيتي حتى فاجأني الموظف بخطأ في اسمي الوارد في حجة الإرث ، إذ جاء اسمي ابرهيم بدون الألف الوسطى ، وهو مخالف لما جاء في البطاقة الشخصية ، فطلب مني مراجعة المحكمة الشرعية وإحضار وثيقة تدعى حجة تصحيح .
وهناك طلبوا مني الذهاب إلى دائرة الأحوال المدنية للتأكد من تطابق الاسمين . وفي الدائرة المذكورة فوجئت بمعارك مماثلة لتلك التي تدور رحاها في دائرة الأراضي ، ومع ذلك يسر الله لي من أعرفه فساعدني في طلبي ، وفي اليوم التالي عدت إلى المحكمة الشرعية من جديد ، فأشار إلي رئيس الكتاب بضرورة مراجعة القاضي .
ولما لم أجد القاضي في مكتبه طلبوا مني الانتظار مع المنتظرين ريثما يحضر القاضي بعد قليل، وطال هذا القليل ، واستمر الانتظار من الساعة الثامنة حتى العاشرة صباحا ، فلما حان موعدي لمقابلته طلب إلىَّ إحضار شاهدين . ويبدو أنه لا يثق بما دوَّنه موظفو دائرة الأحوال المدنية ، فلا بد لتوكيد المعلومة من شاهدين . فهبطت السوق لعلي أعثر على من أعرفه فيعرِّف بي لدى المحكمة ، فعثرت على واحد منهما ، وكلي أمل أن أعثر على الآخر قبل نهاية الدوام . ولما تكرر مروري على مكاتب الموظفين ورأوني مضطربا حيرانا تعاطف أحدهم معي ورق لحالي إذ رآني أدور في المحكمة دون طائل ، فاستأذن أحد المراجعين للشهادة لي والتعريف بي ، ولكنه لا يعرفني ولا أعرفه ، ولا يعرف على ماذا يشهد ، بل اقتصرت شهادته على مجرد تقديم بطاقته الشخصية للموظف المعني ، فدوَّن اسمه في وثيقة التصحيح وحسب. ( هذا معنى الشهادة عند المحكمة الشرعية ولا أدري ما الحكمة من الشهادة بهذا الأسلوب ، وكيف يسمونها شهادة ) .
وعدت مسرعا بوثيقة التصحيح إلى دائرة الأراضي ؛ لأدخل في معركة الزحام والتدافع من جديد، فلما وصلت إلى الموظف المعني وسلمته الأوراق المطلوبة قال لي : عد إلينا في الأسبوع القادم تجد معاملتك جاهزة . وتمطط الأسبوع وتمغط ليصبح ثلاثة أسابيع من المراجعات والتسويفات حتى انتهى الماراثون البيروقراطي الإلكتروني .
هذه الحالة تلخص المعاناة التي يتعرض لها المواطن المغلوب على أمره ، ويدفع ثمن غلطة موظف مستهتر وربما لا يعرف القراءة والإملاء ، فوضع في غير موضعه الصحيح ، حيث لا حساب ولا عقاب لمن يخطئ في مثل هذه الأمور ، وهو سر التسيب الإداري والتخلف الذي تعانيه معظم المؤسسات الحكومية في الدول النامية عموما.
ونعود إلى أول الحديث . أين الحكومة الالكترونية التي نتبجح بها ليل نهار ؟ أهي في الأحلام أم في الآمال ؟ أم هي مجرد شعارات نتغنى بها ليل نهار؟ .. ليست الحكومة في الأجهزة الالكترونية والمعدات والإمكانات ، إنما تكمن في فقدان السلوك القويم والأخلاق الحميدة والعقول النيرة ، والرقابة على أداء الموظفين وسلوكهم ، ومتابعة ذلك تحت طائلة المساءلة والعقاب . كان يمكن تخفيف معاناتي ومعاناة أي مراجع بمجرد الضغط على أزرار الحاسوب للتأكد من الاسم خلال ثوان معدودة ، لو وظِّف الحاسوب للغايات الإدارية التي صرف من أجلها ! بيد أن البيروقراطية عندنا ممتدة ومتجذرة إلى درجة أنها طوعت الحواسيب الإلكترونية لخدمتها . فلم يعد الحاسوب وسيلة لتسهيل العمل واختصار الوقت ودقة الإنجاز ، بل أصبح في أيدينا أداة بيروقراطية للتسلية والتعطيل والتأجيل .