12-11-2013 10:36 AM
سرايا - سرايا - في نهاية ثمانينيات القرن العشرين، أنتجت المؤسسة العامة للسينما أول فيلمين روائيين يحملان توقيع مخرجين ينتميان للطائفة العلوية في سورية: (نجوم النهار) للمخرج أسامة محمد (1988) و(ليالي ابن آوى) للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد (1989).
الفيلمان كانا ينطقان باللهجة العلوية وقد تأخر البت بعرضهما. ويروى أن وزيرة الثقافة آنذاك د. نجاح العطار، نظمت عرضاً خاصاً للرئيس حافظ الأسد لمشاهدة الفيلمين. الفيلم الأول (نجوم النهار) قيل إن الأسد كان متجهماً وهو يشاهده طوال الوقت، وعندما انتهى لم ينطق بكلمة. فقررت الوزارة منعه من العرض الجماهيري. أما الفيلم الثاني فقد ضحك السيد الرئيس وابتسم في أكثر من موقف… فتم الإفراج عنه وعرضه… وأتيحت فرصة أخرى لمخرجه لإنجاز فيلم آخر بعنوان (رسالة شفهية) بعد عامين فقط من ظهور الفيلم الأول… ثم كرت السبحة ليصبح المخرج عبد اللطيف عبد الحميد أكثر المخرجين الذين حصدوا فرص إنجاز أفلام في تاريخ إنتاج المؤسسة العامة للسينما الشحيح كما هو معروف!
أضحكتم العالم علينا!
لا أقصد بهذه الملاحظة الغمز من رضا السلطات على المخرج عبد اللطيف عبد الحميد على طول الخط، إذ أذكر في تسعينيات القرن العشرين وكنت أعد تقارير نقدية لبرنامج (مجلة التلفزيون) في التلفزيون السوري… وكان احدها يتحدث عن تنوع اللهجات في الدراما السينمائية والتلفزيونية السورية على ما أذكر… أن مخرجة البرنامج وهي تنتمي لذات البيئة، حذرتني من أن أستشهد بمقاطع من فيلمي (ليالي ابن آوى) و(رسائل شفهية)، لأن مدير التلفزيون آنذاك السيد علي عبد الكريم علي (سفير النظام السوري في لبنان حالياً) لا يحب هذه الأفلام، وأعطى توجيها شفهياً بعدم عرض مقاطع منها في برامج التلفزيون لأنها على حد تعبيره (ضحكت العالم علينا).
السيد علي عبد الكريم وهو من الطائفة العلوية كما هو معروف، كان يعتبر – بأفقه المخابراتي الضيق – أن هذه الأفلام أضحكت الناس على أبناء طائفته… ولو أخذنا كلامه كمقياس لأمكن للدمشقيين أن يكرهوا دريد ونهاد ويطالبوا بمنع مسلسلاتهم الكوميدية لأنها تتخذ من البيئة الدمشقية المحددة الملامح واللهجة واللباس والمكان مناخاً لإضحاك العالم أيضاً… ولكن بالتأكيد ليس على الدمشقيين… بل على شخصيات ونماذج وكاركترات يستطيع الفن أن يجردها من مفهوم الإساءة المتعمدة للبيئة، حتى وهو يتلصق بها في كل عناصره.
بعيداً عن هذا التفصيل الذي تم تجاوزه لاحقاً، لا بد أن نشير أن الفيلمين المذكورين (نجوم النهار) و(ليالي ابن آوى) أعلنا ولادة الفيلم الكوميدي في سينما القطاع العام في سوريا. كما ذكرت في كتابي (الكوميديا في السينما العربية) الصادر عام 2003 لكن بالتأكيد مفهوم الكوميديا هنا مختلف جداً عما عرفه الجمهور السوري في تجارب كوميدية سابقة في سينما القطاع العام، كان أكثرها رسوخاً في الذاكرة تجربة دريد ونهاد في الستينيات والسبعينيات، ثم تجربة دريد مع محمد الماغوط في الثمانينيات. فرغم أن البيئة الريفية في جبال العلويين هي جزء أساسي من عناصر الكوميديا ومناخاتها، إلا أننا أمام كوميديا من نوع مختلف، ذات أبعاد سياسية واجتماعية تشرح واقع تلك البيئة ونمط علاقاتها، وامتداداتها في السلطة والحكم والعسكر بشكل أو بآخر.
نجوم النهار: تشريح غير مسبوق!
يروي فيلم (نجوم النهار) سيرة عائلة ريفية، انطلاقا من حدث، يحمل في طياته بوادر التصعيد درامي مفتوح على كل الاحتمالات والمتضادات؛ حيث ينطلق من تفاصيل الاستعداد لعرس يقوم على زواج مبادلة، بين اثنين من أبناء العمومة، أرادته العائلة توطيدا لأواصر القربى والألفة والمحبة بين أفرادها.
لكن الأمور لا تجري في المسار المرسوم لها، الذي عمل الأخ الأكبر ‘خليل’ على ضبط مجرياته. فها هو العرس يتحول إلى مأتم وفضيحة، بهروب إحدى العروسين مع سائق الباص الذي أحبته. وحين تكتشف ابنة العم الأخرى ذلك، ترفض إتمام الزواج من شقيق العروس الهاربة القادم من ألمانيا، انتقاما لشقيقها الطيب القلب… وتنشأ مشاجرات حادة بين أولاد العم، تقلب العرس رأسا على عقب!
تترك ‘سناء’ التي رفضت الزواج من ابن عمها القرية، لتذهب مع شقيقها الأكبر ‘خليل’ للإقامة في بيته الضيّق في اللاذقية، حيث تعمل هناك في مصنع، فيما يستولي شقيقها على معظم ما تجنيه من عملها بطريقة استغلالية بشعة. في هذا المصنع تتعرف على شاب بسيط وتقع في حبه، ورغم أنه يأتي إلى الضيعة للتعرف على العائلة والتقدم لخطبتها، إلا أن رؤية شقيقيها له معها في سوق الخضار، تؤدي إلى إنهاء هذه العلاقة، بعد علقة ساخنة، باحثين عن زوج آخر لشقيقتهم بأية طريقة!! وتتجه الأنظار كالعادة إلى داخل العائلة، التي تلهث وراء لم شمل أفرادها بشتى السبل، متخذة من العنف شريعة خفية لتماسك عائلي ظاهر. ويقع الاختيار على أحد أبناء العمومة ‘عباس′ رجل السلطة الذي يعيش في العاصمة، متحصنا بكل امتيازات المسؤول الفاسد، وجسارته في القنص والمصادرة، واستباحة ما يحلو له… ويتجسد كل هذا في اغتصاب ‘سناء’ في إحدى غابات القرية رغم أنها ستغدو زوجته بعد أيام؛ ما يترك لديها جرحا نفسيا غائرا، فيراود مخيلتها في مأدبة العشاء التي أقيمت عشية حفل الزفاف، ممتزجا مع أصداء عبارة ‘عباس′ الآمرة التي يتوجه بها إلى ضيوفه قائلا: (باشروا طعام) وهي عبارة تستخدم في الجيش لحض المجندين على البدء بالأكل.
وفي الوقت الذي تتوق فيه ‘سناء’ إلى حرية أشبه بالسراب؛ فإن الأخ الأصغر ‘كاسر’ الذي فقد جزءا من قدرته على السمع، حين ضربه أبوه على أذنه في الصغر، يهجر القرية إلى العاصمة، بعدما سئم قسوة أشقائه، واستعبادهم اليومي له، باحثا عن زوج أخته ‘عباس′ الذي سبق أن أعلن ترحيبه الفائق به غير مرة. لكنه لا ينجح في الاهتداء إليه، بل يلتقي مصادفة بابن عمه الآخر، الذي يؤدي الخدمة الإلزامية في العاصمة، ويعيش على أحد أسطح المنازل. ومن خلال هذا اللقاء، تتضح تناقضات البيئة السلوكية والجمالية في لقائهما بعالم المدينة كذلك عبر تفاصيل كوميدية شتى تبرز غربة هؤلاء عن حضارة المدينة وقيمها… وحين يستيقظ ‘كاسر’ في الصباح، يقرأ رسالة ابن عمه المجند، التي تركها له، لتدله على مكان مرور ‘عباس′ اليومي من إحدى ساحات المدينة الكبيرة. وتحذره من أن يضيع في زحام هذه المدينة. وعبر نهاية يجتمع فيها المستويان الواقعي والرمزي، يغيب ‘كاسر’ وسط دخان سيارة لرش المبيدات، تجوب الشوارع باكرا، وعلى وقع كلمات رسالة ابن عمه وتحذيراته، يضيع في ضباب الدخان الكثيف، الذي يغلف الزمان والمكان.
ثمة تناقضات حادة، تشكل وحدة الصورة في الفيلم وتكشف بنية العلاقات الإنسانية والدرامية فيه التي تربط بين أفراد هذه العائلة وتفرقهم في آن. فمن رحم هذا الترابط الظاهري الموشك على الذوبان الكلي في الكيان الواحد، تولد علاقات الرفض والرغبة في الانعتاق التي تقوّض المشاريع، وتفسد الخطط، وتحول الأعراس إلى مآتم. ومن أتون تلك المبالغة الشعاراتية الجوفاء، التي يتغنى بها بعضهم بالتماهي مع الجماعة وتتردد فيها عبارات من قبيل (أنا انتم.. وأنتم أنا) أو (أنا شو بسوا بلاكين) تبرز حدة الصراعات الخفية التي تؤكد الأنا على حساب الآخرين، والبحث عن المصالح الشخصية على حساب الحقوق المشروعة للجماعة والمجتمع.
يبدو الاعتداد بذكاء العائلة وجمال وتفوق أفرادها، كناية عن محاولة بناء عصبية طائفية على متسوى أوسع… هذه الفكرة يقدمها الفيلم في سياق نقدي ساخر، فالتطرف في الحديث عن ذكاء العائلة يكمله تطرّف آخر في التعبير عن مشاعر الحب، والقسم بأغلظ الأيمان لتأكيد هذا الحب، لكن ذلك كله لا ينتج سوى النفور… فهذه المبالغة لا تنجح في تحقيق تواصل فعلي، بقدر ما تكرس حالة الغربة والقطيعة الواضحتين بين الشخصيات المستلبة التواقة إلى حرية تمنحها مذاق الحياة، وبين الشخصيات التي تمارس عنفا جسديا ونفسيا على من حولها!
في التصنيف الفني ينتمي فيلم (نجوم النهار) إلى كوميديا الهجاء… وفي التحليل يمكن القول أنه: هجاء لجعل العالم مكاناً أفضل وفضاءً أوسع للحرية، لكن لا مفر هنا من تأمل خصوصية البيئة التي أفسدت بساطتها السلطة ربما، رغم أنها قبل ذلك هي بيئة معقدة اجتماعياً، مفطورة على مستويات من العنف والقسوة. ومليئة بتناقضات بدت واضحة حين رافق المخرج بعض شخصياته إلى اللاذقية أو دمشق في رحلة فسادهم أو ضياعهم، أو اكتشاف الفارق الحضاري الذي يفصلهم عن تلك المدن… أو حين لعب على شكل حضور ثقافتهم حين أظهر صور المطرب فؤاد غازي في مطعم بضواحي دمشق اسمه (القصر)!
لم يكن لمنظومة سلطة شمولية مستبدة، لا تريد أن ترى حجم التدمير الذي أحدثته على مستوى طائفتها، وفي نسيج علاقاتها الاجتماعية، وامتداداتها السلطوية، أن تستقبل فيلماً كهذا بعقل مفتوح ولا بحسن نية… وربما لو أمكن لمخرج لا ينتمي للطائفة العلوية أن ينجز فيلما كهذا لغاب وراء الشمس، أو لمنع من العمل مدى الحياة في أحسن تقدير… لكن انتماء المخرج للطائفة التي يهجوها، وسوية الفيلم الفنية العالية، والجوائز التي حصدها في مهرجانات دولية، دفعت النظام للتعامل معه على أنه عمل يمكن الاستفادة منه في الترويج الخارجي فقط، أو بين أوساط ثلة من المثقفين الذين يحضرون مهرجان دمشق السينمائي، ويمكن لهم أن يشاهدوه في عروض خاصة فقط!
ليالي ابن آوى: تراجيكوميديا بأبعاد سياسية!
ثمة تقاطعات في تشريح البيئة الاجتماعية بين فيلم (نجوم النهار) و(ليالي ابن آوى) للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد، رغم اختلاف موضوعي الفيلمين ومساراتهما. التقاطع الأبرز يكمن في مستوى العنف والقسوة… وإن كان (ليالي ابن آوى) الذي تدور أحداثه في ستينيات القرن العشرين، وما قبل نكسة 1967 لا يشير في كثير أو قليل إلى تمدد العلويين في بنية السلطة الحاكمة، ولا يصور مظاهر تسلط وفساد، استشرت بشكل واضح لاحقاً في زمن حكم الأسدين.
إنه يتحدث عن أسرة علوية بسيطة تعمل فى الزراعة، ورغم ما تبذله من جهد وعمل فإنها تبقى في مستوى معيشي محدود. ‘أبو كمال’ رب الأسرة المسيطر… يبدو شخصاً قاسياً متجبراً على أولاده… لكنه يخفي في داخله هشاشة وضعفاً وهزيمة… فهو يخاف من عواء ابن آوى في الليالي الطويلة، ويوقظ زوجته دائماً لتطلق صفيرها الذي يدفع ابن آوى للهرب!
يكتشف أبو كمال أن ابنه الأكبر الذي أرسله إلى مدينة اللاذقية من أجل الدراسة، قد فشل وانحرف وراء نزواته الجنسية، التي ربما أذكاها الكبت أو جبروت الأب… أما الابن الأوسط الذي يساعده في الزراعة فيضبطه بين أحضان جارته، ويعاقبه بطريقة قاسية لا ينقذه منها سوى قدوم الشرطي لتبليغه بضرورة الالتحاق بالجيش، وعندما تقع حرب 1967، يلتصق أبو كمال مع المذياع ليتابع أخبار الانتصارات الوهمية قبل أن يكتشف الحقيقة المرة ويسقط الجولان وباقي فلسطين.. فيقرر إحراق حقله كي لا يصل إليه الأعداء. ولا تبدو النماذج النسائية أفضل حالاً… فالزوجة التي ترى ضعف زوجها في الليل أمام عواء ابن آوى، وجبروته على أولاده في النهار تظل قليلة الكلام تلوك صمتاً دفيناً، والابنة الكبرى تتزوج فى سن مبكرة، وتساق إلى بيت زوجها الذي لا تحبه لتعيش حياة كئيبة، والابنة الصغرى تهرب مع جار ضعيف الشخصية وجبان ولا هم له إلا التغني ببقرته. تموت أم كمال من صدمة استشهاد ابنها في المعركة… الأب القاسي المتجبر يدمن الهزائم ولا يجد أمامه سوى ابنه الصغير وهو يحاول أن يقف إلى جوار أبيه.
لا يبدو في سرد هذه القصة ما هو كوميدي سوى طريقة التعبير عن تراجيديا البيئة وشخصياتها، واللهجة التي اعتاد السوريون أن يسمعوها في أقبية المخابرات والجيش ولدى من يريد ان يستقوي عليهم في دوائر الدولة. ثمة تناقضات تعبر عن آلية تفكير سائدة على الصعيد الأسري والاجتماعي، بعيداً عن ربط ذلك بموضوع النكسة والهزيمة السياسية والعسكرية. النظرة الدونية للمرأة ومصادرة خياراتها، ودفعها دائماً للهرب مع من تحب… حالة تتكرر هنا، العنف الجسدي واللفظي يطبع معظم سلوك الشخصيات، ليرسم صورة عن بيئة اجتماعية مأزومة تعتبر العنف وسيلة دفاع عن العائلة لا تؤدي إلا إلى تفتتها وتلاشيها، أما حالات العقاب فتتخذ شكلا انتقامياً أكثر منه تأديبياً. من أكثر المشاهد حضوراً في هذا السياق مشهد إتلاف أبي كمال لمحصول البندورة بقدميه لأنه سمع من المذياع أن سعرها انخفض في السوق إلى درجة لا تفي بثمن كلفتها. ومشهد تمريغ وجه الابن الأكبر (بسام) بأكوام البندورة لأنه رفض أن يضرب أخاه الصغير… أما الشكل الذي يبتكره الأب لمعاقبة ابنه الذي ضبطه وهو يعانق جارته، فهو لا يحيلنا إلا إلى الإبداع المخابراتي السوري في ابتكار وسائل التعذيب: يدفن الأب ابنه في حفرة يجبر هذا الأخير على حفرها بنفسه. يهيل عليه التراب فلا يبقى ظاهراً من جسده سوى الرأس فقط.. ثم يقوم بحلق رأس شعره كاملا… ويدهنه بالمربى كي يتجذب إليه البعوض والحشرات الطائرة!
علوَنة الجيش سينمائياً!
فيلم عبد اللطيف عبد الحميد التالي: (رسائل شفهية) الذي أنتج عام 1991 يبدو أكثر بساطة من (ليالي ابن آوى) إنه يحكي عن الحب الأول وعذابات العاشق الذي لا يجيد التخاطب مع محبوبته إلا من خلال وسيط. لكن العلاقات الأسرية فيه أيضاً تكتسي بقسوة الأباء الصارمة. أما التكنولوجيا (مد خط الترين) فتبدو ممارساتها تخريبية وعشوائية تطارد حياة ريفية بسيطة في طريقها إلى الزوال.
القصة التي لا تخفي تقاطعاتها الواضحة مع (سيرانو دي برجراك) بطلها ‘اسماعيل’ صاحب الأنف الكبير، الذي يعيش قصة حب من طرف واحد من ابنة ضيعته ‘سلمى’ ويكتب لها الرسائل الساذجة التي يرسلها إليها عن طريق صديقه ‘غسان’ فتقع في حب هذا الأخير.. وعندما يفتضح أمر علاقته بها، وخصوصا عندما يكتشف أبوها وجوده في بيتهم ليلا، تقرر الأسرة كلها الهجرة إلى حيث يقيم والد غسان العسكري القاسي على تخوم الجبهة.. لتتزوج سلمى من اسماعيل صاحب الأنف الكبير والقلب الكبير في النهاية!
الانخراط في الجيش سمة أساسية تظهر بوضوح في الأفلام التي تناولت البيئة العلوية. في هذا الفيلم ليس والد ‘غسان’ عسكريا فقط، بل غسان عندما يكبر ويعود إلى القرية مرة أخرى، يعود ضابطاً في الجيش.. ودائماً الأب الغائب يخدم على تخوم الجبهة… مع أنه منذ 1973 لا يوجد أي جبهة مشتعلة على أي من حدود سوريا!
في أفلام عبد اللطيف عبد الحميد… ضباط الجيش العلويون، شخصيات صارمة وقاسية في التعامل مع أولادها لكن ليس ثمة أي حديث عن أي فساد من أي نوع تمارسه.. بل على العكس من ذلك هم أناس شرفاء وفقراء، مرابطون على حدود الوطن، كما نرى في فيلمه الثامن (أيام الضجر) الذي أنتجته المؤسسة العامة للسينما عام 2008، والذي يعود فيه إلى عام 1958 زمن الوحدة بين مصر وسوريا، ليتحدث عن أسرة علوية لعسكري من ريف الساحل السوري، مكونة من زوجة وأربعة أولاد، تعيش في الجبهة على الحدود مع فلسطين المحتلة في الجولان السوري.
يستحضر عبد اللطيف عبد الحميد هنا، حدث نزول الأسطول السادس الأمريكي في لبنان بطلب من رئيسه آنذاك كميل شمعون (25 تموز/يوليو)، لدعم الحكومة ضد المعارضة المقربة من سوريا ودولة الوحدة أنذاك، ما أدى إلى نقل الكثير من الأسر إلى قراها في الساحل، فانتقل الأطفال من أجواء الترقب والإثارة الطفولية التي كانت توحيها الجبهة بالنسبة لهم، إلى أجواء السكون في تلك القرى التي كانت بعيدة تماماً عن كثير من منجزات الحضارة!
ليست المشكلة في الفيلم أن عبد اللطيف عبد الحميد أراد أن يحاكي رغبة النظام في تطاول فصيل من اللبنانيين عليه بعد خروج الجيش السوري من لبنان، فراح يجري من خلال استحضار ذلك الحدث القديم، مقاربة (مُستحبة) على الوضع في لبنان بعد اغتيال الحريري والحكومة المقربة من أمريكا ضد سوريا، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في تصوير كل من كانوا على الجبهة يتحدثون لهجة ريف الساحل السوري، ويركبون مع أسرهم في باص واحد يعود بهم إلى قراه… وكأنه لم يكن هناك أحد في الجيش سواهم… ناهيك عن أن الفيلم يكرس فكرة ارتباط الطائفة بالجيش بطريقة غريبة.. فتدخل الأسطول الأمريكي في لبنان في ذلك الوقت، حرم الأطفال الذين يظهرون في الفيلم- من البقاء في الجبهة، ورمى بهم في قرى الضجر.. وكأن متعة هذه الطائفة بكبارها وصغارها أن تكون جزءاً من حالة عسكرية لا يستطيعون العيش من دونها!
مرة أخرى: الوجود العسكري في لبنان!
فيلم آخر سعى للحديث عن العلاقة بين سوريا ولبنان، لمخرج شاب يقدم أول أفلامه الروائية وينتمي للطائفة العلوية وابن ضابط كبير في الجيش أيضاً، هو فيلم (مرة أخرى) للمخرج جود سعيد الذي أنتجته المؤسسة العامة للسينما عام 2009.
يروي الفيلم الذي يتمتع بسوية سينمائية جيدة، قصة حب تجمع بين ابن مسؤول عسكري سابق في لبنان، وبين سيدة لبنانية شابة تأتي إلى دمشق بعد خروج الجيش السوري من لبنان، لتعمل مديرة إحدى البنوك الخاصة.
الفيلم بخلاف أفلام عبد اللطيف عبد الحميد ومن قبله أسامة محمد، لا تتحدث شخوصه بلهجة الطائفة العلوية باستثناء شخصية ضيف شرف أداها عبد اللطيف عبد الحميد في الفيلم، لكن كل المعطيات تشير إلى النماذج الدرامية تنتمي للطائفة، إن لجهة وضعها الأمني، او نفوذها او حتى صورة البذخ التي يعيشها ابن هذا الضابط الكبير، والتي تتيح له (امنياً) التجسس على اتصالات السيدة اللبنانية التي وقع في حبها، خلال وجودها في سوريا… وهو أمر يعرف السوريون لمن يتوفر عادة!
الفيلم قدم صورة مزورة عن واقع الوجود السوري في لبنان… ففي الوقت الذي يقدم مشهداً يحاول فيه قناص اغتيال مسؤول عسكري سوري كبير في لبنان، فيقتل عوضاً عنه زوجته التي كانت تستقل السيارة هي وابنه، فإن الفيلم لا يدخل تفصيلياً في استقراء شكل الوجود العسكري السوري الذي كان قائماً ولا الأخطاء التي ارتكبها الجيش الباسل بوحي من أخلاق ضباطه الكبار، ولا عمليات السلب والنهب وإذلال اللبنانيين، وجل ما يوحي به، وجود جبروت سلطة مسيطرة ذات هيبة أمنية ونفوذ واسع على كامل الرقعة اللبنانية.. وذات صرامة شديدة حتى في التعامل مع أبنائها وجنودها من العسكريين.
أما صورة البذخ والترف اللذين يعيشهما ابن هذا المسؤول العسكري السابق… والتي فيها كثير من الجرأة في نقد حالة الثراء غير المشروع، وحالة السفه في تبديد أموال، وتحويلات بنكية، واعتبار سيارة المرسيدس التي يحلم بها ثلاثة أرباع الشعب السوري (عجوز كركمة) من المعيب ركوبها، كما تقول إحدى الشخصيات المتنفذة… فإن الفيلم قدم هذه الإشارات عنها في سياق منضبط وحذر نقدياً، وحاول التخفيف من وقعها، حين أضفى جاذبية فنية على ابن هذا المسؤول السابق، وجعله في النهاية (عاشقاً فارساً نبيلا) يستحق أن يعشق، بل وأن يتعاطف معه المشاهد السوري واللبناني معاَ!
الهوية المحظورة!
إن صورة الطائفة العلوية في السينما السورية التي رسمها مخرجون ينتمون للطائفة، يمتزج فيها الاجتماعي بالسياسي والسلطوي، وبالمتغيرات التي أحدثها نظام الأسد في بنية الطائفة وشكل علاقتها مع باقي مكونات المجتمع السوري ومؤثرات ذلك مستقبلاً، وليس القصد من هذه الدراسة اتهام المخرجين الذين نقلوا مشكلات وصراعات بيئتهم إلى الشاشة بالطائفية، فخصوصية اي بيئة هي مادة مفتوحة أمام أفق الفن والأدب لاستخلاص الموضوعات والقضايا المختلفة، ومن المخرجين من حاول تشريح عيوب هذه البيئة على الصعيد الاجتماعي والنفسي والسلطوي كما في فيلم أسامة محمد (نجوم النهار) ثم فيلمه الثاني الذي أنجزه بعد عشر سنوات من فيلمه الأول (صندوق الدنيا) وركز فيه على حالة العنف التي تطبع سلوك الطائفة اجتماعياً، وتجعل منها معبراً بشكل أو بآخر- عن عنف سلطة قائمة، ليس بالضرورة كتبنِ لمشروع هذه السلطة الاستبدادية، بل ربما كنوع من استغلال السلطة لجذور هذا العنف وتلك القسوة في بيئة كانت مغلقة ومغلفة بأمراض القهر الاجتماعي… ومنهم من حاول ان يقدم يجمل هذه الصورة، وأن يجعلها مادة اجتماعية تشكل جزءا من نسيج سوري متنوع، دون أي حديث عن إشكالات وجود هذه الطائفة في بؤرة نظام سلطوي استبدادي، وعن استفادتها من امتيازات، وعن همينتها على الجيش والأمن، مع التأكيد بشكل خفي أن الحياة العسكرية جزء لا يتجزأ من نشاط هذه الطائفة ودورها الوطني المحوري.
لقد قدم إنتاج المؤسسة العامة للسينما أفلاماً متنوعة عن كل البيئات، فقد كانت موجة أفلام السيرة الذاتية لمخرجين يكتبون سيناريوهات أفلامهم حسب انتماءاتهم هي جزء من هذا التنوع… ولهذا يمكن لنا أن ندرس صورة دمشق في أفلام نبيل المالح ومحمد ملص مثلا… وطقوسية الطائفة الدرزية في أفلام رياض شيا وغسان شميط، وإشارات الثقافة المسيحية في أفلام سمير ذكرى وريمون بطرس… إلا أنه لم يكن مسموحاً في يوم من الأيام أن يتم تحليل الأفلام التي أتينا على ذكرها هنا، باعتبارها تعكس صورة الطائفة العلوية… ولا أن يتم الحديث عن انتماءات مخرجيها، وكأن هذه الهوية كانت محظورة، رغم وجودها الماثل للعيان وتمددها في كل المجالات… ولهذا كان يجري الحديث عنها باعتبارها تعبيرا عن بيئة الساحل السوري، مع أن الساحل السوري فيه تنوع طائفي واجتماعي لا يمكن اختزاله بالطائفة العلوية وحسب.
لقد عمل النظام على تحريم نقد الطائفة التي ينتمي إليها في الثقافة والإعلام، أو الإشارة إلى وجودها… مستعيضاً عن ذلك بكم كبير من الامتيازات والفرص التي منحت لأبنائها في كافة المجالات. ولا بد لنا اليوم من أن نعيد قراءة الإنتاج الفني والثقافي الذي قدمه مبدعوها حتى في إطار مناقشة الهوية السورية وإشكالاتها… سواء أعجب ذلك بعضهم أم أثار زوابع اتهاماتهم الديماغوجية الترهيبية! ( القدس الربي )