27-07-2013 09:45 AM
بقلم : د. أحمد ذوقان الهنداوي
في مثل هذا اليوم قبل واحد وستين عاما تنازل الملك فاروق الأول، الملك الدستوري والشرعي لمصر والسودان ذات الحكم الملكي الدستوري الديموقراطي، عن عرشه انصياعا لرغبة الجيش وقطاعات من شعبه، وحفاظا على دم المصريين و درءا للفتنة بينهم...
رحل بعد أن أصدر قراره الملكي في 26 يوليو 1952 من قصر التين بالتنازل عن العرش لابنه متضمنا مبررا وتوضيحا لهذا القرار ب "... لما كنا نتطلب الخير دائما لأمتنا ونبتغي سعادتها ورقيها ولما كنا نرغب رغبة أكيدة في تجنيب البلاد المصاعب التي تواجهها في هذه الظروف الدقيقة ونزولا على إرادة الشعب ..."
يتناول اللواء محمد نجيب قائد ثورة عام 1952 و الرئيس الاول لجمهورية مصر العربية بالتفصيل فى مذكراته هذه الإستقالة حيث يقول : "جئت متاخراً لوداع الملك بسبب إزدحام الطريق وكانت المحروسة في عرض البحر ، فأخذت لنشاً حربياً دار بنا دورة كاملة كما تقتضي التقاليد البحرية وصعدت للمحروسة وكان الملك ينتظرني ، أديت له التحية فرد عليها ، ثم سادت لحظة صمت بددتُها قائلاً للملك : لعلك تذكر أنني كنتُ الضابط الوحيد الذي قدم إستقالته من الجيش عقب حادث 4 فبراير 1942 إحتجاجاً ، فرد الملك : نعم أذكر ، وقلتُ له : حينئذٍ كنتُ مستعداً أن أُضحي برزقي وبرقبتي في سبيلك ، ولكن ها أنت ترى اليوم أنني نفسي أقف على رأس الجيش ضدك ، فرد فاروق : إن الجيش ليس مُلكي وإنما هو ملك مصر ، ومصر وطني ، وإذا كان الجيش قد رأى أن في نزولي عن العرش ما يُحقق لمصر الخير ، فإني أتمنى لها هذا "....
ترجل الفارس عن صهوة جواده وآثر الرحيل عن مصر وعن شعب مصر حفاظا منه عليهما . غادر بلده طواعية وبأختياره في وداع مهيب ادى له خلاله ضباط جيشه والذين ثاروا عليه التحيه العسكرية واطلقت المدفعية احدى وعشرون طلقة تحية له عند وداعه . غادر الملك واسرته مصر على متن "المحروسة" وليس معهم سوى القليل من ملابسهم التى كانت بحوزتهم اثناء الرحيل.
رحل تاركا وراءه عرشا دام قرنا ونصف القرن هى فتره تاريخ حكم اسرة محمد على لمصر ... رحل بعد أن جعل من مملكته محط أنظار العالم... ألقاهرة أجمل وأنظف عاصمة في الدنيا ونسبة البطالة لا تتجاوز 2%... ومصر تقرض المملكة المتحدة ما قيمته 30 مليار دولار بقيمتها الحالية لم تسترد منها دولارا واحدا حتى يومنا هذا.. رحل بعد أن أرسى قواعد الدولة الحديثة فى مصر، من وضع ومراجعة الدستور، و تأسيس الأحزاب والسماح لها بالعمل بكل حرية وديموقراطية بالرغم من نقدها اللاذع والمستمر له ولأسرته... رحل بعد أن نشر التعليم و بنى الجامعات، ومنها جامعة فؤاد الأول (القاهرة لاحقا) والتي كانت تضاهي أرقى الجامعات و المؤسسات التعليمية حينه... رحل بعد أن وسع فناة السويس ومد السكك الحديدية و إعتمد اللغة العربية لغة رسمية للدولة و نمى الزراعة و شجع الصحافة ... غادر بعد أن جعل بلده مقصد المغتربين من أسقاع الأرض ليعملوا فيها ويكسبوا قوتهم وقوت أسرهم حيث الأجانب من إيطاليين وغيرهم يعملون كطباخين و عاملين في المطاعم والمحلات وصالونات الحلاقة...
خرج الملك متنازلا عن عرشه و عرش اجداده بأرادته ودون اراقة قطرة دم واحدة لمواطن واحد من شعب مصر .... هذا هو الملك الذي هاجمناه وشوهنا سمعته عبر عقود خلت...
رحل بعد أن قال قولته المشهورة: "إن نقطة دم مصرية أتمن لدي من كل عروش الدنيا والرحيل فورا أهون لدي من سقك دماء المصريين حفاظا على منصبي"....
هذه هي الوطنية الحقة... وهذا هو الدين الصحيح... وهذه هي القيادة الملهمة... وهذا هو الحب الصادف للشعب... وهذه هي الرجولة والشجاعة والكبرياء...
ما أشيه اليوم بالأمس على الإختلاف الشاسع لمنظومة القيم المترسخة لدى الكثير من قادته وأولي الأمر فيه باختلاف أنظامة حكمهم و انتماءاتهم وتوجهاتهم ...
ما أحوجنا اليوم لقادة أمثالك أيها الملك الأجل... رحمك الله..