07-01-2014 10:02 AM
بقلم : د. منتصر بركات الزعبي
قالَ اللهُ تعالى:(( وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)).
التطفيفُ هو سَرِقَةُ البَائِعِ لِلمشترِي بالتلاعبِ فِي المِيزانِ أو المكيالِ ؛فالُمطفِفُ يَعمَدُ إلى إنقاصِ الوزنِ والمكيالِ، لكيلا يتلقَّى المُشترِي مِن السلعةِ القدْرِ المُساوِي للمالِ الذِي دَفعَهُ.
ويُخبِرُنا القرآنُ الكريمُ، أنَّ نفسَ هذا المُطفِفُ الذي يُخسِرُ المِيزانَ، حينَ يبيعُ إلى الآخَرين، يَحرِصُ كلّ الحَرصِ، حينَ يكونُ هو الشارِي ،على أنْ يستوفِي حقّه فِي الكيلِ والميزانِ ،كاملاً غيرَ منقوصٍ ،فالتطفيفُ إذنْ ضرْبٌ مِن ضروبِ ازدواجيةِ المعاييرِ.
وبطبيعةِ الحالِ فإنّ التطفيفَ المَعْنِي هنا، إنّما هو التطفيفُ الذي يرتكبهُ الأفرادُ ، فالآيةُ وردتْ في شيءٍ محسوسٍ ، فالكلُّ يعرفُ العدلَ فيهِ والجورَ وهو الكيلُ والوزنُ، لكنْ هلْ هِي خاصة بالكيلِ والوزنِ أمْ هِي عامة فِي جميعِ الحقوقِ ؟ الجوابُ: عامةٌ في جميعِ الحقوقِ ، وإنَّما ذَكرَ اللهُ الكيلَ والوزنَ لأنّه معروفٌ عندَ البائعِ والمشترِي.
لماذا استخدمَ رَبُّنا الفعلَ (اكْتالَ علَى) ولمْ يستخدمْ (اكتالَ مِنْ) ؟!إنَّ مِنْ معانِي (علَى) الاستعلاءَ ،وفِي ذلكَ إشارةً إلى أنّ (اكتالَ على) ،بمعنَى ألزمَ المُشترِي البائعَ أنْ يُقدِّمَ له حقَّهُ كاملاً ،بِحكمِ احتكارِ الصِّنفِ، أو بحِكمِ القوَّةِ المَادِّيةِ أو المَعنَوِّيةِ ،أو قوّةِ المَالِ أو الجَاهِ أو السلطانِ، أي أنْ معكَ قوةً ألزَمْتَ هذا المشتري ،أنْ تأخذَ مِنه حقكَ كاملاً ،ولو كانَ غيرَ مقبولٍ.
وما أريدُه في هذا المَقالِ ،أنْ أسحبَ مفهومَ التطفيفِ الواردِ في القرآن، مِن إطارِ مَسلكِ الأفرادِ، إلى إطارِ مَسلكِ الحكوماتِ ،فحكومَتُنا الرشيدةُ خيرُ مَن يُضرَبُ بها المثلُ على التطفيف، بلْ هي مِن أكثرِ الحكوماتِ تطفيفا!! وتطفيفُ الحكوماتِ أشدُّ ضررًا بمصالحِ الناسِ مِن تطفيفِ الأفرادِ.
والحكوماتُ الأكثرُ تطفيفًا إنّما هي الحكوماتُ الشموليَّةُ. فانعدامُ الديمقراطيّةِ، وانعدامُ الشفافيّةِ، وقَفلُ الأبوابِ على الرقابةِ الشعبيّةِ، ودمجُ السلطاتِ في بعضِها البعضِ، وتبعيُّة القضاءِ للسلطةِ التنفيذيّةِ ،أمورٌ تخلقُ في جُملتِها، أفضلَ المناخاتِ لممارسةِ أفعالِ التطفيفِ.
إنَّ مِن مرتكزاتِ صيانةِ آلياتِ الحُكمِ الدِيمقراطِيِّ عدمُ افتراضِ النزاهةِ في الحكوماتِ الديمقراطِيّة ،فكيفَ إذا كانتْ شموليّةً كحكومَتِنا مثلاً ؟! فقديمًا قِيلَ: ((السلطةُ تُفسدُ، والسلطةُ المطلقةُ تُفسدُ إفساداً مُطلقاً)).
فليسَ مِن المَعقولِ أنْ ننامَ ،على زَعمِ أنَّ حُقوقَنا وأموالَنا في أيدٍ أمَينةٍ ،مُفترضين في مَن يَحكُمُنا النزاهة المُطلقة.
ولو أنَّنا ألقينا نظرةً سريعةً على ما يفعلُه رئيسُ حكومتِنا العتيدِ "عبدُ اللهِ نسور، لوجدناه لا يفعلُ شيئًا سوى التضليلِ ،وتصويرهِ لنفسِهِ بأنّه ملاكٌ طاهرٌ يمشي على الأرضِ ،يساعدُه على ذلكَ الإعلامُ المُدَجَّن والمأجورُ على إشاعةِ ثقافةِ التضليلِ.
فالأنظمةُ الشموليَةُ في الدولِ النامِيةِ كثيرًا ما ترفعُ شِعاراتٍ وعلى رأسِها شعارُ "الشفافيةِ" ،والعزفِ على وترهِ هو النَّغمُ المُفضلُ الذي ترقصُ على إيقاعهِ الشعوبُ.
ولذلكَ حَرَصَتْ حكومتُنا العاجزةُ ،على الدعايةِ لنفسِها بأكثَر مِمّا تحرِصُ على استردادِ ما نُهِبَ مِن خزينةِ الدولة ،لسدِّ العجزِ الذي تعانِي مِنه ،فلجأت ْإلى جيبِ المواطنِ ،فرفعتْ أسعارَ المشتقاتِ النفطيّةِ والكهرباءَ ،الذي يُمثل أيسرَ الأساليبِ للتغطيةِ على مَن سرقَ المالَ العامّ.
أينَ الشفافية التِي وَعَدّتَ بها يا دولةَ الرئيسِ ؟! بالإعلانِ عن آليّةِ التسعيرِ ،التي أصبحتْ لغزًا غيرَ مفهومٍ ،يؤرِّقُ المواطنَ الذي أصبحَ يتحملُ نتائجَ تقصيرِ الحكومةِ في تطويرِ قطاعِ الطاقةِ ،وخلْقِ البدائلِ ؛ فيدفعُ مُجبرًا أثمانَ الفاقدِ مِن إنتاجِ مِصفاةِ البِترولِ بسببِ عجزِها على تطويرِ قدراتِها الإنتاجيّةِ ،أليسَ هذا مِن التطفيفِ يا دولة الرئيسِ ؟َ!
أليسَ مِن التطفيفِ أنّكَ إذا ما قُمتَ بتخفيضِ أسعارِ المحروقاتِ خفّضتَها بنسبٍ قليلةٍ تكادُ لا تذكرُ ؟ "تعريفة ! ولو هناك نسبةٌ أقلّ لمَا ترددتَ في ذلكَ ،وعندما ترفعُ ترفعُ بأضعافَ مضاعفةٍ!!
أليسَ مِن التطفيفِ يا دولةَ الرئيسِ أنْ تطالبَ المواطنَ الكحيانَ بالتقشفِ ؟ بَينما تُحمِّلُهُ تقصيرَكَ وفواتيرَك التِي تجاوزتْ الثلاثةَ عشرَ ألفًا مِن الدنانيرِ الأردنيّة ،فهلْ المُواطنُ الذِي يرتجفُ مِن البردِ مسئولٌ عن دفعِ فاتورةِ دِفئِكَ ودفءِ أبنائِكَ وأبناءِ أبنائِك وأصهارِك والمحاسِيبِ ؟ وهلْ المواطنُ الطفرانُ مسؤولٌ عنْ طهارتِكم بالماءِ الساخِنِ وعن حماماتِ الساونا والجاكوزِي ؟وهلْ المواطنُ المْفَلِّسْ مسؤولٌ عن إضاءةِ قصرِكَ طولَ الليلِ وطرفًا مِن النهارِ؟!
هذا عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ ـــ رضي الله عنه ـــ جاءَهُ أحدُ الولاةِ ،وأخذَ يُحدِّثهُ عنْ أمورِ المسلمين ،وكانَ الوقتُ ليلاً وكانوا يَستضِيئون بشمعةٍ بينهما ،فلمّا انتهى الوالِي مِن الحديثِ عَن أمورِ المُسلمِين ،وبدأَ يَسألُ عُمرَ عنْ أحوالِه قالَ لهُ عُمَرُ : انتظرْ فأطفأَ الشمعةَ وقالَ لهُ :الآنَ اسألْ مَا بدا لكَ ، فتعجّبَ الوالِي وقالَ : يا أميرَ المؤمنين لِمَ أطفأتَ الشمعةَ ؟ فقالَ عُمرُ :كنتَ تسألُنِي عَن أحوالِ المُسلِمين ،وكنتُ أستضِيءُ بِنورِهم ، وأمَّا الآنَ فتسألُني عنْ حالِي ،فكيفَ أخبرُكَ عنهُ على ضَوءٍ مِن مالِ المُسلمِين؟.
فهلْ المواطنُ المسخّم مَسؤولٌ عنْ شمّاتِ الهواءِ وواجباتِكَ الاجتماعيةِ في سياراتِ الدولةِ التي تسير بعرقهم ؟وهلْ المُواطنُ "الملطم" مسؤولٌ عن أكلِ المناسفِ والمسخن والشيخ المخشي بالصنوبر والكاجو وأشياء لا يعرفُها ،حتّى بلغتْ الفاتورةُ الواحدةُ لليومِ الواحدِ ألفَ دينارٍ عدًّا ونقدًا.(كَبُرَ مَقتًا عندَ اللِه أنْ تقولوا مَا لا تَفعلُون)
كيفَ غابَ عن ذهنِكَ يا دولةَ الرئيسِ وقوفُكَ بينَ يدِي حاكمٍ عَدْلٍ؟َ! كيفَ غابَ عنْ ذهنِك هذا اليوم العظيم، الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين؟! كيفَ غابَ عنك أنَّكَ ستُحاسبُ على هذهِ الأعمالِ حساباً عسيراً؟ كيفَ غابَ عنكَ أنّك ستدفعُ الثمنَ غالياً؟ مصداقا لقولهِ تعالى :﴿ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ*لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾
فأمنُ الدولِ يا دولة الرئيسِ قيمةٌ مطلقةٌ ﻻ تقبلُ التطفيفَ واﻻستثناءاتِ ،سواءٌ أكانَ أمناً فكريا،أو غذائياً،أو صحيا،أو جنائياً"ـ
Montaser1956@hotmail.com