حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الجمعة ,21 فبراير, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 23763

العودة إلى المحتسب

العودة إلى المحتسب

العودة إلى المحتسب

16-11-2013 11:24 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : د. إبراهيم بدر شهاب الخالدي
ثمة جوانب مهمة في حياتنا الاجتماعية ، تتصل بالقيم والأخلاق والآداب العامة ، كانت فيما مضى محصنة بالقيم الدينية والأخلاقية والذوق العام والحياء الفطري ، فتسلل إليها الفساد والانحراف منذ عقود ليست بالقليلة ، وعبث بها في غيبة الرقيب أو بتواطؤ منه ، فبدأت تأخذ مسارات غير صحيحة ، وتجاوزت المحظور والممنوع ، وازدادت وتيرة الانحراف مؤخراً ، لتضرب بعنف قيمنا وثوابت ديننا وأنماط سلوكنا ، وهو ما أوجد ظواهر سلوكية سلبية ، انعكست في صورة مجتمعنا لدى الآخرين . ومن صور الفساد في هذا الجانب ، الانحراف في السلوك عن الآداب العامة والقيم الاجتماعية الأصيلة والأخلاق النبيلة ، الذي تمثل في السلوكات الفردية والجماعية المتمردة والمائعة والخارجة عن ثوب الحياء والذوق العام ، كالخروج بلباس غير محتشم للرجال والنساء على حد سواء ، والتعري على الشواطئ وفي الأماكن العامة ، ورفع الأصوات المنكرة بما يزعج المارة والجيران ، وإطلاق النكات الماجنة التي تدعو إلى الرذيلة أو تزينها في العقول والأفهام ، ومضايقة النساء في الأسواق ، وتعليق الصور الفاضحة في المحلات التجارية ومكاتب العمل ، والاختلاط في الأعراس والاحتفالات ، والتسكع في الشوارع والأماكن العامة ، والاعتداء على حرمة الطريق ، والمجاهرة بالأعمال المنافية للأخلاق والآداب العامة ، والإعلانات الصحفية الفاضحة ، والقصص الغرامية الماجنة ، والهتافات الإقليمية على مدرجات الملاعب الرياضية ، وغيرها من المنكرات الكثيرة التي يندى لها جبين الحياء ، وتأنف منها الطباع السوية والفطر السليمة . وجملة هذه التصرفات أخذت مساحة كبيرة في المشهد اليومي من الحياة العامة ، وأصبحت مألوفة إلى حد كبير ، حتى فقد الجيل الجديد معايير التمييز بن المقبول والمرفوض من السلوك ، أو بين المسموح والممنوع ، أو بين الجائز المباح والمنكر المتاح ؛ لما يرى من كثرة المنكرات ومظاهر الفساد والسكوت المريب عنها .
ولما استفحل هذا الأمر واستشرى في حياتنا عامة ، وهو بطبيعة الحال مما لا يطاله القانون أو يدخل في دائرة اختصاصات الأمن العام أو الأجهزة الرقابة أو التنفيذية أو سواها ، ولما كانت هذه الأجهزة عاجزةً أصلاً عن إزالة المنكر بوسائلها المتاحة ؛ فقد بات من الضروري العودة إلى نظام الحسبة الذي كان معمولا به في صدر الإسلام والعصور التي تلته ، ذلك النظام الذي غاب مضمونه عن العقول والأفهام ، نظراً لتباعد الزمان بيننا وبينه ، فلم يبق منه إلا الاسم في بعض المراجع التاريخية والتراثية ، إذ جهل الناس طبيعة هذا النظام وأهميته ودوره في ضبط السلوك العام ، والحفاظ على الآداب والأخلاق العامة ، وردع الانحراف ، ومنع مظاهر الميوعة والانحلال .
وقد كان المصلحون فيما مضى يقومون به طواعية استجابة لأمر الله تعالى :" ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون "[ آل عمران : 104] . واستجابة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " ( رواه مسلم ) . وكان هناك دعم مجتمعي معنوي لمن يتولى أمر الحسبة ؛ وذلك لأن الإسلام لم يزل حياً في حياة الناس وقلوبهم وعقولهم ، فانعكس واقعاً في سلوكهم . أما وقد فسد الزمان وضعف الإيمان ، واستشرى الفساد في حياتنا على كل صعيد ، فطار الحياء وعم البلاء ، وانزوى المصلحون واقتصرت جهودهم على الخطب المنبرية وبعض النصائح والتوجيهات الفردية ، فانعدم تأثيرهم في الحياة العامة أو كاد ، وبسبب ذلك تطاول الفساد والمنكر واستقوى بالسلطان والقانون الذي يشجع على مثل هذه المنكرات ، أو يحمي مرتكبيها باسم الحرية الشخصية ، ثم تمدد في أوصال المجتمع ، وعبث في مفاصله ، وهدد قيمه وثوابته ، حتى ظهرت ثقافة تدعو إلى التخلي عن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مع تبرير هذا التخلي وربما مباركته في كثير من الأحيان ، فأخذت تتردد على ألسنة الناس عبارات دارجة منكرة ، ظاهرها النصح وباطنها القبح ، مثل : " هذي حرية شخصية أنت شو دخلك . فكك من شره . أتركه لا يبتليك . هذا شرّاني رح يورطك . بكرة ما تسلم من أهله . ما في حدا يحميك ، ولا القانون معك ، لا تتدخل فيما لا يعنيك ... الخ " وهي عبارات لها ما يبررها أحياناً ، في ظل انحسار القيم الاجتماعية العامة ، وضعف الإيمان ، والإحجام عن القيام بالواجب الاجتماعي في الإصلاح ، ولاسيما مع فقدان الدعم الرسمي والمجتمعي للمصلحين ، ولذلك تمرد الناس على القيم ، والأخلاق ، والآداب العامة ، دونما حسيب ، أو رقيب ، أو رادع يردع المنحرفين والمارقين . ومن هنا جاءت الحكمة القائلة : " من أمن العقاب أساء الأدب " .
ومن هنا فلم يعد من سبيل إلى اجتثاث الفساد في هذا المجال ، متى خلصت النيات وصحت العزائم ، إلا بالعودة إلى نظام الحسبة المشار إليه ، وإحياء دور المحتسب في ثقافتنا وواقع حياتنا الاجتماعية ، بصورته الرسمية المدعومة بالقانون والنظام ، بحيث يخصص لذلك جهاز خاص يُعين له أفراد متخصصون مدربون ، وعلى وعي تام بالمنكر وأساليب ردعه ، يكون لهم زي خاص يعرفون به ، ونظام خاص يضبط عملية الاحتساب ، على أن يرافق المحتسب شرطي يسانده عند الضرورة ، وسجل خاص تدون فيه وقائع المنكر وتاريخها وأسلوب معالجتها ، بحيث يرجع إليها عند تكرار المنكر ، عندها يصار إلى تغليظ العقوبة بما يردع الفاسدين والمنحرفين ، على أن تشمل نشاطات هذا الجهاز كما سلف رعاية الآداب العامة وحماية القيم والأخلاق ، ومنع ظهور المنكرات المشار إليها . وأهم ما في الأمر ، رفع الغطاء القانوني عن المنحرفين والفاسدين ؛ ليتسنى للصالحين المصلحين القيام بواجبهم في الإصلاح ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقد كان لنا في الأردن تجربة لم يكتب لها النجاح ، ولم تدم طويلاً ، فقد وئدت في بواكيرها ، تمثلت في إنشاء فرع خاص في جهاز الأمن العام يسمى " شرطة الآداب " ولكنه ما لبث أن تلاشى وتبدد . على عكس ما هو عليه الحال في المملكة العربية السعودية ، حيث هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، تلك الهيئة الفاعلة القائمة منذ عقود طويلة ، وما تزال تقوم بدورها الديني والاجتماعي على خير وجه ، وهي تصلح نموذجاً يحتذى في هذا الأمر لمن أراد الصلاح والإصلاح .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .

Ibrahimbedr90@yahoo.com








طباعة
  • المشاهدات: 23763
برأيك، هل يصمد اتفاق وقف إطلاق النار في غزة رغم مواصلة نتنياهو وترامب تهديد حماس باستئناف الحرب والتهجير؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم