25-06-2013 11:57 AM
بقلم : د. إبراهيم بدر شهاب الخالدي
الحديث عن الفساد الإداري والمالي بكافة صوره وأشكاله يأخذ حيزا كبيرا من اهتمام الناس ، ولا سيما أولئك الذين هضمت حقوقهم وحرموا من الدفاع عنها أو المطالبة بها ، وعندما تشتد وتيرة الحديث عن الفساد تقوم في بلدنا بين فترة وأخرى مؤسسة رسمية لمكافحته ، ولكنها لا تلبث أن تتبقرط فتتعثر ثم تفشل في التصدي للمهمة المنوطة بها ، ثم ترتفع الأصوات من جديد مطالبة بمؤسسة أخرى .. وهكذا !
ويبدو أن تلك المؤسسات المتعثرة تفتقر إلى الجدية اللازمة للعمل ، وهي بالتأكيد أضعف من أن تواجه غول الفساد ؛ ذلك لقوة سلطانه وتغلغله في كل المجالات ، وتعدد صوره وأساليبه ، ولأن تلك المؤسسات واللجان المنوط بها مهمة مكافحته غير مستقلة من الناحية الفعلية ، وإن بدت بخلاف ذلك . فما يزال الفساد يستشري ويترعرع ويعبث بمقدراتنا وقيمنا وسلوكنا وأعصابنا ، تظهر آثاره لدى بعضهم في صورة المناصب الرفيعة ، والأرصدة المالية الضخمة ، والسيارات الفارهة ، والبنايات الشاهقة ، والكروش المندلقة .
وفي يقيني أنه لن يتم القضاء على الفساد أو قطع دابره إلا بزرع الخوف في قلوب الفاسدين ، وإحكام الرقابة على أعمالهم وقراراتهم وأموالهم ، ثم باتخاذ الإجراءات الدقيقة في ترصُّدهم والعقوبات الحاسمة في ردعهم وتأديبهم وتأديب غيرهم من ضعاف النفوس بهم ، وذلك ضمن منهج متكامل لمكافحة الفساد أو منعه أو وأده في بواكيره . يتلخص هذا المنهج في تصورنا بالنقاط التالية :
أولا- إشراك المواطنين في جهود محاربة الفساد ، فهم العين الأمينة القريبة والمتضررة بالدرجة الأولى ـ بمعنى الطلب من كل مواطن مخلص متضرر أو مطلع أو مهتم بمحاربة الفساد سواء أكان من الموظفين في دوائر الدولة أم من غير الموظفين تقديم التقرير أو توصيل المعلومة أو تقديم الشكوى إلى الجهة المعنية بمحاربة الفساد ( دائرة مكافحة الفساد أو لجنة مكافحة الفساد ) وتوفير الحماية اللازمة لكل مواطن شريف أو متظلم يقدم معلومة أو يدلي بشهادة أمام لجنة مكافحة الفساد ، ولا بأس بتقديم المعلومات عبر الإنترنت أو الناسوخ ( الفاكس) أو البريد العادي أو بالحضور شخصيا وبصورة مباشرة . يصحب ذلك تقديم مكافآت أو حوافز مجزية لكل مواطن يكشف عن حالة فساد أو خلل إداري أو استغلال وظيفي ، أو تلاعب مالي أو اختلاس أو واسطة أو محسوبية ، سواء في مجال التوظيف أم الابتعاث أم النقل أم إحالة العطاءات الحكومية أم التصرف بالأموال العامة على وجه غير مشروع ، أو أية أعمال إدارية عامة توحي بالسلوك غير المنضبط أو التصرف المخالف للقانون والنظام ، على أن يدعم شهادته بوثائق أو صور أو شهود أو أي دليل يثبت به صدق دعواه . ولكن لا بد أن يقابل ذلك وبوضوح عقوبات مغلظة رادعة تنزل به إذا ثبت زيف ما يدعيه أو كذب ما جاء به ، بقصد إثارة البلبلة أو اغتيال سمعة الموظفين أو الطعن في أمانتهم ؛ كي لا تكون أعراض الناس وكرامتهم محلا لتصفية الحسابات الشخصية ، أو حرما مستباحا تلوكه الألسنة بدون رادع من خلق أو ضمير أو سلطان ؛ ذلك أنه لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم ، لكن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر .
ثانيا- الطلب من كافة المؤسسات العامة والدوائر الحكومية إرسال صورة أو نسخة عن الشروط والمواصفات التي يتم بموجبها التعيين أو الايفاد أو الإبتعاث أو النقل أو الشراء أو إحالة العطاءات أو التعهدات .. الخ ، إلى لجنة مكافحة الفساد قبل الشروع بالعمل أو توقيع العقود والاتفاقات أو الإعلان عن نيتها في تنفيذ ذلك ؛ لتتم مساءلتها بموجبها ، والتأكد من مشروعيتها وانسجامها مع مطالب التوظيف أو قانون الخدمة المدنية أو نظام اللوازم العامة أو أي قانون معني بالواقعة ، مع تبيان مدة العرض ، وضرورة أن يسبق التنفيذ إعلان ينشر في الصحف اليومية بمدة كافية ؛ ليتمكن الراغبون في الترشيح للوظائف أو البعثات أو الإشتراك في العطاءات من الإطلاع عليها والاستعداد لها . ذلك أن ما يجري العمل به الآن هو حصر مدة الإعلان بيوم أو يومين ، وغالبا ما يكون ذلك في العطل الرسمية أو الأسبوعية ، فتفوت الفرصة على الراغبين في التوظيف أو الابتعاث أو الاشتراك في العطاءات ، في حين يتم إعلام المحاسيب والمقربين مقدمي الرشوة بوقت كاف وبصورة شخصية وسرية . وفي كثير من الأحوال تعقد امتحانات وهمية للتوظيف لتغطية جريمة توظيف شخص بعينه ، عندها لا يستطيع الآخرون التأكد من نتائج الامتحان أو نزاهة الإجراءات . فقد نجح فلان واستلم المنصب ، وحظا أوفر للراسبين .
ومغزى إرسال الشروط قبل التنفيذ ذلك لتطلع عليها لجنة مكافحة الفساد للغرض المشار إليه أعلاه ، وتلافيا لإقحام شروط لا مبرر لها ولا علاقة لها بمطالب التوظيف أو الإبتعاث أو العطاءات ، يتم في الغالب اختيارها بعناية ، بقصد تفصيل الوظائف والبعثات لأشخاص بأعيانهم ، بما يحول دون استفادة المؤهلين منها أو المستحقين لها .
ثالثا- إلزام الشركات والمتعهدين الذين ترسو عليهم مناقصات تنفيذ العطاءات الحكومية المختلفة بضرورة الحصول على وثيقة مصدقة من لجنة مكافحة الفساد تسمح لهم المباشرة بالعمل ، على أن تضمن تلك الوثيقة في ملف الاتفاق الذي يتم بموجبه التنفيذ ، وإلا يعتبر الاتفاق باطلا ، ولا يحق للمتعهد المطالبة بالحقوق أو الحصول على الضمانات في حال وقوع خلاف بينه بين الجهة الحكومية صاحبة العلاقة ، ولا تقبل الدعوى التي ترفع من قبله أمام المحاكم ، ما لم يحصل على تلك الوثيقة التي تجيز له تنفيذ الاتفاق وفق الشروط المقدمة .
رابعا – التحقيق الفوري والمباشر مع الجهة المتسببة في الفساد أو التي تمارس نشاطات المحسوبية والواسطة ، وإنزال العقوبات الرادعة بحقها ، كالفصل المباشر والنهائي من الوظيفة لكل من طالب الوظيفة ووسيط الفساد إذا كان على رأس عمله ، أو تغريمه أو حرمانه من مكافأة نهاية الخدمة إذا كان على وشك التقاعد ، أو أية عقوبة تراها اللجنة مناسبة للفعل الشائن . وعدم قبول شهادتهما في المحاكم ، وعدم قبول ترشيحهما للإنتخابات ، سواء منها الانتخابات النيابية أم البلدية أم النقابية .. الخ . وعدم منحهما حق التصويت ؛ لأنهما لن يعطيا صوتيهما إلا لفاسد مثلهما ، ومراجعة أصول الفاسد المالية وممتلكاته ، فربما يكون قد جمعها بطريقة غير مشروعة ، وعندها سيكون الجزاء بأثر رجعي .
خامسا- الإعلان في الصحف اليومية عن العقوبات المتخذة بحق الفاسدين ؛ كي يطمئن المواطن إلى جدية الحكومة في محاربة الفساد ، ويثق بما تتخذه من قرارات في هذا المجال وما تنشئه من مؤسسات ولجان .
بمثل هذا المنهج في رأينا يمكن القضاء على الفساد وقطع دابره ، أما المحاربة أو لمكافحة بمجرد إعلان النوايا دون الإعداد الكافي لذلك أو اتخاذ التدابير الوقائية المصحوبة بالجدية اللازمة والقرارات الجريئة الحازمة فلن تجد معها لا المؤسسات المعنية بمحاربة الفساد ولا مواثيق الشرف الحالمة .
ibrahi_60@yahoo.com