21-12-2013 10:11 AM
بقلم : محمد بوعلام عصامي
أثار انتباهي مشهد للملك الأردني عبد الله الثاني على اليوتوب وهو يدفع مع مواطنين سيارة عالقة بالثلج في إحدى شوارع العاصمة، وهو مشهد نادر الى حد ما في دول العالم العربي، حيث الحاجز والهامش شاسع جدا بين رجال “الحكم” والمواطن، في انتظار تغير هذا المفهوم من “رجل الحكم” الى “رجل الحكامة” في هذا الجزء من العالم العربي أو دول الجنوب ككل.
هذا المشهد للملك عبد الله الثاني وهو يدفع مع مواطنين سيارة عالقة بالثلج، هو أمر عادي الى حد بعيد في العديد من الدول المتقدمة إنسانيا أوحقوقيا أوديموقراطيا، إلا أنه يعتبر خروجا عن المألوف في الثقافة السائدة والمترسخة بين المواطن والسلطة في الدولة العميقة، التي مازالت تتحكم في دواليب السواد الأعظم للأنظمة العربية.
يذكرني هذا المشهد الجديد في دولة عربية، بمشهد قديم للرئيس الأمريكي بيل كلنتون في ولايته الأولى، أيام كان الحلم الأمريكي عميقا وجارفا في نفوس الشعوب التواقة للحرية والإعجاب بالديموقراطية الداخلية وسيادة قيم المساواة المدعوم بإزدهار إقتصادي كاسح، قبل انزلاق الولايات المتحدة في متاهة الحروب والإنتكاسات الحقوقية في عهد “المراهق فكريا والمتشبع بالتعصب الميتافيزيقي جورج بوش الإبن”.
كان ذلك المشهد للرئيس الأمركي بيل كلنتون وهو يدفع سيارة عالقة مع مواطنين، قد خلف تأثيرا كبيرا للمتلقي العربي حينها، وكانت أهم المشاهد الحية غبطة قد كسّرت صورة ماهية رجل الحكم في ذاكرة المواطن العربي، وإعادة طرحه الى مفهوم “رجل الحكامة” في ذهنية المتلقي، حيث كانت صورة “رجل الحكم والحكومة” مرتبطة بذهنية المواطن العربي “بالهول والتهويل”، أو إلى ما يقرب أو يشبه نظرة التأليه القديمة للحاكم المطلق.
وقبل أن يدرك “العقل الإجتماعي” بعد زمن ليس بالبعيد وبشكل ملح بسبب الإنفتاح الإعلامي والتكنولوجي وتطور وسائل الإتصال، والتماس مع الحظارة الغربية في جانبها الحقوقي والإنساني، أن الحاكم ما يجب أن يكون إلا أحد أفراد المجتمع، والحكومة ما هي إلاّ جزء من النظام الذي يجب أن تعبر عن توجه حزب سياسي مدني يمثل رأيا أو توجها سياسيا في دولة مدنية عن طريق النيابة وتمثيل الأمة بمؤسسات منفصلة ومستقلّة أهمها جهاز القضاء العادل.
ما كان حينها يسمى “بالحلم الأمريكي”.. في شقه الأكبر كان يرتكز على قداسة القانون الذي لا شيء يعلو عليه، والذي يكفل الحرية والعدالة المقدسة للمواطن الأمريكي ويحمي كرامته كأمريكي في أمريكا، وقد رأينا كيف يلتزم الأمراء وأبناء الرؤساء الديكتاتوريين العرب الذين تحكم اغلبهم العجرفة والتهور كل الحذر في شوارع هذه الدولة خوفا من قوانينها التي لا ترحم أحدا لا رؤساءها ولا حتى مشرعيها أنفسهم!!! إنه فعلا الحلم المفقود في كل الدول العربية.. هو غياب الإحساس بالإطمئنان لعدالة وطنك، الإحساس بالمساواة والإحساس بإنسانيتك كإنسان.. إنه عمود التعايش والسلم المدني.
روي عن الرئيس البريطاني ونستون تشرشل قوله عندما سأل المواطنين في خضم المعارك الحربية الدائرة في الحرب العالمية الثانية عن أحوال البلد وكيف أن الخراب قد عم البلد، وأن الاقتصاد متراجع وان الرشوة تطال الجميع تقريبا وأن الوضع سيئ جدا، فبادر تشرشل وسأل المتواجودين هل القضاء ببلدنا بخير؟ ولا يعتريه الفساد أوالرشوة ؟ فأجابوه قائلين نعم بخير.. فقال لهم إذن لا تقلقوا على بريطانيا فهي بخير…!!!!!!
في العالم العربي للأسف حتى هذه اللحظة لا يوجد أي قضاء مستقل، بل اكثر من ذلك معظم مؤسسات القضاء يخترقها الفساد المالي والاداري، والنتيجة فساد لا يطاق وانهيار للقيم والمباديء المثلى للإزدهار الإجتماعيي والإنساني والنتيجة باختصار مجتمعات فاسدة يحكمها الغش والتملق والتسلط واللصوصية وغياب ملكة الإبداع والإبتكار والنزاهة، والنتيجة الثانية دول متخلفة ومستهلكة وتابعة وغير مستقرة إلا بالقبضة الحديدية التي لا يمكن أن تستمر على نفس المنوال، لأن العامل التكنولوجي والإلكتروني ووسائل التواصل السريعة والمتطورة أصبحت تضيء على المكان كالشمع في الظلام، وهذه من أجمل إيجابيات العولمة والتي سيتحول من خلالها العالم الى قرية صغيرة جدا، ستحمل في المستقبل القريب جدا نفس مستوى التأثيرات بين أبعد نقطة وأقرب نقطة في الدائرة ، بما يشبه الى حد بعيد التأثيرات بين أبعد مدينة وأقرب مدينة في نفس الدولة من سنوات الستينيات أو السبعينيات وإلى بداية الثمانينيات، قبل أن تنطلق العولمة ككرة الثلج تتضخم شيئا فشيئا مع مرور الوقت، ذلك الوقت الذي أصبح متسارعا وتغير مفهوم الزمكان، وهو الأمر الذي سيشبه الكبسولة التي ستنطلق في الفضاء الفسيح خارجة عن أي سيطرة أو الخضوع لأي تأثيرات جاذبية مرسومة، وإلى من يضنون أنهم بإمكانهم السيطرة على هذا العالم الإفتراضي التواصلي في إطاره الإيجابي وجانبه التحرري فهم لا يعلمون شيئا في تطور مجالات الإتصال والتواصل، أو كمن يريد أن يقبض على الريح بقبضة حديدية. وهنا تسعى الدول الرائدة الى تطوير مهارات التجسس لمواكبة هذا التوسع. وبالمقابل ستتطور بالإطراد مهارات التمويه والقرصنة والمخاتلة والإستضلال والتضليل والتتويه المشفرة. وفي هذا الإطار يجب التمييز بين جرائم الإنترنيت كجريمة وبين مجال الحرية، فالبعض يريد أن يطرق الباب الأول فقط ليغلق النافذة ويضيق على الحريات، وهو الباب المشروع الذي يستحيل أبدا التضييق عليه على منوال القنوات الأولى والثانية والثالثة و”انتهى موعد البث” من العصور البائدة!!!
إن الدولة العميقة أكبر ثقل على تقدم الدولة نفسها، ولم تحصل الإنسانية إلى يومنا هذا على أي نموذج “لدولة عميقة” استطاعت المسايرة دون إنهاك نفسها بنفسها بالدخول في صراع مع نفسها، باستثناء النموذج الصيني، والذي لا يتنبأ له الكثيرون بإشعاع قوي قد يتجاوز سور الصين القديم. رغم القوة العسكرية والسعي الحثيث الى غزو الأسواق العالمية.
نموذج الولايات المتحدة “كدولة عظمى غير عميقة” في ميكانزمات ودواليب الحكم، استطاعت التغلب على الإتحاد السفياتي سابقا رغم تكافؤ المستوى التكنولوجي والعسكري والنفوذ آنذاك، ورغم أن شعاراته التي كانت بين الفلاح والعامل، فعلى الأرض ومستوى النتائج والتطبيق كان بعيدا عن تحقيق تلك العدالة والمساواة الإجتماعية المنشودة، وتحقيق الإطمئنان النفسي للمواطن في عدالة وطنه.
إن هذا الوتر سيبقى الهاجس الأكبر للدولة العميقة أمام القبضة الحديدية، وهو هاجس التخوف داخليا، لأنهم يعلمون أنه الوتر الذي يشكل لديهم نقطة الضعف لعدم استقرار أنظمتهم على أساس صحي قوي ومتين، مبني على مباديء قوية في العدالة، والعدالة الإجتماعية والحقوق والحرية والمساواة من داخل أوطانهم، تلك الأوطان التي حولوها الى ضيعات خاصة، والى غير ذلك من الأمور الإنسانية المهمة والملحة في حياة البشرية.
وفي الختام وبدون تهريج أو صياح أو تهليل، كمدوّن ومواطن بسيط : تحية عميقة للملك عبد الله الثاني على تكسيره الرمزي المهم لجدار برلين العربي بين “الحاكم والمحكوم” جدار تهويل البسطاء من شعوب هذا الركن المظلم من هذه البسيطة “العالم العربي”، ذلك الركن المعزول إنسانيا والمهم استراتيجيا.
وخلاصة القول فلندفع بعجلة الوطن نحو الأمام، وإلى بر الأمان من متاهة التخلّف والوحل الذي تقف عنده سيارتنا منذ زمن بعيد جدا.
الأمر بسيط جدا قضاء عادل ومستقل، وحقوق وديموقراطية وحرية وعدالة إجتماعية. وإنهاء عهود القبضة الحديدية للدولة العميقة التي تنهك “الاعصاب” من الداخل وتخلق التوتر وعدم الإستقرار.
السلام عليكم