16-07-2013 12:41 PM
بقلم : د. إبراهيم بدر شهاب الخالدي
تعكس الوحدة الوطنية متانة الجبهة الداخلية للدولة ، وقوة عوامل التماسك الاجتماعي فيها ، وتمثل أعظم صمام أمان لها من التفسخ والانهيار ، وحصناً منيعاً تقوى به في مواجهة أعدائها ، كما تفرض به هيبتها ومكانتها بين الدول . وتظهر متانة الجبهة الداخلية في سلوك الأفراد والجماعات على حد سواء ، بما يقوم بينهم من صلات تعكس المحبة والاحترام والوئام ، والاعتراف بحقوق الآخرين وحرياتهم ، وحرصهم على صيانة المنجزات الوطنية ، وتحقيق الأهداف العامة المشتركة ؛ وبخلاف ذلك ، فإننا أمام حالة من التفسخ والانهيار ، تبدو أسبابها في ضعف الروابط بين أفراد المجتمع ، واتخاذهم أهدافاً فرعية على حساب الأهداف الوطنية ، وتكوين تحالفات سياسية ، ترتفع لها الألوية والشعارات ، وهو ما يفضي إلى أجواء من التوتر والتجاذب السياسي والاستقطاب الداخلي ، بما يشكل خطراً يهدد الدولة ويضعها أمام خيارات صعبة ليس أقلها ارتهان سيادتها للأجنبي ، والسماح له بالتدخل في شؤونها الداخلية . إن مثل هذا البناء الواهن المتصدع ، يوشك أن يتداعى بذاته ، دون عدو خارجي يقوضه ؛ لأن عوامل تدميره وفنائه مركوزة في أوصاله ومفاصله ، وتأتي على كل ثوابته ومقومات وجوده .
ومن أبرز مظاهر تفسخ الجبهة الداخلية وضعف الوحدة الوطنية كذلك ، الاستقواء بالعشيرة أو الجماعة أو الحزب أو الطائفة ، أو الانطلاق من منطلقات إقليمية ضيقة ، ورفع الشعارات الاستفزازية لسائر مكونات المجتمع وأطيافه ، والعمل لمصالح آنية ضيقة ، كل ذلك إنما هو ضرب من ضروب تهديد الوحدة الوطنية ، وتقويض لبنية الدولة ، وتفتيت لوحدتها . بل ويمثل تهديداً للأمن الوطني والسلم الاجتماعي برمته .
كما تبرز مظاهر التفسخ في سؤال الجغرافيا الذي يدور دوماً على ألسنة الجهلة من الإقليميين : من أين أنت ؟ ذلك أن الجاهل يكون جل اهتمامه معرفة أصولك الممتدة إلى أبعد من عهد عاد وثمود ، وكأنه الأصيل الوحيد وما سواه هجين أو مولَّد . وعندما يلتقيك لأول مرة يحرص على سؤالك هذا السؤال الإقليمي البغيض ؛ ليحدد علاقته بك ابتداء ، في ضوء مكان ولادتك ، أو عشيرتك ، أو أصولك ، أو انتمائك الجغرافي ، أو أي اعتبار آخر من الاعتبارات الهزيلة التي لا قيمة لها ولا وزن إلا عند الحمقى . وهو بذلك يبعد نفسه عن شخص فاضل كريم السجايا ، غزير العلم ، وافر العطاء ، كان يمكن أن يصيب منه نفعاً كبيراً وفائدة عظيمة ، لو حكّم عقله وطرح اعتبار الجغرافيا جانباً .
وهذا السؤال وما يستتبعه هو أصل الفتنة الإقليمية التي ما تفتأ تظهر كل حين ، وتثار دونما أسباب تهيجها ، وتعبث بالنسيج الاجتماعي المتماسك ، وتعمل فيه تقطيعاً وتمزيقاً ، وأشد ما تظهر في الأيام الوطنية والقومية ، ولاسيما في الانتخابات النيابية والبلدية وسواها ، التي تتطلب الاتحاد وتحكيم العقل ، والنظر إلى المستقبل المشترك بعين العقل والحكمة ، لا بعين العاطفة القاصرة ، أو بتأثير النزوة العابرة . وتتفرع عنه جملة أسئلة إبليسية منكرة تفوح منها روائح الإقليمية والعنصرية والطائفية ، وسواها من أسافين التفكك والتشرذم : من أي عشيرة هذا المرشح ، أو من أي عائلة ، أو من أي إقليم ، أو من أي حزب ، كما يبرز في صورة البراءة والوداد : منين الله يحييك ؟ وهكذا ... ليتقرر بعدها منحه الصوت أم حجبه عنه . ونسي صغار العقول والحمقى أن الصوت أمانة ، وأنه رسم لخطة مستقبلية تخدم الجميع ، وتنهض بالجميع ، لا يمنح ، وفق منطق التحضر والتقدم ، لأي مرشح بموجب هذه المعايير الهزيلة الضيقة ، وإنما هو مرتبط بالكفاية العلمية للمرشح ، والسجل الأخلاقي والاجتماعي له ، ومدى أهليته لما رشح له .
كما تظهر مثل هذه الأسئلة الخبيثة عندما يطرح موضوع الزواج أو المشاركة في تجارة أو عمل ، وحتى في تفضيل التعامل مع أحد شخصين ، حيث يتجه الإقليميون إلى تفضيل ابن الإقليم مهما كان شأنه ، حتى لو كان ( رويبضة ) وضيعاً منحرفاً أو منحلاً ؛ لتقديمه على حساب الأكفأ والأنسب والأتقى .
وليت الأمر يقف عند حدود الأسئلة وحسب ، إذن لهان الأمر ، ولكنه في كثير من الأحيان يتجاوز حدود الأدب ليطال الأعراض والأنساب ، ويترجم في صورة سلوك همجي عدواني ، يخلو من روح المواطنة والخلق القويم ، يعمل على تفتيت الوحدة الوطنية وتمزيق الروابط بين أفراد المجتمع الواحد ، بل كثيراً ما يعمل هؤلاء على تفتيت الوحدة الوطنية على مدرجات الملاعب الرياضية ، مع كل مباراة تقوم بين ناديين ، حيث يلجأ المشجعون من الطرفين ، في حماقة نادرة ، لا إلى تشجيع فريقهم ومؤازرته ، كما يفترض فيهم في مثل هذه المواقف ، بل إلى سب مشجعي الفريق الآخر وشتمهم والطعن في أعراضهم ، ثم ترتفع الشعارات الإقليمية ، والهتافات العنصرية ، والصراخ الحيواني الهائج ، ويفيض كل طرف بأقبح ما لديه ، وينضح كل إناء ملوث بما فيه ، وجل ما في الآنية قذر المحتوى ، نتن الرائحة ، تأنف منه الطباع السوية والفطر السليمة ؛ وهو يعكس سوءاً في التربية ، وضعفاً في الدين ، وانعداماً في الأخلاق . ولا يخدم إلا الأعداء من اليهود وسواهم ممن يتربصون بهذه الأمة الدوائر ويكيدون لها ليل نهار ، ويسعون جاهدين إلى تمزيقها وجعلها شيعاً يلعن بعضها بعضاً . وهؤلاء الغوغاء بطبيعة الحال ، هم مطية اليهود في تحقيق أهدافهم هذه .
لقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من إثارة النعرات ، والتمسك بمثل هذه الروابط الجاهلية الوضيعة ؛ لأنها تثير الفتن والأحقاد ، وتفرق الأمة ولا تجمعها ، فقال : (( ليس منا من دعا إلى عصبية ، وليس منا من قاتل على عصبية ، وليس منا من مات على عصبية )) ووصفها بأنها منتنة ، فقال : (( دعوها فإنها منتنة )).
وقال مخاطباً قريشاً : (( إنَّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعاظُّمها بالآباء، الناس لآدم ، وآدم من تراب )) . وأشار إلى المعيار القويم في التفاضل بين الناس ، الذي يجب أن نحتكم إليه في حياتنا الاجتماعية بقوله : (( لا فضل لعربي على أعجمي ، ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى )) .
وانطلاقاً من هذا المبدأ القويم الذي أسسه صلى الله عليه وسلم ، وبنى عليه الدولة الفتية القوية ، فقد قرّب بلالاً الحبشي ، وصهيباً الرومي ، وسلمان الفارسي ، رغم فقر هؤلاء الأجلاء وانقطاعهم عن العزوة ، والعشيرة ، والأهل ، والظهير ، وباعد عمه أبا لهب وأقاربه من كفار قريش ، رغم صلة القرابة القريبة بينه وبينهم ، ورغم ما يملكونه من الجاه والثروة والسلطان ؛ ذلك لأنهم لم يتحقق فيهم المعيار المشار إليه . فالمعايير التي يجب اعتمادها للحكم بها على قيمة الشخص أو المواطن : الخلق ، والدين ، والعلم ، والعمل ، والمهارات ، والمنجزات ، وعن كل ما يقرب ويفيد ، وليس مكان الولادة أو النسب العائلي أو المنبت الجغرافي أو الأصول العرقية.
في ضوء هذه الاعتبارات الحكيمة تتحدد قيمة الإنسان ومكانته ، ويتقرر مدى التقرب منه أو الابتعاد عنه ، ومدى الإفادة من علمه وعمله ودينه وأخلاقه ، فليس ثمة فائدة من السؤال عن مكان الولادة أو مكان الإقامة أو شجرة العائلة . فهب أنه ولد في قعر واد وأنت ولدت على رأس جبل ، ففيما يفضل أحدكما الآخر ؟ وهب أنه من أصول أعجمية وأنت من أصول عربية ، ففيما التفاضل بينكما ، وقد خلقتما من الطين ، وخرجتما من مجرى البول مرتين؟!
قال علي رضي الله عنه :
الناس من جهــــة التمثـــــال أكفـــــاء - أبــــــــوهم آدم ، والأم حــــوّاءُ
فإن يكن لهم مــــن أصلهم شــــــرف - يتفـاخـرون به ، فالطـين والماءُ
ما الفضل إلا لأهـــــــل العلم إنهــــم - على الهـدى لمن استهدى أدلاءُ
وقيمة المرء ما قد كــــــان يحسنــــه - والجــاهلـــون لأهل العلم أعداءُ
وهو المنطق الحكيم ذاته الذي انطلق منه الشاعر ، حيث يرى أن سبب انهيار الدولة وفناء الجماعات إنما هو تقطيع الأرحام والمناداة بالقطرية أو الإقليمية ، والسعي وراء أهداف فرعية تزاحم الأهداف الوطنية أو تقوم بديلاً عنها ، في ظل الإفراط الزائد في البحث عن الأصول والجذور دون الاعتبارات المتينة الأخرى ، حيث يقول :
إني أرى سبب الفناء وإنما .... سبب الفنــاء قطيعة الأرحام
فدعوا مقال القائلين جهالة ..... هذا عـراقي وذاك شـــــآمي
فبلادكم بلدي وبعض مصابكم ... همي وبعض همومكم آلامي
وتداركوا بأبي وأمي أنتم .... أرحامكم برواجح الأحـــــلام
لم يسمع الإقليميون بهذه الحكم ولا بتلك المبادئ القويمة ، وربما لا يريدون سماعها ، ويصرون على أن يكونوا عبيداً للطين كدود الأرض ، الذي لا يستطيع أن يعيش في ضوء الشمس ، أو ينشط في وضح النهار ، ولذلك يتخندق هؤلاء في خندق العشيرة أو الطائفة أو الحزب على حساب الوطن وسائر أطيافه ومكوناته . وكأن الوعاء الكبير لا يسعهم ؛ لذلك اختاروا الأواني الضيقة ليحشروا أنفسهم فيها ! ولا ندري .. أليس الوطن مظلة للجميع ، والراعي للجميع ، وهو الضامن لحركة هذه الأطياف وحرياتها ، والحارس لأهدافها وتطلعاتها ، وهو الذي يمدها بأسباب وجودها وعوامل نشاطها ؟! إذن لماذا الانكفاء في دهاليز ضيقة والانطلاق من جحور معتمة ، والانطواء في دائرة الأهداف الأنانية الصغيرة ، وفي الوطن متسع للجميع ؟!
إن هؤلاء لم يقرؤوا ما كان عليه مجتمع المدينة المنورة في صدر الإسلام ، من سلام ووئام وتناغم وانسجام ، رغم اختلاف أطيافه ، وتباين مكوناته ، وتعدد أديانه . ولم ينظروا إلى ما عليه العالم المتمدين من نعمة واستقرار ، كالمجتمع الأمريكي مثلاً ، فالمجتمع الأمريكي متعدد الجنسيات والأعراق ، متباين المذاهب والمشارب ، مختلف المنابت والأصول ، ولكنه خليط متجانس يدرك معنى التعايش السلمي والوفاق الاجتماعي ، وأهمية المواطنة والعيش المشترك ، رغم أنه لا رابط يربطهم من روابط الدم والنسب والعشيرة والطائفة والحزب ... الخ . إذ تذوب جميع هذه الروابط في رابطة واحدة ، هي رابطة المواطنة وحسب ، ولا رابطة فرعية تعلوها أو تهيمن عليها ؛ والناس هناك يحترمون التعدد وينسجمون مع التباين ، لأنهم أناس عمليون ، مشغولون بصناعة الأهداف ، وتحقيق تلك الأهداف . أما الفارغون الغارقون في أوحال الإقليمية ، فهم يعيشون بلا أهداف يسعون لها ، ولا تحدوهم قيم نبيلة يسعدون بها ، ولا همّ لهم إلا الانشغال بتصنيف الناس إلى قيس ويمن ، والبحث في الأصول والجذور.
Ibrahi_60@yahoo.com