حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الجمعة ,21 فبراير, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 29053

القـانون والتربية

القـانون والتربية

القـانون والتربية

15-12-2013 10:14 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : د. إبراهيم بدر شهاب الخالدي

تُنشأ المدارس والمعاهد والجامعات ودور العبادة في كل دول العالم ، بهدف تربية النشء وتعليمه وتعديل سلوكه ، بما ينسجم مع المطالب القومية والحضارية التي اختارتها لنفسها ، وتستثمر الدول معظم مواردها الوطنية في هذا المجال ، كما تعقد المؤتمرات ، والندوات ، والاجتماعات ، وتصدر الكتب والنشرات ، وغيرها من وسائل التربية والتعليم والتوجيه ؛ لإيجاد المواطن الصالح الذي سيسهم في الجهود النهضوية التي تقوم بها ، وهي إذ تعتمد عليه وتثق به ليواصل مع أبناء وطنه مسيرة البناء والعطاء فيها ، فإنها تكل إليه أمر مستقبلها ، تودعه أحلامها وأمانيها ، وقد تنفق ، في سبيل هذا الهدف النبيل ، الملايين والمليارات من عملتها الوطنية .


ولكن رغم جهود المربين والمصلحين والدعاة ، ورغم كثرة الكتب والدروس الوعظية والمحاضرات ، ورغم كثرة النشرات والمقالات والملصقات ، التي تدعو إلى الفضيلة والتزام الأدب والتخلق بالأخلاق الحميدة ، وتجنب الرذائل والفواحش والمنكرات ، والحرص على أمن الوطن وسمعته ومكتسباته ، ورغم الملايين التي تنفق في هذا السبيل ، رغم هذا كله ، فإن هناك أناساً لم تفلح معهم هذه الجهود ، ولا تؤثر فيهم موعظة ، ولا يستجيبون لنصح أو توجيه ، ولا ينصاعون لنظام أو قانون ، وغير أسوياء من الناحية الخلقية ، ولا يترددون في الخروج على النظام والأخلاق والآداب العامة ، وذلك إما لفشل هذه الوسائل والأساليب ، وإما لظروف اجتماعية دفعتهم إلى سلوك الانحراف ، وإما لأسباب خاصة بكل منحرف ، دفعته للعناد والتمادي في الباطل والمنكر . ومهما يكن من أمر ، فمثل هؤلاء المارقين ، إن لم تفلح معهم جهود التربية والإصلاح ، وأساليب التقويم والتوجيه ، فلا بد أن يتلقفهم القانون الذي يقف لهم بالمرصاد ، المسنود بجدية الأجهزة الرسمية المنفذة له ونزاهتها ، فهو الضابط لسلوك هؤلاء ، الضامن لسلامة المجتمع وأمنه واستقراره .


ذلك أن للقانون دوراً فاعلاً في ضبط السلوك الفردي والجماعي ، وتوجيهه الوجهة الحضارية السليمة . فهو يمثل قمة النظام الاجتماعي ، يحتكم إليه الناس في إطار من الحرية المسؤولة ، ويخضع له الجميع بقناعة تامة ؛ لأنه ينظم حياتهم ، ويحفظ لهم حقوقهم ، ويضمن لهم حرياتهم ، فلا أحد يعتدي على أحد ، ولا أحد يتجاوز النظام العام ، أو يستولي على المال العام ، وهو ضامن للحقوق ، وضابط للسلوك الفردي والجماعي بشروط أربعة :
أولاً- أن يُصيغَه عقل راجح ، وقلب طاهر خالٍ من الهوى .
ثانياً- أن ينفرد في تنظيم حياة الناس ، بحيث لا يطغى عليه عرف فاسد أو شريعة جاهلية ، أو يرافقه قانون غير مكتوب ، يهرب إليه المارقون والمنفلتون من سلطة القانون .
ثالثاً- أن تدعمه سلطة قوية تضمن تطبيقه بعدالة على الدوام .
رابعاً- أن يكون هدفه حماية المواطنين وتنظيم شؤون حياتهم ، لا ابتزازهم أو التضييق عليهم .

فإن تحققت فيه هذه الشروط ، حقق الغاية منه في تنظيم شؤون الناس ، وفق العدالة التي يرتضيها الجميع ، وأسهم بفاعلية في ضبط السلوك العام وتهذيبه . ذلك أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن .
إن الناظر في سلوك الناس في العالم المتحضر عموماً ، يجد أنه سلوك راقٍ ، منسجم مع القيم الحضارية التي تربوا عليها ، مضبوط بضوابط المصلحة الوطنية لديهم ، قد صاغته الجهود التربوية والتعليمية الجبارة التي تبذل في هذا السبيل ، إلى جانب القوانين الحكيمة التي من شأنها تعديل سلوك المارقين والمنحرفين عن الجادة ، من الذين لم تفلح معهم جهود التربية والتوجيه والإرشاد . فهو إذ يعاقب أفراداً لخروجهم عليه من جهة ، فإنه يردع آخرين من جهة أخرى ؛ لما يجدون من آثاره الفعالة فيمن تعرضوا لسلطانه ، وهو بالتالي تشريع مهيمن على الجميع ، يصدر لحماية الجميع ولمصلحتهم .


وقد صيغت تلك القوانين وما يتفرع عنها من أنظمة وتعليمات ، بعد دراسات مستفيضة متأنية ، أعدها خبراء مخلصون لأوطانهم ، متفانون في خدمة مجتمعاتهم ، واعون تماماً للمهمة التي تصدوا لها ، كما أنها تطبق بإحكام وعدالة على الجميع : رئيسهم ومرؤوسهم ، فلا أحد فوق القانون ، ولا أحد يفلت من سلطانه ، أو يسلم من عقابه ، إن تطاول عليه ، أو استقوى بغيره ، فنتج عن ذلك السلوك الحضاري الذي هم عليه ، فلا تجد من يلقي النفايات كيفما اتفق وفي أي مكان ، ولا تجد من يرفع صوته أو صوت مذياعه بما يزعج الناس ، ولا تجد من يعتدي على الحريات العامة ، أو يشوه الذوق العام ، أو يعتدي على الغابات ، أو يعبث بالممتلكات العامة ، أو يسرف في استخدام الطاقة أو المياه ، كل ذلك منضبط بالقانون .


فالذي يلقي النفايات في غير الأماكن المخصصة لها ، لا بد أن يدفع غرامة مالية محددة بموجب القانون ؛ لكي لا يكرر ذلك السلوك المشين ، الذي يؤذي الناس ، فيتعلم بذلك الصواب من الخطأ السلوكي الذي يحظره القانون ، والذي يدخن في الأماكن العامة ، لا بد أن يدفع غرامة بموجب القانون كذلك ، والذي يبصق في الشارع لا بد أن يدفع كذلك ، والذي يرفع صوته دون مبرر فيزعج الناس ، والذي يعتدي على الغابات والشواطئ والممتلكات ، والذي يهدر الطاقة ويسرف في استخدام الماء ، والذي يتجاوز السرعة المحددة بالقانون ، والذي يخالف سائر الأنظمة والقوانين ، كل أولئك ملزمون بدفع الغرامات المالية التي تنص عليها القوانين . وإن تكررت هذه السلوكات المخالفة للقانون تغلظ تلك العقوبات ، أو تستبدل بروادع أخرى أشد وطئاً وأكثر إيلاماً ، حتى لا يجد المخالفون بداً من الالتزام بالقانون ، والانصياع لإرادة الجماعة التي يجسدها القانون .


وإنما اختيرت الغرامة المالية ابتداء ؛ لسهولة تطبيقها من جهة ، ولإيلامها النفسي من جهة أخرى ؛ ذلك لأنها تمس أعز ما يملك الناس في هذه الأيام ، ولا يوجع الناس أو يردعهم عن سلوك الانحراف أكثر من المساس بجيوبهم ، ولا يضبطهم أكثر من الغرامة المالية . ولما كانت القوانين عند أولئك القوم واضحة ودقيقة وعادلة ومتناغمة ، ولما كان التطبيق لها دقيقاً ومنضبطاً كذلك ، ومراعياً الشروط المشار إليها ، فقد تمخض ذلك كله عن السلوك الحضاري الذي هم عليه . ومن هنا فإن سلوك الناس هناك منضبط بالتربية والتعليم أولاً ، ثم بالقوانين ثانياً ، وبهذا تربوا على نمط من السلوك وأسلوب في الحياة ، ترعاه التربية السليمة والقوانين العادلة الحكيمة .


أما الشعوب التي تعاني من همجية سلوك أبنائها ، والفوضى التي تصبغ العلاقات بين أفرادها ، والفساد الذي يلون حياتها ، فإنما مرد ذلك كله عدم وجود قوانين واضحة لديها ، ضابطة لسلوك أفرادها ، أو تراخيها في تطبيق تلك القوانين إن وجدت ، أو سوء إعداد القوانين وتضاربها ، وبذلك يفرغونها من مضمونها ، ويسلبونها قوتها ، ويسقطون هيبتها في العقول والقلوب ، فيضعف تأثيرها في الضبط والإصلاح والتربية ، وكأنهم يدفعونها دفعاً إلى التخلي عن دورها التربوي الإصلاحي ، بل ويجعلون منها مظلة واسعة ترعى الفساد ، وتحمي الفاسدين والمفسدين .


ومن هنا فيحق لنا أن تطرح جملة من الأسئلة المشروعة ، التي تحتاج إلى إجابة عملية من أولي الأمر وأصحاب الشأن ! أين نحن من هؤلاء وأولئك ، وهل لدينا قانون ، بالمعايير التي سبقت الإشارة إليها ، نحتكم إليه كما يفعل الآخرون ، وهل ندرك أهمية القانون ودوره التربوي الإصلاحي في الحياة ، وهل نطبقه بعدالة على الجميع ؟ وهل نحترمه ونخضع لسلطانه بحيث ندعه يحقق أهدافه التي صيغ من أجلها ؟! إن التفاؤل يدفعنا إلى أن ننتظر الجواب وإن طال ، لأننا نستظل بمظلة الأمل الواسعة .








طباعة
  • المشاهدات: 29053
برأيك، هل يصمد اتفاق وقف إطلاق النار في غزة رغم مواصلة نتنياهو وترامب تهديد حماس باستئناف الحرب والتهجير؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم