16-11-2013 10:46 AM
بقلم : العميد حسن فهد ابوزيد
يحيي الأردنيون في الرابع عشر من تشرين الثاني من كل عام وبكل إجلال وإكبار ذكرى ميلاد باني نهضة الأردن الحديثة جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه حيث يستذكر الأردنيون عطاء جلالة المغفور له الذي قاد المسيرة على مدى سبعة وأربعين عاما حمل خلالها الأردن إلى بر الأمان والسلام برويته الثاقبة وحنكته المشهودة وتفاني شعبه والتفافهم حوله، حيث يجدد الأردنيون في هذه الذكرى العهد والولاء لوارث العرش الهاشمي جلالة الملك عبدا لله الثاني وكلهم عزم وتصميم على مواصلة رحلة الخير والبناء بكل ثقة وهمة عالية من اجل إعلاء بنيان الوطن وتعزيز مكانته.
ولد الحسين في الرابع عشر من تشرين الثاني عام 1935 في عمان التي أحبها وأحبته واحتضنته أميرا وملكا فوق أرضها ثلاثة وستين عاما حيث ولد في احد البيوت المتواضعة في منطقة جبل عمان وتربى في كنف والديه المغفور لهما جلالة الملك طلال وجلالة الملكة زين الشرف وجده المغفور له جلالة الملك عبدا لله الأول ابن الحسين مؤسس المملكة الذي استقى منه أنبل القيم الرفيعة والمبادئ العظيمة، ويمتد نسب الحسين طيب الله ثراه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب ابن السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله ، والحسين هو الحفيد المباشر الثاني والأربعين للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو سليل أسرة عربية هاشمية امتدت تضحياتها عبر القرون ونشرت رسالة الحق ودين الهدى واستمدت من الإسلام الحنيف المثل العليا والمبادئ السامية وتعاليمه السمحة لما فيه خير البشرية
أكمل تعليمه الابتدائي في الكلية العلمية الإسلامية في عمان ثم التحق بكلية فيكتوريا في الإسكندرية بجمهورية مصر العربية وفي عام 1951 ثم التحق رحمه الله بكلية هارو في انجلترا ثم تلقى بعد ذلك تعليمه العسكري في الأكاديمية الملكية العسكرية في ساند هرست في انجلترا وتخرج منها عام 1953.ً
وفي الحادي عشر من شهر آب عام 1952نودي بالحسين طيب الله ثراه ملكا للمملكة الأردنية الهاشمية وتسلم سلطاته الدستورية يوم الثاني من ايار عام 1953 حيث خاطب شعبه في ذلك اليوم المبارك قائلاً ../ فليكن النظام رائدنا والتعاون مطلبنا والاتحاد في الصفوف رمزنا وشعارنا ولنعمل مناصرين متعاضدين لنبني وطناً قوياً محكم الدعائم راسخ الأركان يتفيأ ظلاله الوارفة وينعم بخيره الوفير جميع المواطنين على السواء/. ولجلالة المغفور له الملك الحسين خمسة أبناء وست بنات هم جلالة الملك عبد الله الثاني وسمو الأمير فيصل وسمو الأمير علي وسمو الأمير حمزة وسمو الأمير هاشم وسمو الأميرة عالية وسمو الأميرة زين وسمو الأميرة عائشة وسمو الأميرة هيا وسمو الأميرة إيمان وسمو الأميرة راية. تربى أصحاب السمو الأمراء ابناي الحسين في كنفه فاستقوا منه محبة الناس والتواضع لهم وحسن معاملتهم والأخلاق النبيلة المستندة الى تقوى الله سبحانه وتعالى والى تعاليم الدين الإسلامي الحنيف والخلق الهاشمي ومبادئ الثورة العربية الكبرى .
حرص جلالته رحمه الله على ان يكون لكل من أبنائه شأن في شؤون الحياة اليومية للمواطن الأردني بمشاركته أفراحه وآلامه اذ قدم كل منهم وما يزال ما وسعه من العطاء وعملوا مع أسرتهم الأردنية مندمجين فيها ومتعايشين معها . وقد وجه الحسين طيب الله ثراه رسالة سامية الى جلالة الملك عبد الله الثاني في السادس والعشرين من كانون الثاني 1999 يوم اختاره وليا لعهد المملكة خاطبه فيها قائلا ../ وإنني لأتوسم فيك كل الخير وقد تتلمذت على يدي وعرفت ان الأردن العزيز وارث مبادئ الثورة العربية الكبرى ورسالتها العظيمة وانه جزء لا يتجزأ من أمته العربية وان الشعب الأردني لا بد وان يكون كما كان على الدوام في طليعة أبناء أمته في الدفاع عن قضاياهم ومستقبل أجيالهم .. وان هذا الشعب العظيم قد قدم عبر العقود الماضية كل التضحيات الجليلة في سبيل هذه المبادئ والقيم النبيلة السامية .. وانه تحمل في سبيل كل ذلك ما تنوء بحمله الجبال.. وان النشامى والنشميات من أبناء أسرتنا الأردنية الواحدة من شتى المنابت والأصول ما توانوا يوما عن أداء الواجب ولا خذلوا قيادتهم ولا أمتهم وإنهم كانوا على الدوام رفاق الدرب والمسيرة الأوفياء والمنتمين لوطنهم وأمتهم القادرين على مواجهة الصعاب والتحديات بعزائم لا تلين وبنفوس سمحة كريمة معطاءة وان من حقهم على قيادتهم ان تعمل لحاضرهم ومستقبلهم ولتحقيق نهضتهم الشاملة حتى تتسنى لهم الحياة الكريمة وتصان حقوقهم التي كفلها لهم الدستور وان تبقى جباههم مرفوعة لا تنحني الا لله او لتقبيل ثرى الوطن العزيز/ .
لقد امن جلالة المغفور له الملك الحسين بان الجندية شرف وواجب وانضباط وتمثل ايمانه ذلك بحرصه على تشجيع ابنه الأكبر جلالة الملك عبد الله الثاني على الانخراط في الحياة العسكرية فيصطحبه في جولاته الى التشكيلات العسكرية منذ كان طفلا فأنشأه جنديا عربيا اذ انتسب جلالته وهو في الثانية عشرة الى القوات المسلحة الأردنية برتبة تلميذ مرشح وتدرج في الخدمة العسكرية التي استحق خلالها نيل عدة أوسمة وشارات ملكية تقديرا من جلالة المغفور له الحسين الى جلالة الملك عبد الله الثاني لجهوده المخلصة وتفانيه في العمل العسكري .
ومنذ تسلم جلالة المغفور له الملك الحسين سلطاته الدستورية وهو يجهد في بناء الدولة الأردنية في ظروف لم تكن سهلة ابدا بسبب الأوضاع المحيطة والتحديات إضافة الى قيود المعاهدة الأردنية البريطانية ووجود القيادة الأجنبية في أجهزة الدولة ..فبدأ بخطوات جريئة وشجاعة استهلها بتعريب قيادة الجيش العربي الأردني في الأول من اذار عام 1956 وتسليم قيادته للضباط الأردنيين الأكفاء ومن ثم إلغاء المعاهدة الأردنية البريطانية في اذار 1957 وأولى جلالته القوات المسلحة الاهتمام الخاص بالتطوير والتحديث منذ البدء لتكون قوات تتميز بالاحتراف والانضباطية حتى غدت قوات عالمية تطلب للاشتراك بمهام حفظ السلام الدولية في مناطق النزاع في العالم. وكان بناء الأردن الحديث وإرساء دعائم نهضته الشاملة في جميع المناحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعمرانية هاجس الحسين طيب الله ثراه ... لذلك فقد عني جلالته بتحديث التشريعات وترسيخ الديمقراطية حيث شهدت المملكة في عهده حياة برلمانية مستمرة باستثناء سنوات قليلة أعقبت حرب حزيران عام 1967 واستمرت خلالها ممارسة الديمقراطية عن طريق انشاء المجلس الوطني الاستشاري حتى تهيأت الظروف عام 1989 لاستئناف الحياة البرلمانية بانتخابات أسفرت عن تشكيل مجلس النواب الحادي عشر بمشاركة شعبية واسعة من مختلف القطاعات وألوان الطيف السياسي . وهيأ قرار فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية الذي اتخذه الحسين استجابة لرغبة الشقاء العرب ورغبة منظمة التحرير الفلسطينية في الحادي والثلاثين من شهر تموز عام 1988 الظروف لاستئناف المسيرة الديمقراطية في المملكة .
وباستئناف الحياة البرلمانية كانت العودة الى الحياة الحزبية وزيادة تفعيل مؤسسات المجتمع المدني كالنقابات المهنية والعمالية التي تسهم بشكل فاعل في تطوير المجتمع وتنشيط فعالياته . وفي مجال حقوق الإنسان عمل رحمه الله على صيانة هذه الحقوق حيث غدا الأردن نموذجا يحتسى به على هذا الصعيد وحرص على إنشاء مركز دراسات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان للمزاوجة بين النظرية والتطبيق في مجال رعاية حقوق الإنسان . وفي عهده رحمه الله أصبح التعليم إلزاميا اذ انتشرت المدارس في جميع مدن المملكة وقراها وبواديها وأريافها وأصبح الأردن في طليعة الدول العربية على صعيد ارتفاع نسبة المتعلمين ومكافحة الامية وتزامن ذلك مع انشاء الجامعات وكليات المجتمع الحكومية والخاصة حتى الضحى الأردن مقصد طلبة العلم والمعرفة .. كما شملت نهضة الأردن في عهده رحمه الله جميع المجالات الصحية والخدمات العامة والبنية التحتية والطرق والاتصالات والزراعة والصناعة .
وفي الشأن القومي كان حضور جلالته طيب الله ثراه في القمم العربية والعالمية حضورا غير عادي ويسجل لجلالته انه اول قائد لبى نداء الزعيم الراحل جمال عبد الناصر بعقد اول قمة عربية عام 1964 . كما يسجل للأردن عدم تخلفه عن حضور اي مؤتمر قمة عربي منذ ذلك الحين ومشاركته في اجتماعات جامعة الدول العربية بالكامل وفي اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات العربية على مختلف المستويات .
وكان الأردن قد واجه بقيادة جلالته الحكيمة التحديات التي أفرزتها نكبة 1948 واحتلال إسرائيل للجزء الأكبر من الضفة الغربية ولجوء مئات الآلاف من الفلسطينيين الى الأردن وحماية حدود الأردن ضد اي اعتداءات إسرائيلية فكان تعزيز الجيش وتسليحه بالأسلحة الحديثة وتدريبه ورفده بالمؤهلات الشابة وتنويع مصادر السلاح أولى الأولويات .
وناضل الحسين رحمه الله من اجل القضية الفلسطينية في زمن الحرب وفي زمن السلام .. السلام العادل والشامل الذي ظل يدعو اليه طوال سني عمره وكان يراه السبيل الأوحد من اجل فض النزاع في الشرق الوسط ..وكان لجلالته بعد حرب عام 1967 الدور الأساسي في صياغة قرار مجلس الأمن رقم 242 الذي دعا إسرائيل الى الانسحاب من جميع الأراضي العربية التي احتلت عام 1967 مقابل السلام والأمن والاعتراف وظل هذا القرار منطلق جميع مفاوضات السلام التي تلته .
وفي 26 حزيران عام 1967 خاطب جلالة الحسين العالم يوم قال في الأمم المتحدة في نيويورك / لن أتحدث إليكم عن السلام فحسب .. فالشرط المسبق لتحقيق السلام هو العدالة وعندما نحقق العدالة سيتحقق السلام في الشرق الأوسط .. لقد قيل الكثير من هذا المنبر عن السلام وكان هناك القليل مما قيل عن العدالة .. وما يريده الأردن والعرب هو السلام مع العدالة/ .
وفي الحادي والعشرين من آذار عام 1968 خاض الجيش العربي الأردني بقيادة الحسين طيب الله ثراه معركة الكرامة وتمكن من دحر القوات الإسرائيلية الغازية ووصف الرئيس جمال عبد الناصر تلك المعركة بأنها أعادت للأمة العربية كرامتها .
وفي مؤتمر القمة العربي الذي عقد في الرباط في المغرب عام 1974 وافق الحسين رحمه الله مع القادة العرب على الإعلان الصادر عن القمة بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ونتيجة لذلك نقلت مسؤولية التفاوض على استعادة الأراضي الفلسطينية الى منظمة التحرير الفلسطينية.
وقام جلالته رحمه الله في عام 1991 بدور رئيس في عقد مؤتمر مدريد للسلام من خلال توفير مظلة للفلسطينيين للتفاوض حول مستقبلهم من خلال وفد أردني فلسطيني مشترك وبعد حوالي عامين وفي 13 أيلول 1993 وقعت منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل اعلان مبادئ / اوسلو 1/ حددتا فيه اطر التفاوض معا ومهد ذلك الطريق أمام الأردن للسير في مسار التفاوض الخاص به مع إسرائيل وقد تم توقيع إعلان واشنطن في 25 تموز 1994 الذي انهي رسميا حالة الحرب بين الأردن وإسرائيل والتي استمرت زهاء 46 عاما .
وعلى الصعيد الدولي لقام الأردن في عهده رحمه الله شبكة من العلاقات الدولية القائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة مع عدد كبير من دول العالم وشعوبه بفضل سياسة الراحل الحكيمة وقدرته على مخاطبة الرأي العام العالمي والتعامل مع القادة والرؤساء خاصة قادة الدول صاحبة صنع القرار .
وخلال سني حكمه كان الحسين طيب الله ثراه يواءمن بالمبادئ والقيم التي كانت تدعو الى السلام والتسامح والوفاق والمساواة والعدالة حتى تمكن من جعل الأردن نموذجا ومثلا يحتسى به في الوسطية والاعتدال .
وفي السابع من شباط عام 1999 كان الأردن / الأرض والإنسان / في وداع الحسين وسط حشد من قادة العالم في جنازة وصفت بأنها جنازة العصر وكان ذلك الحضور دليلا على مكانة الحسين بين دول العالم كافة ومكانة الاردن واحترام الشعوب والقادة له ولقائده .
ومنذ ان تسلم جلالة الملك عبد الله الثاني الراية واصل المسيرة بكل اقتدار واستطاع بفضل سعة افقه وحنكته ودرايته التعامل مع الإحداث الإقليمية والدولية التي شهدتها السنوات الماضية بكل حكمة حتى أصبح الأردن محط إعجاب وتقدير دول العالم نظرا لإصراره على الانجاز وتوفير الحياة الكريمة لأبنائه .
ففي ذكرى ميلاد الحسين رحمه الله يستذكر الأردنيون مسيرة الكفاح التي لم تتوقف أو تتراجع تحت أي ظرف من الظروف .. ويبتهلون إلى الله عز وجل أن يتغمد روحه الطاهرة بواسع الرحمة والغفران وان يطيل الله سبحانه وتعالى في عمر جلالة الملك عبد الله الثاني وان يحفظه ذخرا وسندا للأمة العربية والإسلامية