14-08-2013 02:20 PM
بقلم : يوسف ابو شعيب
كأن المنازل خجلة من فقرها و تخفي وجهها خلف الضباب الكثيف...حين الطرقات تعدو نحو المدينة مبكراً قبل الزحام ....وجوه مُغبرة بالتعب والعبوس ...و حافلة تعج بالركاب والدخان...جلس حيث كان يجلس كل يوم يراقب أنفاس الصباح تعلو من باطن الأرض لتعانق السماء التي كانت تعتصر الغيم فوق الأرض محاولة تطهيرها من كل الخطايا...
لكن الرؤية المستحيلة جعلته يحدق بالجالسين حوله....كانوا يجترون الأمس بصمت....وفجأة توقفت الحافلة وعلا صوت خشن-يا إخوان واحد يقعد هالبنت- إنها عبارة تترد في كل وقت كأن الوقوف في هذه الدنيا للسيدات فقط .....
جلست بجواره ولم يكن قد نظر إلى وجهها بعد.... حاول اختلاس النظر أكثر من مرة لكنه لم يفلح..... لو أنها جلست في مكان آخر...ردد تلك العبارة في نفسه وأنشغل بسماع المذياع....ذلك الجهاز الذي يسكب المصائب فوق صدورنا مصيبة تلو الأخرى.....المذياع....لا أتخيله إلا غراب ينعق بالخراب في كل حين....قال المذيع أنهم يستخدمون مسيل الدموع لتفريق المتظاهرين... قهقهت نفسه لهذه العبارة حتى كاد يغمى عليها تسأل ...إن كانت الدموع هي التي جمعتهم فكيف يتفرقون بها.
تحركت الفتاة وكأنها تهم بالنزول ... وعندها ستكون هذه آخر فرصة لهُ لرؤيتها للمرة الأولى والأخيرة ... همس لنفسه ...لا بد أنها جميلة و الغريب أن كل من بالحافلة يستطيعون رؤيتها والنظر إليها إلا هو....وكأن الواحد منّا عندما يكون قريباً جداً من شيء ما لا يستطيع أن يراه كما يجب.
دورية شرطة....انشغل الجميع بمشاهدة شرطي المرور وهو يوقف الحافلة ويعد الركاب الواقفين....ربما لو أن أحدا لم يترك لها مكانه لكانت تقف أمامهُ الآن وتمكن من رؤيتها وبتمعن....لكن عليه أن يستفيد من الفرصة المتاحة....حرك رأسهُ باتجاه النافذة الأخرى كأنه يحاول رؤية الشُرطي و مد بصرهُ نحوها ولم يصدق ما رأى...لقد كانت آية في الجمال والروعة...ولقد كان متأكداً من ذلك فكل من بالحافلة لم يرفعوا نظرهم عنها ولو للحظة....لقد تمنى أن يكون مكان السائق الذي لم يكف عن مراقبتاها من خلال المرآة....أو مكان ذلك الصوت الخشن الذي بدا وكأنه لم ينظر إلى وجهه منذ سنين ومع ذلك فهو لم يكف عن النظر إليها....
تحركت الحافلة بعد تحرير مخالفة بحق السائق وما أن ابتعد الشرطي حتى عادة الأمور إلى سابق عهدها....وهو لا يشغل باله إلا ذلك الوجه الملائكي الذي يجلس بجواره....ورائحة عطرها التي تملأ جوانب نفسه بالأحلام.....لقد تمنى أن تتوقف الحافلة من جديد....أو أن تتعطل...أو أن يوقفها شرطي آخر....أو أن تتحول إلى سفينة تبحر نحو جزيرة بعيده فتظل إلى جواره حتى آخر المشوار الطويل....
عاد الصوت الخشن من جديد...قال في نفسه سأقف إن كان هناك فتاة أخرى...حتى أراقب فتاتي كما يحلو لي ...لكن الصوت كان يسأل عن( الفراطة) وبدأ يصرخ بالجميع كأنهم طلاب صف لم يقوموا بحل الواجبات المطلوبة منهم أو أنهم أذنبوا ذنبا عظيما وحصلوا على علامة متدينة في امتحان ما ، أو أنه يوبخهم بسبب لعبهم بالكهرباء أو النار .... لكنني أنا من يلعب بالنار قالها وهو لم يفكر بهذه الطريقة منذ زمن..فلم يَعُد للحب مكان في قلبه ...فقد شغلته الحياة...وتكاليف العيش...لكن ما شعر به اليوم غريب جداً.. لقد كانت دقات قلبه تتوقف كلما توقفت الحافلة وهو يظن أنها ستنزل في أي لحظة وتبتعدُ إلى الأبد وحتى وإن لم تفعل فالرحلة شارفت على النهاية وسينزل الجميع...ويذهب كل منهما باتجاه مختلف....و لكنه سينتظر و بفارغ الصبر ذلك الصوت الخشن يعلو من جديد - واحد يقعد ها لبنت-ولابد أنه سيراها ذات يوم...وربما تتحول الحافلة إلى سفينة تطوي المسافات نحو الجزيرة البعيدة....