08-12-2013 04:44 PM
بقلم : د. زيد محمد النوايسة
في معرض اعتزازهم الوطني، كان "الأردنيون"، ومازالوا، يعتزون أيما اعتزاز بعاصمتهم الجميلة، ذلك أنها الانطباع الأول الذي يتشكل في ذهن أي زائر أو عابر لها من العرب والأجانب، فشكلت إضافة إلى حالة الأمن والاستقرار، والسلوك الأردني القويم في التعامل مع الضيف والزائر، ثالوث مقدس يركن إليه الناس كلما استعرضوا بعض من مميزات بلدهم، وخاصة عندما يكونوا في بلاد الاغتراب، فعمان هي المدينة الحجرية الجميلة، النظيفة، المضيافة الآمنة.
والحقيقة أن كل أسباب هذا الاعتزاز موجودة ومبررة، ولا يمكن إنكارها لكل متابع موضوعي، ولكن السؤال المهم الآن، هل مازالت هذه المميزات كما هي ؟!! وهل تراجعت أو تقدمت؟!! نستطيع الإجابة بوضوح على هذه الأسئلة، شريطة أن لا يكون منطلقنا في الإجابة، وكما هي العادة، تقديم باقة من الإشادة والثناء والشكر وعلى طريقة "الفزعة" غير المنتجة في الكثير من مناحي حياتنا بشكل عام، وبنفس الوقت أن لا تكون انطلقت على أسس شخصية ونفعية وكما هو سائد في الهجمة على عمان وعمدتها الآن وسابقاً، فموقع أمين عمان وعمدتها مبتغى لكل طامح، وحالم في الولوج لعالم السياسة هنا، حتى أن الناس تردد وعلى سبيل الطرفة والدعابة، بأن كل مسؤول سابق ولاحق "يهمس" لأقاربه، ومعارفه، ومريديه، بأنه تمت مفاتحته في الأمر، ولكنه متردد لان المسؤولية كبيرة، وعموما هو لا يتواني عندما يدعوه الداعي لخدمة الوطن وتولي منصب "عمدة عمان"!!!.
في بداية تأسيس الدولة كانت "عمان" تلك البلدة الوادعة التي اشتهرت بقربها من "البلقاء" وعاصمتها السلط، "كل المراجع التاريخية تؤكد أن عمان كانت بلدة من أعمال "البلقاء"، وكانت مساحتها المأهولة لا تتجاوز 1 كم مربع، وعدد قاطنيها لا يتجاوز الآلاف المعدودة، غالبيتهم من المهاجرين الشراكسة والشوام بينما كانت الإطراف تسكن من قبل العشائر الأردنية عموما، أما اليوم تجاوزت مساحة عمان الكبرى 1700 كم مربع ويقطنها ما يقارب الثلاثة ملايين نسمة، يخدمهم جيش من الموظفين والمستخدمين يقارب 23 ألف موظف، بالإضافة إلى الوافدين من المحافظات والأطراف والذين قد يتجاوزوا نصف مليون نسمة يوميا.
ربما من المناسب القول في هذا الصدد، أن "عمان" المدينة، دفعت ثمناً بحكم موقعها الجغرافي ، فتوسعت رغماً عنها بفعل ظروف الإقليم الملتهبة سياسياً، واستوعبت الهجرات البشرية المتلاحقة منذ منتصف العقد المنصرم وليومنا هذا، مما أدى إلى هذا الاكتظاظ البشري، بالإضافة إلى الهجرات الداخلية من المحافظات والإطراف والذي فشلت كل خطط التنمية المحلية في إيقافها والحد منها، بالرغم من صوتها المرتفع "إعلامياً" منذ أكثر من خمسين عام.
على أن السؤال المطروح الآن على من أدار ويدير التخطيط التنموي وتوزيع المكاسب التنموية على المحافظات، لماذا لم يتم وقف الزحف السكاني على العاصمة وتفريغ الأطراف من ساكنيها، فكل الدول تسعى لتكريس الهجرات المعاكسة من المدن للريف والإطراف، لكننا وللأسف بدل أن نجيب عليه بعقلية منفتحة!! نكتفي باتهام من يطرح هذه الأسئلة بأنه يقلل من الانجازات ويهاجم الدولة ودورها كما جرت العادة في فهم أي رأي مخالف؟!!، وفي العادة ينبري بعض الإعلاميين من كتاب الزوايا بتولي الرد وقيادة الهجوم المعاكس بمجرد أن يطلب إعادة التقييم لأي تجربة تنموية أو اقتصادية عاشتها الدولة!!.
بالعودة لعمان، عاصمتنا "العزيزة" والإجابة على السؤال الأساسي، هل تراجعت جمالية عمان ومستوى نظافتها؟!! الإجابة الأكيدة أن هناك تراجعا واضحا وملحوظاً لا تخطئه العين ولا تنكره المشاهدات اليومية، فالزيادة السكانية، ومن مختلف الثقافات ساهمت في تراكم المشكلة، ولكن الجهاز التنفيذي في الأمانة له نصيب مهم من المسؤولية، فهذا الجيش الهائل من الموظفين، كان عليه أن يجترح الحل وان لا يكتفي بالانتظار.
صحيح أن عمان لم تعد عمان الثمانينات والتسعينات، وصحيح أن التوسع الإسكاني الغير مخطط والغير مضبوط ساهم في خدش الصورة الجمالية، وعندما صنف موقع معماري مرموق مختص في جماليات المدن، عمان بأنها ثالث مدينة من ناحية سوء المنظر الجمالي وعشوايته البناء، ثارة ثائرتنا على الموقع بالرغم من أن معماريين أردنيين مشهودا لهم بالكفاءة والمهارة لم ينفوا ما ذهب إليه ذلك الموقع، واكتفينا بترديد "المعزوفة" بان عمان تتعرض لمؤامرة واستهداف، ولم نقدم بالدليل العلمي ما يدحض ما ذهب إليه الموقع ، حتى أن أحد الإعلاميين المعروفين اعتبر الأمر مؤامرة كونية؟!!، واكتفينا بالرد المعهود والاستهلاكي "فشروا".
في العقدين الأخيرين توسع بناء المجمعات الإسكانية، بشكل منفلت ودون ضوابط، فأصبحت مهنة مقاول الإسكان مشاعة ومتاحة لكل من يملك قطعة ارض صغيرة المساحة، ومبلغ من المال، وانتشرت الأبنية "كالفطر" دونما أي التفت للمشهد الجمالي، ومعايير بناء المجمعات السكنية عالمياً، فمن المعلوم أن جملة شروط يتوجب توافرها في أي مبنى سكني، أهمها المساحة والحدائق الأمامية، وفضاءات مكانية مخصصة للمشي وللعب الأطفال، ومواقف أمامية للسيارات، بالإضافة للارتدادات التي تعطي كل مجمع سكني منظر يميزه عن غيره، وللأسف كل ما ذكرت غير موجود مطلقاً، بل على العكس هناك انعدام لأدنى ذوق معماري يمكن أن يضفي خصوصية على البناء بحيث يكون ميزة لعمان دون غيرها، ومن حقنا أن نسأل أين التخطيط الشمولي للإسكان وأين القائمين على منح الإجازة لهذه الشركات الإسكانية، ومن المسؤول رقابياً عنهم؟!!
ختاماً، لا نملك أن ننكر حجم المنجز في عمان، فهو كثير بالتأكيد، ولكن حتى تبقى "عمان" زاهية بهية جميلة، مدينة لها روح وهوية عمرانية فارقة، تجذب الناس إليها، لابد لنا من إعادة النظر في واقعها العمراني، والتعامل مع الأمر بنهج مؤسسي تحكمه مرجعيات علميه وتراثيه، ولا أخال بلدنا الذي "قدم" لمدن الدنيا خيرة الكفاءات المعمارية، والهندسية يعدم إيجاد حلول مناسبة، وان نخرج من حالة الشخصنة والبحث عن مشاريع "خياليه" ترتبط بالأشخاص لا بالمؤسسة، هدفها بناء سيرة وسمعة ذاتية أكثر من بناء مدينة جميلة ونظيفة، فالمطلوب من الجميع أن يحافظ على جمالية المشهد الحضاري لهذه المدينة التي تملك من الإرث الحضاري ما يتجاوز السبعة الآلاف سنة، وأظنها تستحق الكثير شريطة أن يكون مدروس وبعيد عن المظهرية والاستعراض الفلكلوري الممل!!.