22-07-2013 10:07 AM
بقلم : علي فريحات
روي البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أخدكم فلا يرفث ولا يجهل ، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل : إني صائم ــ مرتين ــ والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ، الصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشر أمثالها ) (1)
هذا حديث جليل القدر يبرز القيمة الأخلاقية للصوم ، ويجعل من الصائم إنسانا عفا نبيلا تحجزه فضائله وتمنعه شمائله أن يشارك في لغو ، أو يرد على إساءة لأنه صائم ، ومن ثم فهو إنسان رباني ، لأنه يحجز لسانه عن كل إساءة وتطاول ابتغاء مرضاة الله ، ويمنع نفسه كل متعة ولذة ابتغاء وجه الله،فما أخلق أن يتولى الله مكافأته بيديه،ويعطيه الجزاء الأوفى !! ولنمض مع الرسول الكريم في هذا التصوير الحي لأثر الصوم في الأخلاق ، ولنحاول استلهامه واستيحاءه .
فقوله : ( الصوم جنة ) : تعبير موجز حي يوحي بالكثير من المعاني ، ويلهم العديد من الحكم والأسرار ، ذلك أن الجنة هي الدرع الذي يلبسه المحارب ليتقي به ضربات السيوف ووخزات الرماح ووقعات السهام ، والرسول الكريم يشبه الصوم بهذا الدرع ، فكما أن الدرع يقي ويحفظ من أخطار الحرب ، فكذلك الصوم يقي ويحفظ من أخطار الذنوب والآثام ... والدرع من أدوات الحرب ولوازم المعركة ... وكذلك الصوم من لوازم المعركة ، لأن الصائم في الحقيقة يخوض معركة عنيفة ضد شهوات النفس ووساوس الشيطان .. وهي حرب معنوية شاقة يجد فيها الصائم من العنت والرهق ما لا يتصور بحال .
ولذا كان مضطرا إلى درع يقيه وسلاح يستعمله ، أما الدرع الواقي فهو الصوم ، وأما السلاح الذي يستعمله فمراقبة الله .
وكما أن ثمرة الدرع المادي النجاة من الضربات ، فكذلك ثمرة الصوم النجاة من الآثام ، وكما أن استعمال الدرع في الحرب حيطة وحزم ، فكذلك استعمال الصوم في معركة النفس ، وكما أن ترك الدرع إهمال وجرم فكذلك ترك الصوم .. وكما يتشجع المحارب للبس الدرع لأنه سيقطف الثمرة وهي الوقاية والنجاة ، فكذلك الصائم يتشجع على الصوم بثمرته التي يحصل عليها وهي الابتعاد عن الذنوب والآثام .
والحديث بإيحائه القوي البليغ يترك في خواطرنا انطباعا قويا بخطورة الذنوب والآثام ، وكيف أن الصوم وقاء منها ، وكيف أن المعركة التي يخوضها الإنسان ضد شهواته لا يعصمه من أخطارها ومهالكها إلا الصوم وكيف أن المعاصي كضربات السيوف كلاهما قاتل مُتبِّر؟!
أرأيت كيف أوحى إلينا هذا التشبيه الموجز بكل تلك المعاني ؟ وكيف نقلنا إلى جو المعركة التي تلبس فيها الدروع وتستعمل فيها الأسلحة ؟ّ! أرأيت كيف اختار الرسول لفظ ( الجنة ) ليشبه بها الصوم ، حتى يتضح أثره ، وتبرز فاعليته ؟! وتنطبع في وجدان الناس .
إنها إشعاعات كثيرة في اتجاهات مختلفة توحي بكثير من الخواطر والأفكار .
إنه الرسول الذي يحدث عن نفسه قائلا : ( أعطيت جوامع الكلم ) (2) وتلك هي جوامع الكلم التي ينقضي الزمن ولا تنقضي عجائبها !!
وإذا كان الصوم جنة كما مر فهو لا شك حاجز عن كل بذاءة وتطاول ، ولذا جاء بعده مباشرة ( فإذا كان يوم صوم أحدكم .....إلخ ) وإذا كان الصائم في رعاية ربه وحفظه فإنه لا يرد على الإساءة بمثلها ( فإن امرؤ قاتله ... إلخ ) ويكفي لتذكيره بالله أن يردد ( إني صائم ) ، وكأنما اللغو ضد طبيعة الصوم .. وإذا كان الصائم يجد في هذه المعركة مشقة ، فما أجدر أن يكون ثوابه على قدر المشقة التي يجدها ( الصوم لي وأنا أجزي به ).
هكذا تترابط فقرات الحديث ، وتتماسك مقاطعه لأنها تعبر عن معنى مترابط متماسك ، وبهذا التصوير الجميل يرتبط الخلق الكريم بالصوم ارتباطا عضويا .. فإن الصوم وقاء من كل شر وفاحشة ومنكر ... ولأنه تجربة يخوضها الصائم مع نفسه ، ويتعامل بها مع ربه ، فكيف يتصور أن يكون عيابا أو شتاما أو مغتابا أو فاحشا أو ظالما ؟ وكيف يعامل المسيء بإساءته فيرد عليه إهانته ؟ يكفي أن يذكر أنه صائم ليكف عن الرد السفيه ، لأن طبيعة الصوم تتجافى مع كل خلق وضيع ، وتأبى النزول إلى درك الجاهلين ...
ولا قيمة لصوم لا يرتفع بصاحبه إلى هذا المستوى ، ويظل معه الإنسان مرتكبا للموبقات ملابسا للخنا والفجور ومن ثم يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) (3)
ذلك لأن الصوم ليس مظهرا سلبيا يكفي لتحقيقه أن تمتنع عن الطعام والشراب والمعاني الجنسية ... كلا : إنه مظهر إيجابي ثمرته التقوى ، وإن ما فيه من كبت وحرمان ليس هدفه إلا التدريب على الأخلاق الفاضلة ، وجماع أمرها : القيادة والسيادة : قيادة النفس والاستعلاء فوق شهواتها ، والسيادة على أمرها ، ليكون ذلك منطلقا إلى السيادة في الحياة وقيادة زمامها ، وتلك هي وظيفة الأمة المسلمة ، وهي وظيفة قيادية للحياة كلها: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) ( سورة البقرة / 143 )
إنك بالصوم إنسان تملك زمام شهوتك وغضبك فلا تشتم أو تسب ، ولا ترد الإساءة بمثلها ، وإنه لصبر يقود إلى صبر ، ونصر يقود إلى نصر لتكف عن كل شر ومأثم ، وتنتصر في كل مواقف الحياة : ( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله )