09-09-2013 10:18 AM
بقلم : د. مراد الكلالدة
يبدو للمراقبين أن دولة الرئيس عبد الله النسور قد حسم أمرة بالعودة إلى المدرسة التقليدية في إدارة شئون الدولة والتي تعتمد على التخطيط المركزي لإدارة دفة العملية التنموية، بعد أن جرّبت الدولة على مدار العشر سنوات الأخيرة نهجاً مغايراً إعتمد على الخصخصة، وإنسحاب الدولة من العملية الاقتصادية، لإعطاء القطاع الخاص فرصة لإدارة العملية التنموية، وخلق فرص عمل جديدة. إلا أن جميع المؤشرات قد أظهرت أن القطاع الخاص قد أخفق بهذه المهمة لأسباب موضوعية مثل ارتفاع كُلف الإنتاج وندرة المواد الأولية، وأسباب ذاتية مثل قلة الخبرة والإتكالية وضعف الإنتاجية.
لقد كانت المناطق النائية هي الأكثر تضرراً من النهج المتبع سابقاً، بحيث وصلت الأمور في بعض المحافظات والبلديات لدرجة من التردي إستدعت إنتباه رأس الدولة للتحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، من خلال العديد من المبادرات من خلال صندوق الملك عبد الله الثاني للتنمية، أو من خلال صندوق تنمية المشاريع الاقتصادية، أو مبادرات مؤسسة نهر الأردن. وجميعها وغيرها محاولات تحترم، إلا أنها تفتقد إلى إلإطار الجامع الذي يمنع من تكرار تجربة المناطق التنموية التي تلفظ أنفاسها الأخيرة هذه الأيام.
لقد إنشئت هيئة المناطق التنموية والحرة، كحاضنة للمشاريع التنموية في المملكة والتي يبلغ عددها الآن ستة مناطق في كل من المفرق ومعان وأربد والبحر الميت وجبل عجلون ومجمع الأعمال في عمّان. هيئة أعطيت كل عوامل النجاح من مخصصات مالية والمبنى الأفضل والأفخم والأكثر سلامة من الناحية الإنشائية، كونه قد صُمم كمقر للمؤسسة الأغلى على قلوب الأردنيين، جيشنا العربي- القوات المسلحة الأردنية، وأعطيت قانوناً خاصاً ونظام لتنظيم وترخيص الإعمار، ورواتب ومزايا لكادرها الوظيفي تعلو عن أي مؤسسة أخرى في الدولة.
لم نستعجل في الكتابة عن الهيئة الإ بعد أن إنقضت مده خمس سنوات على تأسيسها، وهي فترة كافية تؤهلنا لإلقاء نظرة على إنجازاتها، وقد إستضفنا مندوبين عن الهيئة في المنتدى الأردني للتخطيط، كما استضفنا رئيس وأعضاء شركة تطوير البحر الميت، وأدركنا بأن الإنجاز متواضع بالمقارنة من كل هذا الدعم الذي حصلت عليه المناطق التنموية في الفترة الماضية، ومثال ذلك ما حصل في معان.
الإنطلاقة الرسمية لمنطقة معان التنموية كانت برعاية ملكية في أيلول من العام 2007 عقبت سنوات من التحضير على مرحلتين، الأولى بتكليف شركة أمريكية متخصصة بالتخطيط الإستراتيجي تدعى بوز الن هاملتن Booz Allen Hamilton لإجراء دراسة ما قبل الجدوى الإقتصادية حول النموذج الأفضل للنشاط الاقتصادي في منطقة معان، وقد خلصت الدراسة إلى تصميم نموذج تنموي مكون من أربعة محاور هي الروضة الصناعية، ومركز تدريب، والمجتمع السكني، وواحة الحجاج. وإستكمالاً لأعمال الدراسات التي صُرفت عليها الملايين كلفت الحكومة شركة هالكرو Halcrow المتخصصة في التخطيط والتصميم والإدارة لمراجعة الدراسة السابقة وإعداد المخططات الشمولية الأولية للمحاور الأربعة، وقد قدمت شركة هالكرو تقريرها النهائي في منتصف عام 2008 والمتضمن تقييم الموقع وإعتماد تقرير بوز الن هاملتن على الرغم من تباين وجهات النظر فيما بينهم حول الكثافة السكانية المتوقعة ومداها المنظور. وقد عقد إجتماع إعلامي حاشد في معان تم فيه عرض المشروع الطموح أمام جلالة الملك بشكل إستعراضي وخيالي دون إفساح المجال للمختصين الأردنيين للحضور ولا حتى النقاش لمن حضر منهم، لأن الهدف كان الإبهار وقد خُيل للمتتبع بأن هذه المنطقة ستتحول في غضون سنوات إلى وادي السيليكونSilicon Valley في الأردن. وما أن إنفض الجمع وازيلت شاشات عرض الداتاشو، عاد المدراء التنفيذيون ومسئولي العلاقات العامة إلى عمّان، وتركوا خلفهم آرامات الأحلام الوردية في إنتظار التطبيق العملي على أرض الواقع، على الرغم من تسلمهم للمرحلة الأولى من الروضة الصناعية مبنية وجاهزة للتشغيل، فكم من المصانع أضافت شركة تطوير معان لها منذ ذلك التاريخ (ولا مصنع).
الوضع في منطقة المفرق التنموية لم يكن أفضل حالاً، ومنطقة أربد التنموية على أسوء، على الرغم من أن الحكومة المركزية لم تقصّر معها فمنحتها الأراضي والإعفاءات Land versus Development وضريبة منخفضة على الدخل تقدر ب 5% ونسبة الصفر على الرسوم الجمركية ونسبة الصفر على ضريبة المبيعات ولم تضع قيود على الإستثمار المباشر.
أين المشكلة إذن؟ في رأينا أن المشكلة تتجسد في شقين الأول موضوعي والثاني ذاتي. ففي الجانب الموضوعي، واجهت هيئة المناطق التنموية عقبات في تشتت المرجعيات الإستثمارية بين هيئة تشجيع الإستثمار ووزارة الصناعة والتجارة، وأمانة عمّان، والبلديات، فلكل منه إطارها القانوني والإداري التي تعمل بموجبه، ولم يكن بمقدور قانون الهيئة تجاوز التضارب حيناً والتناقض حيناً آخر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، نقصت على الهيئة موارد مالية ضرورة للإطلاع بهذه المهمة التي تحتاج لمئات الملايين، في حين إستهلكت بضعة الملايين المخصصة لهم على الرواتب.
من الناحية الذاتية، فقد تقلب على رئاسة وعضوية مجالس المفوضين، متقاعدين مجربين في مواقع أخرى، إقتضت سطوتهم، تسكينهم في مثل هذه المواقع، فكان المنصب بالنسبة لغالبيتهم تمضية وقت لإكمال سنوات الضمان الاجتماعي. ومع كل الإحترام الشخصي لهؤلاء، إلا أن أدائهم لم يكن بالمستوى المؤمل لإحداث نقلة تنموية في الأطراف كما كان مخططاً لها.
الآن ... نجتهد ونقول، بأن دولة الرئيس يخطط لتفعيل دور وزارة التخطيط في العملية التنموية، فقد ترأس شخصياً إطلاق مناقشة مسودة البرامج التنموية للمحافظات للأعوام 2013-2016 في مادبا، وهي بمثابتة خطة ثلاثية تذكرنا بحقبة الخطط التنموية التي إتبعها الأردن منذ إستقلال المملكة في العام 1946 وحتى نهاية القرن العشرين والتي أسست لبنية تحتية جيدة في غالبية المناطق في الاردن، فأصبح لدينا ميناء بحري ومطارات وقناة الغور الشرقية وسدود وشبكة طرق ممتازة وربط كهربائي يغطي كامل مساحة المملكة تقريبا وشبكة إتصالات حديثة وشبكة متطورة للإتصالات وصرف صحي ومياه نظيفة للشرب.
العودة للتخطيط شبه المركزي، كما جاء في مسودة برنامج تنمية المحافظات، هو توجه جديّ كونه سيقترن بمبالغ محددة سترصد في موازنة 2014، ونحن نرى بذلك خطوة تصحيحية طال إنتظارها. إلا أننا نرغب بلفت عناية الرئيس وفريقه إلى ضرورة إزالة مواقع التناقض Conflict Areas فالتعايش بين هيئة المناطق التنموية والمحافظ والمجالس الإستشارية والبلديات وصناديق المبادرات الملكية سيكون صعباً، إن لم يكن مستحيلاً في ظل عودة محمودة لبرامج تنموية تديرها وزارة التخطيط.
إذن، سيكون من الأنسب التريث في تطبيق البرنامج لحين إعداد الوعاء المكاني Spatial Envelope الذي سيستوعب هذا البرنامج، وهو ما يعرف بالإستراتيجية العمرانية الوطنية التي تهدف إلى تحقيق تنمية متوازنة بين المناطق. وليسمح لنا دولة الرئيس أن نذكره بإن مثل هذه الإستراتيجية هي الأساس لأية برامج تنموية، فلا يمكن الحديث عن خطة تنمية لمحافظة مادبا على سبيل المثال، دون التطرق إلى مدينة مادبا الصناعية التي خصصت لها أرض مساحتها 500 دونم في منطقة (لب ومليح). وقد سبق لشركة المدن الصناعية أن وقعت إتفاقية إستثمار مع شركة صروح الكويتية لهذا الموقع بالذات، وقد كلفت هذه الشركة السادة PWC لإجراء دراسة جدوى إقتصادية، والتي خلصت إلى أن إقامة هذه المدينة ليست ذات جدوى إقتصادية بسبب بُعد الموقع عن الطريق الصحراوي. وقد سعينا كمخططين للإتصال بوزارة الأشغال العامة والإسكان لتنفيذ هذا الطريق الحيوي، وتبين عدم وجود إستراتيجية للنقل منسجمة مع الإستراتيجية العمرانية.
ما نود أن نقوله يا دولة الرئيس، بأن البدء بالبرنامج التنموي إعتباراً من بداية العام القادم بدون جهوزية الإسترانيجية العمرانية التي تعتمد على أساس نظري للتنمية، مثل نظرية أقطاب النمو Growth Pole Theory وإعتماد (مراكز نمو) مثل مراكز المحافظات، ومحاور تنمية Development Corridors بين مراكز النمو هذه، سيبدد الموارد والجهود الصادقة في تحقيق الرغبة الملكية بإحداث تغيير حقيقي وملموس يشعر به المواطن الأردني.
ولو سمحتم لنا بإسداء النصيحة، لقلنا بأن عليكم إعادة هيكلية هيئة المناطق التنموية لتضطلع بمهمة إعداد الإستراتيجية العمرانية الوطنية، وإعتمادها بقرار من مجلس الوزراء لكي تكون محصنة قانونيا وعابرة للحكومات، بدلاً من إقحام الهيئة في تجاذبات لا تنتهي ضمن هياكل وصلاحيات قانونية لن تتنازل عنها وزارة الداخلية ولا البلديات والتي تجعل من اللامركزية حلماً بعيد المنال.