15-08-2013 09:29 AM
بقلم : عيسى محارب العجارمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أمير الأنبياء والمرسلين سيدنا
محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، أما بعد :
اعلم أخي القارئ الكريم وفقني الله وإياك للحق والثواب أن الموت انتقال من دار إلى دار واسعة وقد أكد أهل العلم أن الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقة وحيلوله بينهما وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار . يقول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ] ما شبهت خروج ابن ادم من الدنيا إلا كمثل خروج الصبي من بطن أمه من ذلك الغم والظلمة إلى روح الدنيا [([1]) ، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم ] الموت ريحانة المؤمن [ وعن عبد الله ابن عمر قال ، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ] تحفة المؤمن الموت[([2]) وعن عبد الله بن عمر قال ] الدنيا جنة الكافر وسجن المؤمن وإنما مثل المؤمن حين تخرج نفسه كمثل رجل كان في سجن فأخرج منه فجعل يتقلب في الأرض ويتفسح فيها [ [([3]) وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ] المؤمن في قبره في روضة خضراء ويرحب له في قبره سبعون ذراعاً وينور له في قبره كليلة البدر [ [([4]) وعن ابن عباس قال إن بعض أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جلس على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فإذا فيه إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ]هي المانعة وهي المنجية تنجيه من عذاب القبر [ [([5]) قال أبو القاسم السعدي في كتابه الإفصاح : هذا تصديق من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأن الميت يقرأ في قبره فإن عبد الله أخبره بذلك وصدقه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم . وقال السبكي : عود الروح إلى الجسد في القبر ثابت في الصحيح لسائر الموتى فضلاً عن الشهداء وإنما النظر في استقرارها في البدن وفي أن البدن يصير حياً بها كحالته في الدنيا أو حياً بدونها وهي حيث شاء الله فإن ملازمة الروح للحياة أمر عادي لا عقلي .
واعلم أخي وفقني الله وإياك أن ما جاز ابتداؤه لا يستحيل إعادته فالمنتزع أهون في الشاهد من المخترع ] قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [ وإذا كان الحق جل وعلا وراء ذلك فلا ضير ، ولا يُحجب عن معرفة ذلك إلا المحجوبين بظلمات الجسمة المقيدين بقيود العادة ، الموقوفين مع تقليد الآباء والمعلمين الذين لم يستضيئوا بنور اليقين ، فلم يعرفوا قط لوحاً إلا من خشب ولا قلماً من قصب ، ولا يداً إلا من لحم وعصب ولا كاتباً إلا جسماً مصوراً . وكما قال الإمام أحمد الرفاعي رضي الله عنه : هؤلاء الناس الذين نعتهم ذلك لن يفهموا شيئا مما اشرنا إليه فأنهم ليسوا من أهله ، إذ قد سلكوا مذهب المحجوبين الذين غلبت عليهم ظلمة الأجسام فلم يعرفوا غير الأجسام وتوابع الأجسام ودخلوا تحت ظل الجسم ذي الأبعاد الثلاثة وهي الطول والعرض والسمك فهي ثلاث شعب ، لأنهم حصروا جميع المعلومات تحت الحس وأنكروا ما وراء الشاهد مما لا يدخل تحت الكمية والمقدار ولا ينقسم بالمساحات والإفطار وهو العالم المتسع الذي الأجسام منه بمنزلة الظل من الشخص فهو العالم الشريف الذي من تلقائه يتنزل الأمر والقدر .
يقول الشيخ ابن القيم : الأرواح قسمان أرواح معذبة وأرواح منعمة فالمعذبة في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها وروح نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم في الرفيق الأعلى ، قال الله تعالى ] وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً [ وهذه المعية ثابتة في الدنيا وفي دار البرزخ وفي دار الجزاء والمرء مع من أحب في هذه الدور الثلاثة ([6]) . قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ] من أحب قوماً حشره الله في زمرتهم [ [([7]) ..
والذي عليه جمهور العلماء أن الموتى يسمعون ويتكلمون حقيقة لا مجازاً ونداؤه صلى الله تعالى عليه وسلم على أهل القبور يُثبت ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم ] ما أنتم بأسمع لما أقول منهم [ يحسم القضية . تقول السيدة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : كنت ادخل البيت فأضع ثوبي وأقول إنما هو أبي وزوجي فلما دفن عمر معهم ما دخلته إلا وأنا مشدودة على ثيابي حياء من عمر . وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ] حسنوا أكفان موتاكم فإنهم يتباهون ويتزاورون في قبورهم [ وعن قيس بن قبيصة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ] من لم يؤمن لم يؤذن له في الكلام مع الموتى ، قيل يا رسول الله : وهل يتكلم الموتى ؟ قال صلى الله تعالى عليه وسلم : نعم ويتزاورون [ [([8])
نعم أيها الأحباب إن الصالحين رضي الله عنهم أحياء في قبورهم حياة حقيقة واسعة وأنهم يسمعون ويتكلمون ويتصرفون بإذن الله تعالى ، قال الحق تعالى ]وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [[([9]) وقد قال أهل العلم : أن لفظ يستبشرون يُفيد في اللغة أنهم يبشر بعضهم بعضا مثل يتباشرون .
من هنا أيها الأحباب نفهم أنهم أحياء ويتلاقون .. وإذا كان هذا هو حال الشهداء فما بالنا بحال الصالحين الذين وصف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جهادهم بأنه أكبر وأعظم من جهاد الحرب قال صلى الله تعالى عليه وسلم عندما سئل : أي الجهاد أفضل يا رسول الله ؟ قال صلى الله تعالى عليه وسلم ] جهاد المرء نفسه[ [([10]) . نعم أن أهل الله وخاصته من عباده قوماً بايعوا الله بصدق النيات وخالص الطويات على كثرة المجاهدات وملازمة المراقبات والطاعات والصبر على جميع المكروهات قال فيهم الحق سبحانه ] رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [ قوم بادروا ركوب العزائم بالعزم كما قال مولانا الإمام احمد الرفاعي : وقوة الحزم فهجروا المنام وتركوا الشراب والطعام وقاموا لله بالخدمة في حنادس الليل والظلام وخدموا بالخشوع والسهر وقيام الليل والركوع والسجود والصيام وتمللوا في محاربهم بين يدي محبوبهم لنيل مطلوبهم حتى وصلوا إلى مقام القرب ومحل الأنس وظهر لهم سر قوله تعالى ] إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [ فأعطاهم سبحانه ما أعطاهم بفضله وكرمه كما أوضحنا بعضاً من ذلك .
وإذا كان الصالحين رضي الله عنهم هكذا فرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مقامه أعظم وأتم وحياته في روضته أشمل وأعم . وكيف لا وهم رضي الله عنهم منه صلى الله تعالى عليه وسلم ولولاه ما كانوا . يقول مولانا الشريف عبد الرحمن العيدروس العلوي : سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذي أعطى جميع الأنبياء والرسل مقاماتهم في عالم الأرواح حتى بعثه الله بجسمه صلى الله تعالى عليه وسلم فالأنبياء الذين سلفوا أخذوا منه صلى الله تعالى عليه وسلم وأوليائهم ومتبعوهم أخذوا منهم رضي الله عنهم . ويقول الإمام الشاذلي رضي الله عنه : كل نبي وولي مادته من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم . ويقول سيدي محيي الدين ابن عربي : كل نبي وولي إنما يأخذ بواسطة روحانية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم . ورضي الله عن القائل :
وكل آي أتى الرسل الكرام بها فإنما اتصلت من نوره بهم
وقد تحدث كثير من الأئمة عن حياة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قبره الشريف وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم حي حياة كاملة ويتصرف من داخل قبره وخارجه ، ومن ينكر ذلك فهو جاهل بالمقام المحمدي جهول .
وَمَن لّمْ يَعَتقِد هَذا بِطَهُ يَقيناً فَهُوَ زِندِيقٌ جَهُولُ([11])
ويقول مولانا الإمام احمد الرفاعي رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يسير كيف يشاء ويحضر متى شاء إلى العالم على حالته التي كان عليها وكل من لم يره فليأخذ في علاج روحه فإن كل مريض في روحه يُحجب عنه . ويقول الإمام السيوطي رضي الله عنه : إن حياة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وسائر الأنبياء معلومة عندنا قطعاً لما قام به عندنا من الأدلة في ذلك وقام بذلك البرهان وصحت الروايات وتواترت الأخبار في حياة الأنبياء .
يقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ] إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه ، فإن صلاتكم معروضة علي . قالوا يا رسول الله وكيف تُعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ قال : يقول بليت قال : إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء [([12]) وقال صلى الله تعالى عليه وسلم ] لا تجعلوا قبري عيداً صلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم [ [([13]) وقال صلى الله تعالى عليه وسلم ] حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم فإذا انا مت كانت وفاتي خيراً لكم تعرض علي أعمالكم فإن رأيت خيراً حمدت الله وان رأيت غير ذلك استغفرت لكم [([14]) وصدق الله العظيم ] وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً [ . وقد تحدث أهل العلم عن حياة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قبره الشريف وأنه يتصرف بإذن الله تعالى وليس ذلك بكثير على حبيب الرحمن وصفيه من خلقه فكوكب الشمس وهي دونه سرت أشعتها ـ وهي في مستقرها ـ إلى الحادثات وعمر جميع البارزات وقامت بإغاثة النباتات والمرئيات وامتدت سجف أذيال نفعها على الكليات في الأرض والجزئيات ولها في العالم السماوي محضر لا يستغنى عنه ولا بد منه والكلام في هذا يطول ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مستودع أسرار الحق في الكبكبة الآدمية وغيرها وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم يغيث بإذن الله تعالى حاضراً كان أو غائباً حياً كان أو ميتاً وكل ذلك بإغاثة الله ، بمعونة الله ، بإحسان الله ، بحول الله ، بقدرة الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
--------------------------------------------------------------------------------
الهامش :
[1] - أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن انس رضي الله عنه .
[2] - أخرجه ابن المبارك في كتابه الزهد .
[3] - أخرجه ابن المبارك في كتابه الزهد .
[4] - أخرجه أبو نعيم في الحلية .
[5] - أخرجه ابن منده .
[6] - الروح لابن القيم الجوزية .
[7] - رواه الطبراني .
[8] - أخرجه الشيخ ابن حبان في كتابه الوصايا .
[9] - آل عمران 169 – 170 .
[10] - رواه مسلم .
[11] - للشيخ احمد بن حجر الهيتمي رضي الله عنه .
[12] - رواه الترمذي وغيره .
[13] - رواه أبو داود .
[14] - رواه أبو داود .
--------------------------------------------------------------------------------
المصدر : المقدمة لرسالة ( إعلام أهل الإسلام والإيمان بأن سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم موجود في كل زمان ومكان ) للشيخ محمد بهاء الدين الحسيني
issalg2010@hotmail.com