30-11-2013 10:45 AM
بقلم : أيمن موسى الشبول
في مرحلة متقدمة من عمر والدتي هاجمتها سلسلة من الأمراض وبفوارق زمنية بسيطة ؛ وكأنني بهذه الأمراض هي أشبه ما تكون بالحيوانات المفترسة والتي تترصد لفريستها المسكينة لحظة بلحظة وساعة بساعة ، فان لمست فيها الضعف والوهن سارعت لأفتراسها والانقضاض عليها ، ثم تتسلل الى الفريسة كثير من الحيوانات والطيور المفترسة كالثعالب والنسور والغربان والعقبان وغيرها ...
كان مرض السكري هو أول المهاجمين لجسد أمي الواهن والضعيف ، ثم تلاه ضغط الدم المرتفع فمرض الهشاشة ثم مرض القلب فماء الرئة ... ، ومن الطبيعي بأن يتسلل من بين هذه الأمراض كثير من العلل والأمراض مثل : عسر الهضم وأمراض المفاصل وغيرها من الأمراض الأخرى .
إذن فهي سلسلة متتالية من الأمراض تربصت لجسد أمي الواهن والضعيف ثم انقضت عليه ، ولكن ـ والحمد لله ـ فلا زال عند أمي القدرة على الحركة في داخل البيت لتأدية الصلوات وتلبية بعض الحاجات ؛ وهذا فضل كبير من رب العالمين .
هي أمراض صعبة ولكن ما قلل من خطورتها هو فرديتها وعدم اجتماعها سويا” على جسد أمي الواهن والمنهك ، وقد كان من السهل على أمي أن تحد من خطورة هذه الأمراض الخطيرة مستعينة” بسلاح الذكر والدعاء والتسبيح ، كما أعانها على هذه المجموعة من الأمراض كيس ممتلئ بانواع„ مختلفة„ وعديدة„ من الأدوية ...
وفي احدى الليالي المعتمة وقبل اسبوعين من الآن ، تنادت هذه الأمراض واجتمعت على مهاجمة جسد أمي وبشكل جماعي في هذه المرة ... في تلك الليلة كنت جالسا” في جوار أمي وقد شعرت بألم شديد في الصدر وفي كل انحناء الجسم ، وفي تلك اللحظات تهاوت قدراتها وخارت قواها ، وفي طريقنا الى المستشفى شعرت أمي بأن الأمراض قد تمكنت منها وبشكل كامل في هذه المرة ، ثم أيقنت بأن الكيس الممتلىء بالأدوية لم يعد ينفعها اليوم ، وعندها اتجهت لرب العالمين تدعوه وتتضرع اليه وهو الرحمن الرحيم والشافي المعافي بالرحمة والتخفيف والمعافاة والشفاء ؛ ثم داومت والدتي على التكبير والتهليل وعلى الذكر والتسبيح ، وفي المستشفى قرر الأطباء دخولها لقسم العناية الحثيثة والمركزة ، وفي تلك اللحظات انتابتني موجات شديدة من الحزن والأسى وشعرت بصدمة نفسية كبيرة ؛ فالمريضة ليست شخصا” عاديا” في حياتي ، وليس من السهل علي تقبل أمر فراقها ، ولا يمكن لأي كان بأن يملأ مكانها الأساسي في حياتي ، فهي أساس وجودي ، وهي ينبوع حياتي ، وهي باب جنتي المشرع أمام ناظري ؛ ونظري لوجه أمي عبادة ، ودعواتها لها مستجابة ، لذا فقد بدأت بالابتهال الى الله بأن يعفو عنها وأن يعافيها ، ثم سألته تعالى بأن يخقف من الآمها ويهون من أمراضها ، وبأن يلطف بنا وبها ، وبأن لا يفجعنا بفراقها .
في تلك الليلة الأليمة والصعبة والقاسية ؛ جلست أمام المدخل الرئيسي لقسم المستشفى الخاضع لمنظمةة: ( أطباء بلا حدود ) ، وهو القسم المخصص من إدارة المستشفى لعلاج الجرحى السوريين القادمين الى الأردن ، لقد كانت صرخات الجرحى السوريين والمصابين الجدد القادمين إلى الاردن لا تكاد تهدأ أو تتوقف ، حيث كانت اصاباتهم مختلفة ومتعددة ، وكان أغلب هذه الاصابات في منطقة الرأس والصدر ، وفي ساعات الليل الطويلة جلس الى جانبي بعض من الجرحى السوريين بعد أن من الله عليهم بالشفاء ، وفي فترات من الليل جلس الى جواري بعض من المرافقين لجرحاهم ومصابيهم ، سرد كثير من هؤلاء قصته ومأساته ، وتحدث البعض كيف تم استهدافه وقنصه ، كما سرد بعض المرافقين قصة قنص قريبه الجريح من الأبراج المرتفعة ومن المباني العالية دون أدنى ذنب ، لقد سمعت الكثير من القصص المحزنة والمفجعة والأليمة ، كما شاهدت أمام عيني الكثير من الاصابات البليغة والصعبة والحرجة ، وقد زاد ماسمعته وما شاهدته من حزني ومن آلآمي ، ولقد كدت من فرط ما سمعته ومن هول ما رأيته أن أنسى مصيبتي الكبيرة بأمي الموجود على سرير وفي العناية المركزة ، لقد شعرت في تلك اللحظات بأن مصيبتي الكبيرة هي ليست بأمي المريضة ولكن مصيبتي الأكبر والأعظم تتلخص في أمتي المنكوبة والضائعة ، ورحت في حينها أتوسل الى الله تعالى بأن يرحم أمتي وأمي ، وبأن يرأف بأمتي وأمي ، وبأن يلطف بأمتي وأمي وبأن يهون على أمتي وأمي وبأن يعيد أمتي وأمي ...
لقد شعرت بالامتنان الكبير لجميع المنظمات الخيرية والتي تحاول أن تقدم العون المطلوب والعلاج الشافي لاولئك الجرحى المساكين والمصابين المظلومين من أمتي المنكوبة ، وكم سررت بطاقم الأطباء المتبرعين لعلاج هؤلاء المساكين والمظلومين ، وكم سررت بهم وهم يجاهدون بكل ما لديهم لتقديم الاسعافات الأولية المطلوبة لاولئك المرضى والجرحى والمصابين السوريين ، وللمرة الأولى في حياتي تمنيت لو كنت طبيبا”معهم أو ممرضا” مرافقا” لهم ؛ فما أجمل أن يساهم الانسان في اعادة الحياة والأمل لأخيه الانسان ، وما أجمل أن يستخدم الانسان جهده وعلمه وماله لاعادة الفرحة والبسمة للجرحى والمصابين والمظلومين ولمرافقيهم وذويهم ... وبعد عدة أيام من الدعاء المتواصل ومن الابتهال الى الرحمن الرحيم ، وبعد يومين من المراقبة المركزة والحثيثة لوالدتي المريضة فقد أذن الله لها بالشفاء ـ والحمدلله رب العالمين .
ولكن بقي السؤال التالي في مخيلتي وهو : بعد شفاء أمي ؛ هل ستشفى أمتي ؟ ومتى ستخرج أمتي المنكوبة من مصائبها ؟ وهل ستتمكن هذه الأمة من تجاوز عقباتها ؟ ومتى ستتصدي هذه الأمة العليلة لأعدائها المتربصين بها ؟ ومتى ستعاود هذه الأمة الوقوف في وجه الاستعماريين والطامعين بعد أن جمعوا لها ثم اجتمعوا عليها بعد أن أغراهم ضعفها ؟؟
لقد ساهمت منظمة أطباء بلا حدود في علاج الكثير من المرضى العرب من أمتي المنكوبة ، ولكن جراحات هذه الأمة لم ولن تندمل ما دامت الفتن والعلل والأمراض تنخر في جسدها بعد أن فقدت هذه الأمة مناعتها وتركت مقاومتها ، ولن تتوحد هذه الأمة ما دام اليهود أمامنا والمتآمرون بيننا والحاقدون يتربصون بنا ، انه لشيء جميل عندما نعالج المصابين والجرحى من أمتنا المنكوبة ، ولكن الأجمل من كل ذلك حين نسارع لوأد الفتن ولجم العملاء والمأجورين ومحاربة الاعداء والدخلاء ، لقد كان من الأسلم لهذه الأمة لو تمكنت من دحر أعدائها الطامعين ومن التصدي لكل الحاقدبن والمتآمرين ، انه لشيء جميل عندما نرى منظمات الاغاثة الدولية والعالمية والخيرية مثل : منظمة أطباء بلا حدود وهي تقوم بعلاج الجرحى والمرضى والمصابين من هذه الأمة . ولكن هذه الأمة لن تتعافى ولن تتشافى ما دامت الحدود الاستعمارية مغروسة في جسد هذه الأمة : تقطع أوصالها ، وتشتت طاقاتها ، وتبعثر مواردها ، وتضعف من قدراتها ، وما دامت هذه الأمة ممزقة اربا” فستحل بها المصائب والفتن بين كل فترة وفترة ، وستجتمع عليها العلل وستنخر جسدها الأمراض المختلفة بين كل فترة وفترة ، وستجد فيها الحيوانات المفترسة الفريسة السهلة والدسمة وستهاجمها كلما احتاجت لذلك ... نعم لأطباء بلا حدود ، ونعم ثم نعم ثم نعم لوطن عربي موحد وبلا حدود ...