21-09-2013 09:15 AM
بقلم : أيمن موسى الشبول
بينما كان الاستاذ شاكر منهمكا” في حصته مع الطلاب كعادته أرسل مدير المدرسة في طلبه لا ليشكره ولكن ليبلغه بضرورة مراجعة المركز الأمني للمدينة بعد الشكوى التي قدمها بحقه أحد أولياء أمور الطلاب في المدرسة ... كان الاستاذ شاكر مجتهدا” ومعطاء” ومخلصا” في عمله وأفنى من عمره سنوات طويلة في بناء الأجيال وتنمية العقول ولكن هذا التاريخ الساطع والنقي لم يشفع له أمام أحد أولياء أمور الطلاب والذي قرر جلبه لمركز الامن والمحاكم بعد أن قدم شكوى ضده بحجة ضربه لابنه في المدرسة ...كان ضايط المخفر انسانا” متفهما” للواقع التعليمي المزري ولظروف عمل المعلمين الحساسة فلم يرسل شرطي لاقتياد المعلم من المدرسة ولم يرسل سيارة شرطة لجلبه من أمام الطلاب بل اكتفى بتلفون مع مدير المدرسة حفاظا” على ما بقي من هيبة المعلم ! قال مدير المدرسة للاستاذ شاكر : بجب عليك أن تراجع المركز الأمني فورا” فقد اتصل الضابط وأخبرني بالشكوى المقدمة من قبل أحد الطلاب بحقك وهو يدعي بأنك قد ضربت ابنه سليم بالعصى ... فقال الاستاذ متعجبا” : لا حول ولا قوة الا بالله ... شكوى ! والله إنها لم تكن سوى عصاة واحدة وخفيفة وضربته إياها بعد أن أساء الأدب عدة مرات„ في الحصة الصفية !! وعندها قال المدير بصوت حاد„ : يا أخي ـ يا استاذ ـ يا محترم لا تضرب لا تضرب ... مليون مرة قلنا هالكلام ـ لا تضرب ! ... وعندها تدخل مساعد المدير قائلا” : يا أخي انت ما أجيت تقع الا مع هؤلاء ـ والله مني عارف كيف بدك تخلص منهم ؟ الله يستر والله يمرقها على خير ... بينما قال أحد المعلمين الجالسين : يا أخي انت ليش شاد على أباطك ؟ قروا الطلاب والا عمرهم ما قروا ـ يا أخي أكتب جملتين على اللوح واشرحهن وبعدين فهموا الطلاب والا عمرهم لا فهموا ... كل قوانين التربية هيك بدها ما حداش يفهم ـ يا عمي التربية هيك بدها ولا حدا يفهم !
وعندها طلب المدير من آذن المدرسة أخذ تواقيع المعلمين وبأقصى سرعة على مجموعة كبيرة من التعميمات القديمة والجديدة والتي تحضر على المعلمين توجيه أي نوع من أنواع العقوبات ( البدنية واللفظية والنفسية و... و.... ) بحق الطلاب ... ثم صرخ بعد ذلك أمام غرفة الإدارة : يا عالم يا محترمين لا تضربوا لا تضربوا ... وبينما كان المدير مستمرا” في صراخه غادر الاستاذ شاكر الى المركز الأمني لمتابعة هذه الشكوى ... وعندما وصل المعلم للمركز الأمني المعني أبلغه الضابط المناوب بتفاصيل تلك الشكوى وقال انها من ولي أمر الطالب سليم الدفش وهو يدعي بأنك قد ضربته بالعصا وقد أحضر معه التقرير الطبي اللازم وبعد ذلك طلب ضابط المركز من المعلم مراجعة المحكمة بعد يومين للجلوس للمحاكمة ثم أخلى سبيل الاستاذ بكفالة مالية ولكن ضابط المخفر لم ينسى أن يقدم نصحه للمعلم بقوله يا أستاذ : لا تضرب وعمر لحدا قري وفهم ... ثم غادر الاستاذ شاكر عائدا” لبيته وكان يبدو على وجهه الاعياء والتعب وعندما علم أفراد اسرته بما حصل معه في المركز الأمني أسمعوه نفس النصائح والعبارات التي صمت اذنيه طيلة ذلك اليوم وهي : لا تضرب الطلاب ما بدها تقرا ـ لا تضرب المجتمع ما برحمك ـ حصتك اشغلها بجملتين وقصة صغيرة ـ ودرسك أكتبه على اللوح وخلهم ينسخوه على مهلهم ـ وعمر لحدا فهم ـ وعمر لحدا قري ! ـ لما تقع يا مسكين ما حداش برحمك والكل بشمت فيك ! ... الخ
لكن كل تلك النصائح لم تعد تنفع في هذه اللحظات فالمعلم أصبح مدان ومتهم وملام من قبل الجميع ... ولكن السؤال المطروح هو : كيف سيتجاوز الاستاذ المسكين هذه المشكلة والورطة بأقل الخسائر الممكنة ؟ ... وبعد يومين راجع الاستاذ شاكر المحكمة لحضور الجلسة المقررة ووقف المعلم في قفص الاتهام ومشاعر المرارة والاسى والاحباط تسيطر عليه وهو يرى نفسه يقف وجها” لوجه مع الطالب المشاكس والأزعر والأرعن وسيء الخلق سليم الدفش ... وبدأت المحاكمة ثم تلى قاضي المحكمة تفاصيل القضية وادعاءآت الطالب وولي أمره بضرب الطالب من قبل المعلم وبعد ذلك طلب القاضي سماع ردود الاستاذ على ادعاءآت الطالب وولي أمره فأجاب الاستاذ بكل مرارة وأسى ـ يا سيادة القاضي : في البداية أنا مربي وانني اجاهد لتربية الابناء ثم لتغذية عقولهم ولنفل المعلومة لهم ومن بجاهد سيواجه الصعوبات والعقبات الكثيرة وحيث أن عملي قد ارتبط بتربية طلاب لم تنضج عقولهم ولم تكتمل أخلاقهم ولم يبلغوا سن الرشد لذا فان العقبات و الصعوبات التي تعترض عملي التربوي والتعليمي هي كثيرة جدا” ويشهد الله بأنني أعامل الطلاب بنفس الطريقة التي اتعامل فيها مع ابنائي في البيت وكم ستكون سعادتي إن وصلت لغايتي وحققت هدفي ومرادي دون أدنى ضجيج ولكن الإعاقات موجودة ما دام كثير من أولياء الأمور بدعون أبناءهم للشارع يسيرهم كما يشاء ويتركونهم للنت ليتلاعب بهم كيفما يشاء ولكنني لن استسلم وسأبذل كل جهدي لتذليل الصعوبات ومعالجة التقصير الحاصل من بعض أولياء الأمور في تربية وتوجيه الأبناء ... وليعلم الجميع بأن المعلم كان هدف الوحيد منذ الأزل ولم يزل : توصيل المعلومات وترويض العقبات والارتقاء بسلوك الطلاب وبعقولهم وفكرهم وأخلاقهم ... سيدي القاضي : ما بال الوسائل القديمة التي تعلمنا من خلالها في الماضي القريب والبعيد ؟ ومن ماذا تشكي هذه الوسائل حتى تتبدل ؟ ... رحم الله أستاذي ومعلمي الفاضل : عبد الرحيم والذي كان يحمل العصى في يده ثم يردد أمام الطلاب كل يوم„ :اعلموا أن هذه العصا هي فقط لمن عصى ... ورحم الله استاذي ومعلمي الفاضل : فايز والذي كان يملأ السبورة ثلاث مرات في الحصة الواحدة ونحن نصغي لكل ما يقوله في الدرس دون همس ونسارع للكتابة خلفه دون كلل أو ملل لكي نراجعه ونحفظه في البيت ... ورحم الله الاستاذ الفاضل : خليل والذي كان يشرح لنا الدرس بينما عيونه تطاردنا وتراقبنا لكي لا نسهو للحظة واحدة عما يقوله وما يفعله ومن سها عن الدرسسارع لتوجيه السؤالمفاجئ اليه ليتأكد من مدى إصغاءه وملازمته للدرس فان أجاب أثنى عليه وإن تلعثم عنفه ثم طالبه بضرورة المشاركة والانتباه للدرس بشكل أفضل ثم قال : لن أسمح لطالب بخفض عينيه أثناء الحصة لإن العيون هي مغاريف كما كان يقول ويردد ... لقد كانت وجوه الطلاب تتصبب عرقا” أثناء حصته وهي تراقب حركاته وتحاول فهم كل جمله وعباراته خوفا” من سؤال مفاجيء قد لا يجيبون عليه فيكونوا عرصة” للتوبيخ والتعنيف وربما الضرب أمام الجميع ... والله لقد عاقبنا المعلمون فما نقمنا عليهم ولا حقدنا ألدا” على واحد منهم بعد أن علمنا الآباء بأن للمعلم مكانته المرموقة وحصانة المصانة وبعد أن غرس فينا المجتمع بأن المعلم هو صاحب رسالة تربوية وتعليمية سامية وخالدة ... رحم الله المعلمين الأوائل والذين أمسكوا الطبشورة البيضاء في يدهم اليمنى بكل اخلاص وأمسكوا في يدهم اليسرى بالعصى الغليظة بكل حزم ثم أفنوا أعمارهم وهم يصنعون الاجيال تلو الأجيال وجاهدوا لغرس رسالتهم السامية في العقول والقلوب وفعلا” فقد أوصلوها بأزهى الحلل وعلى أكمل وجه وصورة ... وبما أن قياس الامور بالنهايات وقياس الزراعة بالثمرات فالبون شاسع بين النهايات التعليمية القديمة والحاضرة يا سيادة القاضي : قدم التعليم الأول لهذا البلد : طلابا” أذكياء ونجباء وأصحاب خلق كبير ومنطق وفير وعلم غزير ... بينما قدم التعليم الحاضر للبلد طلابا” فارغين ولا يجيدون غير العنتريات والغش ومواكبة الموضات وتقليد الصرعات والجلوس على جوانب الطرقات ... ان كثيرا” من الطلاب الذين أنهوا التوجيهي هذه الأيام وبأعلى المعدلات لا يحسنون القرآة ولا الكتابة !!! ... بينما كان طالب التوجيهي القديم يملك من المهارات الغزيرة ما يؤهله لممارسة كل شيء وحتى التدريس في المدارس اذا لزم الأمر ... سيادة القاضي : نحن فقط من يقطف الثمار وقد قطفنا ثمرة الصبر والاجتهاد والانضباط المدرسي في الزمان الأول والقديم ولكننا أصبحنا اليوم نجني الحنظل والاشواك ونهدم كل ما بنيناه وسهرنا وتعبنا لاجله ... سيدي القاضي : بسبب ترهل الوضع التعليمي عندنا لم يخسر المعلم هيبته فقط ولكن الجميع خسر فالمستشفيات خسرت الكفاءة والمحاكم والمؤسسات والدوائر قد خسرت الصدق والنزاهة وكلكم يعلم بأن الدروس الخصوصية أصبحت تشكل أدوات نهب لجيوب أغلب المواطنين في هذه الايام ولكن هذه الدروس لم يكن لها وجود وحاجة يوم كان للتعليم عزه وبريقه ولكن هذه الدروس باتت اليوم شبه مفروضة مع تراجع الانضباط المدرسي ومع ترهل الواقع التعليمي وهناك من الآباء من إظطر لوضع أبناءه في مدارس خاصة ومكلفة جدا” أثناء محاولاته لتوفير تعليم مدرسي جبد ومقبول لأبناءه وكل ذلك قد لا يفلح في معالجة الخلل التعليمي الحاصل ... قد يقول البعض بأن هذا الزمان قد تغير أو تبدل : هي مقولة صحيحية ولكن يجب أن يتذكر من يرددها بأن الطبيعة البشرية هي ثابتة ولم تتغير عبر التاريخ ... فمنذ الأزل كان الثواب والعقاب وكان الزجر والنهر ومنذ خلق الانسان كان النعيم وكان الجحيم ... ولن تستقيم هذه الحياة إن أصبح المسيئ والمحسن سوآء ـ ولن تستقيم الحياة إن أصبح المستهتر والمجتهد سوآء ـ وأصبح الكافر والمؤمن سوآء ـ ولكن المشكلة تكمن في عدم تفعيل العقوبات والالتفاف على الانظمة والقوانين والتعليمات والذي سيجعل المحسن والمسيء سواء بسوآء ـ كما أن استفحال الغش بين الطلاب سيجعل المجتهد والمستهتر سوآء ـ سيادة القاضي : قبل الشرح والتعليم لا بد من التربية والتقويم وهذه المسلمة لا تقبل النقاش من أحد ولا شك بأن المعلم العاقل قد يخطئ نتيجة ضغوط العمل والحياة كل شهر أو فصل دراسي مرة ولكن الطالب الجاهل الجهول قد يخطئ كل يوم مرة تلو مرة ولا سيما ان اضفنا الى جهل هذا الطالب سوء التربية والتوجيه وانعدام التقويم من الآباء ... وعندما سمع القاضي هذا الكلام وهذا الدفاع من المعلم قرأ الفاتحة على روح التعليم الاردني ثم أعلن تأجيل الجلسة الى ما شاء الله ...