28-09-2013 04:18 PM
بقلم : حمزة عبدالرحمن الشقيرات
يصادف غدا السبت الثامن والعشرين من ايلول لعام الفين وثلاثة عشر ميلادية اليوم الاربعين لوالدي الذي يرقد في قبره امنا مطمئنا باذن الله .
الفاتحة على روحة الطاهرة
لأولِّ مرةٍ أجدُ قلمي جافاً حافاً!
أشحذ مدادَه
وأستجدي خطاه
ليحاولَ وصفَ رجلٍ أتهيَّبُ فكرةَ الحديثِ عنه؛ كوني سأظلمه لا شك.
في العشرون من أب المنصرم .. توفي والدي الحبيب!
هل أقول إن ذاك الخبرَ كان صاعقةً أحرقت عروقي
أو خنجراً موبوءاً دمّرَ فؤادي
أو موتاً قبل الموت غصَّ في حلقي
ولربما كلها مجتمعة.
زفراتٌ ودمعاتٌ ولهيبٌ لا يطفئُه سوى الاسترجاع؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولله ما أخذ ولله ما أعطى، وكل شيء عنده إلى أجل مسمى.
الحمد لله حتى يرضى، وله الحمد إذا رضي، وله الحمد بعد الرضا.
لا إله إلا الله العلي العظيم ترطب ألسنتنا وتسقي أفئدتنا؛ وقد كان يرفرف بها لسان والدي حتى في غيبوبته!
إن شئتم حدثتكم عن والدي الرجل! وإن شئتم الأب، أو الصديق، أو الحبيب، أو سموه ما شئتم
كل ذلك كان أبي.
أب - والله - ليس ككل الأباء. في نظري ونظر اشقائي وشقيقاتي واحفاده
فريد في صفته وتعامله وخلقه.
تربينا في كنفِه الحنونِ على الإيمانِ وحبِّ الصلاة، ربطَنا بها عمودِ الدين، وظلَّتْ هي هاجسَهُ حتى بعد وفاته؛ غفر الله له وشمله برحمته وكرمه؛ فهاهو يُوقِظُنا فجرا مرددا الصلاةَ الصلاة الصلاة! فيفزعون إليها - رغمَ تثاقلِهم مسبقا - حباً وكرامةً ووفاءً، ويأتي غيرَ مرةٍ في مناماتِنا يُوصي بالصلاة كما كان ديدَنه من قبلُ.
في المستشفى وفي البيت وفي أشدِّ حالاتِه حرجا لم يُقلقْه الألمُ ولم تشغلْه المعاناة.. تدرون بمَ كان يُشغل ؟ كان يردد الفجر وبكثرة - الى ان قبضت روحة فجرا وهذا ما ادركناه بعد وفاته .
فينادي في داخله منادي الصلاة - حساً دون أذان يُسمع - خمسَ مرات في اليوم في أوقاتها الدقيقة، فيطلبُ العفو ويصلي، لا يمكن ان يصلي فرضا من الفروض الا ان يصلي قبله سنة الوضوء ، ويُحدِّث عن عمود الدين التي إذا صلُحتْ صلحَ العمل كله.. وفوق هذا يُشفق علىنا وعلى كل من عرفه سواء اكان وهو صحيحا او مريضا .
آهٍ يا أبي.. لست أنسى مذ طفولتنا تحملك مسؤولية إيقاظنا فجرا ذكورا وإناثا ليلحقَ بك الأولون جماعةً ويصليها الآخرون في وقتها.. لا تشتكي ولا تملُّ رغمَ ما تقضيه من وقت في سبيل ذلك.
هل تنسى قريتنا وقاطنيها اصحاب الضمائر الحية يا أبي ما ربيتنا عليه وعودتنا من صيام رمضان فيها، الى أن اشتد عليك المرض الذي تعاني منه من العام 2002، اشتدادِ الأزماتِ عليك احد عشر سنة متتالية وإدخالِك المستشفى بين الفينة والاخرى وقد كنت كلَّ سنةٍ تحاولُ التحديَ والصبر على البلاء والمرض لتصمدَ ولكن الله يبتيلك بمرض اخر موقنين بقول( المؤمنين اشد بلوى) .. حتى سلَّمتَ ففارقتها راضيا مرضيا . متمما لواجباتك الدينية على اكمل وجه.
حديثي عن حرصك على هذا الفرض بابٌ لا يقفل.. وهدير بحر لا يهدأ! أنى له الهدوء وأنت محموم تعاني الم الجلطة الحادة الدماغية التي قال عنها مستشاري الاختصاص من مشافي الاردن بانها حادة ومن اعظم واكبر الجلطات التي تصيب الانسان - فصبرت عليها وافقت من غيبوبتك التي استغرب الاستشاريين هذه النقلة النوعية بمثل هذه الحالة - ولكن -ليس لنا الا الصبر والاحتساب - تحسنت حالتك يا والدي الغالي وفرحنا لذلك عندما اخبرنا الاطباء بانها مسألة وقت للشفاء- ولكن يحتاج لوقت -فرحنا ايضا - ولا ندري ما يخبأة القدر لك - كنا نسمع الاطباء يقولون :مرحلة الخطورة عدت -سيعود العود وسيقوم بالسلامة -لم اجرؤ ان ادخل الى غرفة العناية المركزة ليس خوفا من شيء- ولكن لا اقوى ان اراك لا تقوى على شيء وكنت بالامس القريب شديد عديد -تقدم النصح والتوجيه والارشاد لي ولاشقائي وكل من عرفك-فقد كنت يا ابي متعلقا فريدا بالصلاة التي هي غذاؤك ودواؤك وهواؤك!
كنت تعاني الم الجلطة الدماغية التي اكلت نصف دماغك - حسب الراي الطبي- ولكنك رحمك الله افقت منها - وطماننا الاطباء بانك ستعود - كنا نتوقع ان تكون الجلطة هي القاضية- ولكن - لم تمت من الجلطة الدماغية - نعم متت من توقف القلب المفاجيء لست مرات متتاليه - الى ان جاء يوم وفاتك فجر الثلاثاء - العشرون من اب
أبي.. أشعر أن أنفاسي تخنقني وأنا أشرع في الكتابة عن خلقك! هل سأقول خلق الصالحين أو سمة الأنبياء؟! لا والله.. لا أغالي إن قلت (ان اخلاقك توزن بلد باكملها) إي والله! أجدني بحاجة إلى أن أكتب وأكتب؛ غيرَ أن ذاك الوصفَ مروٍ للعطش شافٍ للعلة.
الورع والبعد عن الشُبه مَسلكُه، حب الفقراء والمساكين سلوته.. آه أبتاه حديث (لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) كان شعار عملك.. كم وكم من الصدقات والقربات اتضحت لنا بعد موتك!
كم من امرأة وطفل ورجل أتوا وينتحبون في بيت عزائك .. وكنا نحن من نعزيه فيك، لا انسى ذلك الشخص الذي قابلني قبل ايام بعد وفاتك وقال لي رحم الله ابوك رحم الله ابو محمد- مفرج الكربات عن الناس والفقراء - رحم الله ابو محمد الذي كان يكفل الايتام- رحم الله ابو محمد الذي لم يبخل يوما في تفريجه عن الناس .. ويقول هؤلاء من يُعزون في الحاج عبدالرحمن (ابو محمد) ابشر اخي سنسلك نفس الطريق الذي سلكه والدنا الغالي وسنسير على نفس الدرب ما دامت السموات والارض - كيف كان والدنا وحبيبنا بارا بوالديه سنكون له كذلك ! لن ننسى من كان والدنا يبرهم ويقدم لهم - ان شاء الله .
في بيتنا كان لك حضورك وهيبتك مذ طفولتنا، نتسابق حين مقدمك لنقرب لك ما تريد، لم ترفع يدك ولا صوتك لتأديبنا، غاية ما هناك - إن حِدْنا - أن تنظر إلينا من زاوية إحدى عينيك فنكُفّ! سبحانك ربي.. الذي أنزل في نفوسنا هيبتك (بغير خوف) دون أن تُعنِّف أو تضرب!
يا لجمال جلساتك الطيبة معنا.. تُلاطفنا وتقص علينا قصص الأولين والآخرين، وتُعبر عن محبتك، وتحتفي باحفادك المزعجين، وترغبهم بتوفير ما يشتهون من الحلوى والعصائر، وتتفقد كل واحد منهم، وتحزن لغياب أحدهم، تتمنى دوما لو اجتمع كل أبنائك وأحفادك حولك.. إنها قمة سعادتك. فماذا اقول الان الى ( بشر وونس-وبراء -ومؤنس وخالد وعمرو ) وماذا اقول لمن حمل اسمك حتى لا ننساه ماذا اقول لعبد الرحمن الذي بكاك بحرقه -الحفيد للجد -وماذا اقول لابناء الغالية ام معن (معن ومصعب) الذين كانوا يواظبون على زيارتك والاستماع لقصصك وانت بصحتك وعافيتك ولعبدالله الذي لم يغادرك في محنتك ومرضك .............وماذا اقول لعلي الذي ودعك على امل ان يلتقيك ثانية ............ساقول جدكم انتقل الى الفردوس الاعلى ونحسبة كذلك لاننا ندرك سيرتة الدنيوية العطره -نعم ان شاء الله ستكون منزلته في عليين وفي الفردوس الاعلى منها -اطمئنوا - جدكم وابانا عاش كريما - ومات عليها - جدكم لم يسيء لاحد في حياته - لكن هناك من اساء اليه - بالقول واللفظ -فمن اساء اليه - فلا سامحة الله - نحن نقول ولكن المرحوم ابي لم يقلها وانما مات وهو يسامح ويصفح -فالله درك يا وا لدي الحبيب .
آهٍ أبتاه لتلك الغرفة المسكينة التي يُسمع أنينها من بعد، تنشد من يُسليها ويعزيها بعدك، تستجدي من يحييها لأنها ماتت معك! كنت أنت أنيسها، كل ليلة تستأذن منا حدود التاسعة لتنام، فننام متأخرين ولما تنمْ بعدُ؛ تنشغل بالوضوء والنوافل وقراءة القرآن والذكر، كل ذلك كان قبل مرضك وكلما استيقظ أحدنا جوف الليل أو آخره وجدك قائما على تلك الحال.. متى تنام؟!! لست أدري! هذا حالك مذ عهدناك؛ بل مذ عرفتك والدتي، لا يثنيك عنه اي شغل .
رحمك الله أبي وعوضك راحة في الفردوس الأعلى بصحبة الأنبياء والشهداء والصالحين.
لم نعرف لك عدوا أبدا، كل الناس اجتمعت على محبتك، يشهد بذلك جموع المصلين الغفيرة والمعزين؛ بل والمشيعين للجنازة!
لا أعجب مما أسمع ولا مما يقوله الناس؛ لأني أعرف أبي جيدا
لا اعجب عندما رايت الممرضين والاطباء يبكوك-ايقنت انك محبوب عند كل من عرفك
لم يُعهد عنه طيش الشباب ولا غرّة الصبيان، ارتبط بالصلاة ولزم بر والديه وقرأ القرآن ورتله وجعله أمام ناظريه لا يحيد عنه في تصرفاته،
منك أبي نتعلم كل شيء بلا لغة! سوى لغة العمل
صدقك أمانتك سلامة صدرك ورعك نزاهتك كرمك... إلى آخره.
معانٍ لم نعرفها ألفاظا إلا على هذه الورقة
لم تتحدث يوما عن إحداها، غير أن حياتك وتعاملك غرسا رسائل قوية في قلوبنا مفادها (التربية بالتطبيق لا التلقين).
لسانك لم نعهد منه إلا الدعاء وجميل اللفظ! لسنا وحدنا من يشهد بذلك، بل شهد به القاصي والداني،
آهٍ أبتاه.. حلمك يعجب منه الحلم! منك تعلمنا أن كل شيء يأتي بالحلم أو التحلم. قدرتك على اختراق قلوبنا وعقولنا بكمال خلقك عجيبة جداً! أسرتنا صغارا وقدتنا كبارا وعلقتنا بك بذكراك بعد وفاتك.
في كل موقف.. وكل بقعة.. وفي ذهن كل واحد منا؛ لك أثر.. ذهب؛ غير أن ريحَه باق.
إن كانت شهادتنا بك مجروحة فهاهي جموع المصلين والمشيعين والمعزين والبعيدين والقريبين تشهد لك بالخير والبركة.. ألوفهم المؤلفة تنبئ عن مكانتك.. وتحكي قصة حياتك، ولا زلنا - رغم مرور اربعون يوما على سكناك الروضة - نسمع من قصص القريبين والبعيدين والغرباء والأجانب معك ما يُضاف لما نعرفه عنك ويزيد إعجابنا بك ويُشعل أيضا ولَهَنا لقُبلاتٍ نطبعها على جبينك التي زانها وسم السجود.
أبي الطاهر.. طهارة الباطن والظاهر! لست أعهد عن والدي سوى الطهارة الدائمة فترة صحوته.. وحينا سألته مرة: هل أنت على وضوء لاناولك المصحف ؟ فقال : أيا حمزة تعهدتُ نفسي بالوضوء ما لم أنم، علني أمس مصحفا أصلي أو أذكر حديثاً فأكون مستعدا لهذا كلِّه.. ومع ذلك كان يُجدد وضوءه للصلاة (نور على نور). ويقول لي : سلاح المؤمن الوضوء-
أما الظاهر فوالدي رجل نظيف المظهر حسنُ الهيئة طيبُ الرائحة، لا يُقابل صغيرا ولا كبيرا إلا بثوب نظيف ، لا يتكأ ولا يستلقي حتى عند أهل بيته إلا في مضجعه.
كل ذلك قبل مرضه
كان يأخذ زينته للمساجد ويتعطر ويتطيب احتسابا ، فجازاه أرحم الراحمين بأن عطره بأجمل الروائح لحظة قبض روحه رحمه الله. وكما تمنى
ماذا يسعني أن أقول في رثاء والدي؟ أجدني والله عاجزا على المضي في الكتابة عنه؛ كونها لم تشفِ غلة! وقد ظللت شهرا مضى أهدهد قلمي أسأله المسيل.. فكانت قطراته تتردد لعظم الخطب وجسامة التقصير.. فوالله إني مقصر في حقك أبي، كتابة مقال ليست شافية.. فالسنون التي قضيناها معك بحاجة لسنين من الكتابة علنا ننقل شعلة ونبراسا لما تعلمناه منك -
لست أنسى وأنا أضع القلم أن أعزي والدتي الحبيبة تلك المرأة الصابرة الوفية السائرة على إثرك، وأسأل الله أن يمد في عمرها ويرزقها العمل الصالح، كما أعزي نفسي المكلومة وإخوتي واخواني، ولا يفوتني أن أعزي كل الاحباب والاصحاب والانسباء والاقرباء الذين يعرفون والدي عن قرب وكثب ، نسأل الله أن يمد في عمر والدتنا ويجزيها خير الجزاء ويعيننا على برها ويجمعنا بوالدنا في الفردوس الأعلى.
ابنك الذي لن ينساك للابد
حمزة الشقيرات
الثامن والعشرون من ايلول لعام الفين وثلاثة عشر ميلادية