16-11-2013 11:24 AM
بقلم : د. إبراهيم بدر شهاب الخالدي
ثمة جوانب مهمة في حياتنا الاجتماعية ، تتصل بالقيم والأخلاق والآداب العامة ، كانت فيما مضى محصنة بالقيم الدينية والأخلاقية والذوق العام والحياء الفطري ، فتسلل إليها الفساد والانحراف منذ عقود ليست بالقليلة ، وعبث بها في غيبة الرقيب أو بتواطؤ منه ، فبدأت تأخذ مسارات غير صحيحة ، وتجاوزت المحظور والممنوع ، وازدادت وتيرة الانحراف مؤخراً ، لتضرب بعنف قيمنا وثوابت ديننا وأنماط سلوكنا ، وهو ما أوجد ظواهر سلوكية سلبية ، انعكست في صورة مجتمعنا لدى الآخرين . ومن صور الفساد في هذا الجانب ، الانحراف في السلوك عن الآداب العامة والقيم الاجتماعية الأصيلة والأخلاق النبيلة ، الذي تمثل في السلوكات الفردية والجماعية المتمردة والمائعة والخارجة عن ثوب الحياء والذوق العام ، كالخروج بلباس غير محتشم للرجال والنساء على حد سواء ، والتعري على الشواطئ وفي الأماكن العامة ، ورفع الأصوات المنكرة بما يزعج المارة والجيران ، وإطلاق النكات الماجنة التي تدعو إلى الرذيلة أو تزينها في العقول والأفهام ، ومضايقة النساء في الأسواق ، وتعليق الصور الفاضحة في المحلات التجارية ومكاتب العمل ، والاختلاط في الأعراس والاحتفالات ، والتسكع في الشوارع والأماكن العامة ، والاعتداء على حرمة الطريق ، والمجاهرة بالأعمال المنافية للأخلاق والآداب العامة ، والإعلانات الصحفية الفاضحة ، والقصص الغرامية الماجنة ، والهتافات الإقليمية على مدرجات الملاعب الرياضية ، وغيرها من المنكرات الكثيرة التي يندى لها جبين الحياء ، وتأنف منها الطباع السوية والفطر السليمة . وجملة هذه التصرفات أخذت مساحة كبيرة في المشهد اليومي من الحياة العامة ، وأصبحت مألوفة إلى حد كبير ، حتى فقد الجيل الجديد معايير التمييز بن المقبول والمرفوض من السلوك ، أو بين المسموح والممنوع ، أو بين الجائز المباح والمنكر المتاح ؛ لما يرى من كثرة المنكرات ومظاهر الفساد والسكوت المريب عنها .
ولما استفحل هذا الأمر واستشرى في حياتنا عامة ، وهو بطبيعة الحال مما لا يطاله القانون أو يدخل في دائرة اختصاصات الأمن العام أو الأجهزة الرقابة أو التنفيذية أو سواها ، ولما كانت هذه الأجهزة عاجزةً أصلاً عن إزالة المنكر بوسائلها المتاحة ؛ فقد بات من الضروري العودة إلى نظام الحسبة الذي كان معمولا به في صدر الإسلام والعصور التي تلته ، ذلك النظام الذي غاب مضمونه عن العقول والأفهام ، نظراً لتباعد الزمان بيننا وبينه ، فلم يبق منه إلا الاسم في بعض المراجع التاريخية والتراثية ، إذ جهل الناس طبيعة هذا النظام وأهميته ودوره في ضبط السلوك العام ، والحفاظ على الآداب والأخلاق العامة ، وردع الانحراف ، ومنع مظاهر الميوعة والانحلال .
وقد كان المصلحون فيما مضى يقومون به طواعية استجابة لأمر الله تعالى :" ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون "[ آل عمران : 104] . واستجابة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " ( رواه مسلم ) . وكان هناك دعم مجتمعي معنوي لمن يتولى أمر الحسبة ؛ وذلك لأن الإسلام لم يزل حياً في حياة الناس وقلوبهم وعقولهم ، فانعكس واقعاً في سلوكهم . أما وقد فسد الزمان وضعف الإيمان ، واستشرى الفساد في حياتنا على كل صعيد ، فطار الحياء وعم البلاء ، وانزوى المصلحون واقتصرت جهودهم على الخطب المنبرية وبعض النصائح والتوجيهات الفردية ، فانعدم تأثيرهم في الحياة العامة أو كاد ، وبسبب ذلك تطاول الفساد والمنكر واستقوى بالسلطان والقانون الذي يشجع على مثل هذه المنكرات ، أو يحمي مرتكبيها باسم الحرية الشخصية ، ثم تمدد في أوصال المجتمع ، وعبث في مفاصله ، وهدد قيمه وثوابته ، حتى ظهرت ثقافة تدعو إلى التخلي عن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مع تبرير هذا التخلي وربما مباركته في كثير من الأحيان ، فأخذت تتردد على ألسنة الناس عبارات دارجة منكرة ، ظاهرها النصح وباطنها القبح ، مثل : " هذي حرية شخصية أنت شو دخلك . فكك من شره . أتركه لا يبتليك . هذا شرّاني رح يورطك . بكرة ما تسلم من أهله . ما في حدا يحميك ، ولا القانون معك ، لا تتدخل فيما لا يعنيك ... الخ " وهي عبارات لها ما يبررها أحياناً ، في ظل انحسار القيم الاجتماعية العامة ، وضعف الإيمان ، والإحجام عن القيام بالواجب الاجتماعي في الإصلاح ، ولاسيما مع فقدان الدعم الرسمي والمجتمعي للمصلحين ، ولذلك تمرد الناس على القيم ، والأخلاق ، والآداب العامة ، دونما حسيب ، أو رقيب ، أو رادع يردع المنحرفين والمارقين . ومن هنا جاءت الحكمة القائلة : " من أمن العقاب أساء الأدب " .
ومن هنا فلم يعد من سبيل إلى اجتثاث الفساد في هذا المجال ، متى خلصت النيات وصحت العزائم ، إلا بالعودة إلى نظام الحسبة المشار إليه ، وإحياء دور المحتسب في ثقافتنا وواقع حياتنا الاجتماعية ، بصورته الرسمية المدعومة بالقانون والنظام ، بحيث يخصص لذلك جهاز خاص يُعين له أفراد متخصصون مدربون ، وعلى وعي تام بالمنكر وأساليب ردعه ، يكون لهم زي خاص يعرفون به ، ونظام خاص يضبط عملية الاحتساب ، على أن يرافق المحتسب شرطي يسانده عند الضرورة ، وسجل خاص تدون فيه وقائع المنكر وتاريخها وأسلوب معالجتها ، بحيث يرجع إليها عند تكرار المنكر ، عندها يصار إلى تغليظ العقوبة بما يردع الفاسدين والمنحرفين ، على أن تشمل نشاطات هذا الجهاز كما سلف رعاية الآداب العامة وحماية القيم والأخلاق ، ومنع ظهور المنكرات المشار إليها . وأهم ما في الأمر ، رفع الغطاء القانوني عن المنحرفين والفاسدين ؛ ليتسنى للصالحين المصلحين القيام بواجبهم في الإصلاح ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقد كان لنا في الأردن تجربة لم يكتب لها النجاح ، ولم تدم طويلاً ، فقد وئدت في بواكيرها ، تمثلت في إنشاء فرع خاص في جهاز الأمن العام يسمى " شرطة الآداب " ولكنه ما لبث أن تلاشى وتبدد . على عكس ما هو عليه الحال في المملكة العربية السعودية ، حيث هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، تلك الهيئة الفاعلة القائمة منذ عقود طويلة ، وما تزال تقوم بدورها الديني والاجتماعي على خير وجه ، وهي تصلح نموذجاً يحتذى في هذا الأمر لمن أراد الصلاح والإصلاح .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
Ibrahimbedr90@yahoo.com