06-11-2013 10:39 AM
بقلم : د. سامي الرشيد
لماذا فقد البعض منا أنبل وأرقى المشاعر التي ميّزه الله بها عن الحيوان، مشاعر الرحمة والرأفة والمروءة والتكافل والتراحم بين الناس، بلا تفرقة من دين أو ملّة أو طائفة أو جنس أو عرق.
هذا التناقض القائم اليوم نشاهده في نزاعات وحشية وحروب أهلية وصراعات على السلطة، وأنظمة دكتاتورية، واستغلال اقتصادي وتهافت القيم، وتداعي روح التضامن بين الناس، وانحسار روح المسؤولية، وعدوان الإنسان على الإنسان، وعبادة المال والقوة والسلطان.
التناقض اليوم بين كل هذه الموبقات وبين نضالات الثورات الإنسانية المستمرة لتهذيب الإنسان وحمايته، وإقامة الأنظمة المناهضة للاستبداد واحتكار السلطة والثروة، والقضاء على الفساد المالي والإداري وكفالة العدالة الاجتماعية والتأسيس الراسخ والمتين للعيش المشترك بين بني البشر على أساس من المساواة التامة في الحقوق والواجبات.
لابد أن نحافظ على إنسانيتنا ونبقي عليها وألاّ نفرط بها. يجب ألاّ نستمع للدول الكبرى التي لا تهمها إلاّ مصالحها وتكيل بمكيالين ونحتار من التناقض الحاصل في تصرفاتها وإليكم المثال التالي.
في مستهل التسعينات من القرن الماضي وبالتحديد في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، واجهت الولايات المتحدة تحدياً كبيراً من جانب جماعة دينية بروتستانتينية متطرفة، نشأت في عام 1955م، تسمى الداووديين، نسبة إلى النبي داود ويزعمها شخص اسمه ديفيد كورش، نسبة إلى كورش ملك فارس، الذي أعاد اليهود من السبي، وأطلق ديفيد كورش على نفسه لقب شيخ الداوديين الذي يقود أتباعه لتدمير الدولة الأمريكية.
هذه الجماعة تنتمي إلى اليمين الأمريكي المتطرف، وتشترك في العديد من المعتقدات اللاهوتية مع اتباع الديانة اليهودية، ويؤمن أعضاء الجماعة أن المجيء الثاني ليسوع على وشك أن يحدث ليقيم العدل على الأرض.
ووعد كورش أتباعه بالتوجه إلى فلسطين ليكونوا في انتظار المسيح المنتظر.
في عام 1993م حصلت سلطات الأمن الأمريكية على معلومات مؤكدة بأن أعضاء هذه الجماعة يتاجرون في الخمور والسلاح ويزودون به جماعات اليمين الفاشي المناهضة للحكومة الأمريكية.
في ضوء هذه المعلومات تم التضييق على أعضاء الجماعة، ومطاردتهم في كل مكان حتى انسحبوا بعائلاتهم وأطفالهم إلى مزرعة بمنطقة واكو في ولاية تكساس، وأطلقت على هذه المزرعة اسم جبل الكرمل.
حصلت سلطات الأمن الأمريكية على إذن قضائي بتفتيش موقع اعتصام الداووديين في واكو، وتوجهت قوة من مكتب التحقيقات الفدرالي للتنفيذ، ولكن شيخ الداووديين وأتباعه بادروهم بإطلاق الرصاص، مما أدى إلى مصرع 4 من قوات الأمن الأمريكية، التي ردت بقتل 6 من الداووديين.
فرضت القوات الأمريكية حصاراً على المرزعة استمر لمدة 50 يوماً من 28/2 – 19/4/1993، لإجبار الداووديين على فض الاعتصام سلمياً دون جدوى.
في النهاية قامت القوات الأمريكية بفض اعتصام الداووديين بالقوة، واستخدمت الغازات والدبابات والمدافع والرشاشات، واشتبك الجانبان في معركة استمرت ساعتين، وقد رافقت وسائل الإعلام الأمريكية القوات التي قامت بفض الاعتصام بطريقة وحشية وتمت إذاعة الهجوم تلفزيونياً على الهواء.
أسفر الهجوم عن مصرع 80 شخصاً من الداووديين بالإضافة إلى 20 طفلاً وامرأتين، واستسلم تسعة أعضاء منهم خلال المعركة، وكما تم قتل شيخهم واحترقت جثته، واحرقت القوات الأمريكية مزرعة واكو بكاملها وإحالتها إلى كتلة من النيران.
لقد أصرت أسرة ديفيد كورش على لف جثمانه بالعلم الإسرائيلي وليس العلم الأمريكي قبل دفنه في تيلور بولاية تكساس.
أكدت السلطات الأمريكية أن القوات اجتاحت اعتصام الداووديين، بعد أن تأكدت من قدرتهم على الاستمرار في الاعتصام لأجل غير مسمى، واحتفاظهم بترسانة ضخمة من الأسلحة، وأن الإجراءات الأمنية حول مزرعة واكو تكلف مليون دولار يومياً.
أكدت التقارير أن الأطفال يتعرضون لانتهاكات مروعة داخل الاعتصام، بما في ذلك الاعتداءات الجنسية، وأصدرت جانيت رينو النائب العام الأمريكي آنذاك، أمراً بفض الاعتصام وأيضاً استخدام الغازات في الهجوم، ووافق الرئيس كلينتون على العملية دون أي قيد ولا شرط.
في ذلك الحين لم يتحدث أحد في داخل أمريكا عن حقوق الإنسان أو المعاملات الوحشية التي تم بها فض الاعتصام.
هل تتصرف أمريكا بذات التصرف لو حدث ذلك في أي بلد آخر أم تكيل بمكيالين ومعايير مختلفة؟ وتناقض بين هذا وذاك؟
يتباكى الغرب دائماً علينا، لإقامة الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان وعدم اللجوء للعنف، والتي تبدو كلها اعتبارات إنسانية نبيلة ومواقف سياسية شرعية ومقبولة، ولكن أين عدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام استقلال الدول وأين هذا التطبيق بعدالة لدى الجميع.
يجب أن نصحو ولا نسمح لأحد التدخل بشؤوننا وتطبيق ما هو في صالحنا وصالح وطننا وشعبنا.
dr.sami.alrashid@gmail.com