29-07-2013 11:21 AM
بقلم : الدكتور المحامي إبراهيم النوافلة
لعل ارتباط القضاء بالعدالة ارتباط عضوي، فكل منهما يعضد الآخر ويتكامل معه في المعاني والدلالات بل في الأبعاد والوظائف ... وحيث أن القانون هو مكنة تحقيق هذه الرابطة العضوية، لأنه وسيلة ضبط النظام في الدولة فإن القضاء هو أداة ضبط القانون وفرض احترام تطبيقه ، وبالتالي فإن القضاء هو أداة التوسط بين القانون والعدالة لأنه أداة احترام الشرعية وإذكاء روح السلم الاجتماعي.
وهذه المقدمة المتواضعة تقود للولوج في مبدأ استقلال القضاء، ذلك المبدأ الذي يرتبط ارتباطا مباشرا بالفكر الدستوري والنظريات الحديثة والتي تعنى بتنظيم الحكم في الدولة المعاصرة . تلك النظريات التي تعتبر نتاجا للتحولات المجتمعية المتعاقبة وتطور الفكر السياسي والإنساني. الأمر الذي معه بات مبدأ استقلال القضاء جزءا من واقع عالمي ملح يخدم التنظيم السياسي والقانوني للدولة العصرية.
ولقد أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة المبادئ الأساسية لاستقلال القضاء وأدرجتها في فئات منها :استقلال السلطة القضائية (سلطة وقضاة أفراد)،المؤهلات والاختيار والتدريب، شروط الخدمة ومدتها، السرية والحصانة المهنيتان.
وقد صدر عن المؤتمر العالمي لاستقلال العدالة الذي عقد في كندا عام 1983 إعلان عالمي لاستقلال العدالة تضمّن عناصر استقلال القضاء وأهمها " أن تتوفر للقاضي حرية البت بحياد في المسائل المعروضة عليه حسب تقييمه للوقائع وفهمه للقانون دون أية قيود أو ضغوط أو تهديد أو تدخلات مباشرة أو غير مباشرة ومن أي جهة كانت ، وأن تستقل السلطة القضائية عن كل من السلطتين التنفيذية والتشريعية" .
وقد جاء مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة المدنيين ( إعلان ميلانو لسنة 1985 ) بالأعمال التي بلورت ضمانات استقلال القضاء والذي جاء فيه أن: تكفل الدولة استقلال السلطة القضائية وينص عليه دستور البلد وقوانينه، وأن من واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية، وأن من واجب كل دولة أن توفر الموارد الكافية لتمكين السلطة القضائية من أداء مهامها بطريقة سليمة.
وبالنتيجة فإن الجهود التشريعية الدولية في مجملها قد جاءت على محورين هما : استقلال السلطة القضائية كجهاز واستقلال القاضي كفرد لان المستويين متلازمان وهما وجهان لعملة واحدة.
ولقد كفلت الدساتير العالمية والعربية استقلال السلطة القضائية الاستقلال الذي ينأى بها إلى أحكام مرتاحة الضمير قريرة الوجدان. فقد افرد الدستور الاسباني وفي المادة 117 وفي خمس فقرات النص على استقلال السلطة القضائية وعلى انه لا يجوز نقل القضاة أو عزلهم أو إحالتهم على التقاعد إلا بما نص عليه القانون وبما يضمن سلامة تطبيقه كما أن المادة 97 من دستور المانيا جاءت لتنص على "أن القضاة مستقلون ويخضعون فقط للقانون" وفي الفقرة الثانية نصت على أنه " لا تجوز إقالة القضاة الذين يتبوأون وظائف دائمة والقضاة الذين تم تعيينهم في مناصبهم بشكل نهائي ........لا تجوز إقالتهم من مناصبهم أو إبعادهم إلا بموجب قرار قضائي لأسباب وتحت الأساليب التي تحددها القوانين" وتركت المادة 98 من ذات الدستور الصلاحية في نظر مظالم القضاة للمحكمة الدستورية الاتحادية ......وقد سارت المادة 66 من الدستور الفرنسي على ذات المبدأ وقد نحت المادة 87 من دستور اليونان والمادة 206 من دستور البرتغال ذات المنحى ....وعلى ذات النهج سارت الدساتير العربية ونذكر منها : الدستور اليمني/المادة 156،الدستور المغربي/الفصل 85، الدستور العماني المادة 61، الدستور السوداني/المادة 104،الدستـــــــور الكويتي/المادة 162........".
وقد ضمن الدستور الأردني استقلال القضاء في المادة 97 منه. لكنه وليس من جديد القول أن الدستور يأتي بقواعد كليه والتفاصيل يتضمّنها القانون .ولعل ضمانات استقلال القضاء وبإيجاز هي: ضمانات دستورية، وضمانات سياسية، وضمانات ثقافية، إضافة إلى الضمانات المؤسسية التي تندرج في نوعين من الضمانات هي: ضمانات إدارة القضاء، وضمانات الاستقلال المهني وجميعها تعرضّنا إليها في مقال فاتت عليه سنة بعنوان "القضاء الأردني بين الواقع والطموحات"
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن قانون استقلال القضاء والذي تقدم به القضاة الشباب وبمشاركة بعض مشتغلي حقل القانون، هو أقرب إلى استقلال السلطة القضائية لما فيه من مراعاة لمعايير استقلال القضاء كمعيار طريقة تشكيل المجلس القضائي والذي يضمن انتخاب جزء من أعضاء المجلس القضائي من قبل عموم القضاة، ومعيار إشراك الطيف الاجتماعي والسياسي في إدارة الجهاز القضائي ومعيار حماية القاضي من العزل والانتداب والإقالة، ومعيار الخدمات الاجتماعية كالتأمين الصحي والتقاعد والإعفاء الجمركي التي من شأنها تعزيز صمود ومنعة القاضي، ومعيار صون حق القاضي في الترقية، واستحداث مؤتمر قضائي كل ثلاث سنوات ....وغيرها من المعايير الواقعية التي تقود إلى استقلال حقيقي للجهاز القضائي.
بيد أن مسودة مشروع القانون المعدل لقانون استقلال القضاء لسنة 2013 والذي جاءت بها الحكومة لتعديل القانون رقم 15 لسنة 2001 لا تخدم استقلال القضاء. وفي السواد الأعم من تعديلاتها ما هي إلا ضمانات شكلية لا تنسجم مع المعايير والمؤشرات العالمية في موضوع استقلال القضاء ، تلك المعايير التي باتت تدرّس في الجامعات العالمية والعربية والوطنية بعنوان إدارة العدالة .
وعليه فإن الشكر موصول لمجلس النواب السابع عشر، والذي رد مسودة مشروع القانون المعدل لقانون استقلال القضاء والتي تقدمت بها الحكومة وللمرة الثانية على التوالي ، وذلك في بادرة تشريعية تحترم ويشار لها بالبنان ... إذ أن المجلس الموقر ينتصر لحقه الدستوري في مكنة التشريع وواجبة الوطني في حمل الأمانة. فالمجلس الكريم ازدان بثوب جديد يزهو به في مواجهة تشريعات الغرف المغلقة .......ثوب يرى من ثنايا خيوطه الآلام التي يعاني منها أولئك الأبرار القائمين على العدل ... طوبى لكم أيها النواب فلنا ولكم في هذا الوطن عشق قديم وطعم أمان ........لنا ولكم فيه همس حسان وسحر شتاء متى الليل حان ....لنا ولكم فيه صوت آذان وطقس مدارس وأجراس كنائس وحلم تسامى ومذاق تشريع طواه الزمان.