01-12-2013 11:56 AM
بقلم : د. زيد محمد النوايسة
ارتبطت الأغنية الوطنية الفلكلورية تاريخيا، بفرح الناس، وبوجعهم وبأحلامهم وآمالهم، بل أنها كانت في زمن مضى وانقضى، تعبيرا "مشفراً" عن حالة الاحتجاج، والرفض والشكوى، والتمرد، فشكلت مخزونا وجدانياً هائلاً، يؤرشف لمرحلة تاريخية من رحلة الدولة، بكل ما حملت أحداثه من انتصار هنا أو خيبة و تراجع هناك، فكنا نعود إليها كلما استبد بنا الحنين إلى الجذور، لننهل من مخزون ذاكرتنا الوطنية، نستذكر فيها الأشياء الجميلة والنقية كالمطر في بواكير الشتاء، والتي نفتقدها اليوم بفعل الحياة وتسارعها وسيادة التكنولوجيا الايجابي منها والسلبي، وانحسار المنظومة القيمية والأخلاقية والعادات والتقاليد والموروث الاجتماعي النبيل، بشكل تدريجي أمام زحف كل ما هو مادي وسريع على حياتنا، فالزمن هو زمن السرعة في كل شيء بدءً من الذائقة الغنائية وانتهاءً بالذائقة الغذائية للأسف!!.
وإذا كانت الهوية الوطنية تحمل في مضامينها كل الصفات، والسمات الشخصية، التي تعبر عن مدى التصاق الإنسان، بالأرض والبيئة والتاريخ والمكان، فأن الأغنية الوطنية تختزل كل هذه المفاهيم، فهي التعبير العفوي عن الناس فرحاً وحزناً، بكل بساطة ونقاء.
في الذاكرة الغنائية على هذه الأرض الكثير من الأغاني والأهازيج الشعبية التي تعبر عن الناس وعن واقعهم السياسي والاجتماعي، ومدى رفضهم أو قبولهم لذلك الواقع، فمن من الأردنيين لا يستذكر تلك الأهزوجة المغناة التي رددها أحرار العرب في الكرك في مطلع القرن المنصرم، رفضا لمنطق الحاكم العثماني المستبد"جمال باشا السفاح"، وقائد حملته على الكرك "سامي الفاروقي"، حين غنى الكركيون " يا سامي باشا ما نطيع ولا نعد رجالنا، لعيون مشخص والبنات ذبح العساكر كارنا"، تلك المغناة البسيطة العفوية، التي ساهمت في تهيئة المجتمع هناك لرفض الهيمنة العثمانية واذكت الشعور بالحماس والزهو الوطني، فكانت ثورة الكرك المجيدة في مساءات ذلك الأحد 21/11/1910.
ومن منا لم تهزه مشاعر الوجد والزهو والحنين والانتماء وهو يسترجع الذاكرة ويستمع لرائعة فيروز " أردن أرض العزم" و"عمان في القلب" و" أهداب حبيبي" وكل الأغاني التي ساهمت في إذكاء الشعور الوطني للناس عندما كانت الدولة والوطن بمجمله يعيش مرحلة سوداوية وقاسية كادت أن تعصف به، فما زالت قصائد الشاعر الكبير حيدر محمود والراحل حبيب الزيودي، تمثل التعبير الأصدق عن تلك المرحلة.
اكتب اليوم باستغراب واندهاش!!، وأنا استمع طالع كل شمس، في إذاعاتنا المحلية والخاصة منها على وجه التحديد، لسيل جارف مما يسمى زوراً وبهتاناً "أغنية وطنية"، ابحث فيها عن الوطن وهويته، الوطن الذي يشبهنا، ويشبه ملاح الأرض التي منحت وجوهنا لون سمرة ترابها، فلا أجده، ولا أجد أهلنا الطيبون، الذي يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، الذين اقتسموا منذ أن كانوا على هذه الأرض، الصبر والرضا، والخبز والمأوى وفرصة العمل والمقعد المدرسي والجامعي مع كل من آل إليهم ممن جارات عليهم الأزمنة والأوطان، فلا أجد للأسف، ألا تهديدا، ووعيدا، وشتماً، وشعور مفرط بان العالم ترك همومه وتفرغ لنا، فحيطنا ليس واطي، وضرباتنا في الرأس وإحنا كايدين الناس؟!!، بالرغم من أن الأردن الرسمي والشعبي يميل تاريخيا إلى السلام، والتعقل، والحكمة والبعد عن العنف سبيلا!!.
فمنذ متى يقلع الأردنيون العيون التي تنظر إليهم، مهما كان التعبير موغلاً في مجازيته فلا يمكن قبوله وشرحه للأخر؟!!، فماذا أذن نقول للسائح الذي جاء لينظر ويشاهد ويستمتع، أنت مهدد بقلع عينيك بمجرد النظر إلى أي مواطن أردني في الشارع ؟!! ولماذا التهديد والوعيد بطقطقة العظام وتهشيم الرؤؤس؟!! طالما أن للأردن جيش عصري محترف مشهود له بالكفاءة، وقادر عن الذود عن حمى الوطن وأهله!!، فالبطولة في عصرنا الحالي، أصبحت من الناحية العسكرية مرتبطة بامتلاك ناصية التكنولوجيا، فالقصة ليست "هوشة بيادر" كما يقال في الأمثال الشعبية.
وفي الوقت الذي ينظر فيه للأغنية الوطنية كعنصر جامع على المستوى الوطني، لا يعقل أن يكون لكل محافظة أو بلدة أو حي، أغنية وطنية مستقلة، تتحدث عن أمجاد تلك المنطقة، وخصائص قاطنيها، حتى تكاد تشعر بأنك تعيش في مجتمع يتكون من أقاليم متعددة، وثقافات وحضارات مختلفة، لا يربطهم رابط، علما بأننا شعب يكاد يتشابه في كل تفاصيل حياته وأنماط معيشته بشكل متفرد في المنطقة، وهي مما انعم الله علينا بها ولله الحمد.
الأغنية الوطنية من القداسة بمكان، أن اعتلت مرتبة من غناها في غير بلد من العالم العربي والعالم إلى درجة الرموز الوطنية، فالفنان المصري سيد درويش أضحى عنوان من عناوين الاستقلال والسيادة الوطنية في مصر، وكذلك الفنان عبد الحليم حافظ، وعندما نتحدث عن تاريخ مصر الحديث، لا يمكن أن نقفز على صلاح جاهين الشاعر الغنائي ورائعته الغنائية إبان العدوان الثلاثي 1956 "والله زمان يا سلاحي"، وكذلك فيروز والرحابنة ومارسيل خليفة، وأغانيهم الوطنية في لبنان، ومحمد الوردي في السودان، والفنانة الموريتانية المعلومة بنت الميداح، وهنا في الأردن، توفيق النمري وعبده موسى وفارس عوض والأمثلة كثيرة، ألا أن بعض ما نسمعه من إسفاف هذه الأيام لا يمكن التعامل معه على أنه موروث غنائي يعتد به ويمكن أن يورث للأجيال، ويكتب في السجل الغنائي الأردني، فالأغنية التي تؤلف وتلحن وتوزع وتغنى في نصف ساعة، وتنتشر بدقائق لا يمكن أن تكون التعبير الصادق عن الناس وهويتهم.
ختاماً، لا اعتقد انه من المقبول، أن يترك هذا الأمر على أطلاقه كما هو الحال الآن لكل باحث عن المال والشهرة، فما يطرح من إسفاف وكلام عبثي لا معنى ولا مدلول له في أحيان كثيرة أذا استمر، سيصبح بعد عشرات السنين موروثا ثقافيا وفلكلوريا، بالرغم أن الواقع مختلف كلياً، لذلك فالمأمول من وزارة الثقافة كونها الجهاز الحكومي المعني تنفيذيا بالثقافة الوطنية، أن تكون المرجعية التي تجيز وتسمح بطرح أي أغنية خاصة أذا كانت تحمل الطابع الوطني، وهذا لا يقلل من أهمية نقابة الفنانين ودورها أيضا فهي معنية بالأمر.