11-01-2014 10:20 AM
بقلم : د. أمل محي الدين الكردي
ما أكثر ما يصادف الناظر في ثراثنا الأدبي التاريخي هذه الصورةالجميلة من صور التعبير البياني(بأبي أنت يا رسول الله)(أو بأبي وأمي يا رسول الله ).
والذين تؤثر عنهم هذه الصورةالبيانية الجميلة من أسلافنا الاطهار,أنما يقصدون أنهم يقدمون آباءهم وأمهاتهم فداء لرسول الله صلى الله وعليه وسلم اذا أقتضى الأمر الفداء,وهم يشيرون بذلك الى أنه عليه السلام آثر عندهم من أعز الأعزاء من التفدية بالآباء والامهات.
وعلى كثرة ما يروى التاريخ من المبالغة في صور التعبير والذهاب الى آماد بعيدة في الملق والكذب والرياء, فأن هذه الصور من صور التعبير الموصول برسول الله صلى الله وعليه وسلم لم تكن لتقف في نفوس المسلمين ممثلة للحقيقة حسب,بل أنها لتمثل أكثر من الحقيقة فان أصحابه كانوا يفدون عليه السلام بأنفسهم, ونفس الانسان أعز عليه من أمه وأبيه , وربما ضن الانسان بنفسه بادلا أمه وأبيه .
ومن هنا يكون فداء صلى الله وعليه وسلم بالنفس أوضح في الدلالة على الحب من التفدية بالآباء والامهات
ومن هنا كثيرا ما نرى تعبيرا آخر يقول فيه القائل :بنفسي أنت يا رسول الله أو بنفسي رسول الله.
بل أنهم ليفدون التراب الذي لامس جسده الشريف فذلك حيث يقول الشاعر
فديت الثرى في الارض مس جبينه
ببدر وقد قامت على ساقها بدر
ومن حوله الايمان صفا جنوده
وقد صبروا للضيم حتى انقضى الصبر
دعاهم لنصر الحق والحق حجة
تقوم اذا قامت بها البيض والسمر
فخفوا اليه خف كهل ويافع
وشيخ وذات الخدر خف بها الخدر
وتفديه الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بآبأئهم وأمهاتهم بل بأنفسهم,لا يعيا طالب الدليل عليه فيما يرويه التاريخ الواثق لنا من وقائع وأحداث.
فمن ذلك, خبر الصحابي يدعى زيدا, غدرت به قبيلة هذيل فأسرته,ثم باعته لصفوان بن أمية,الذي أشتراه ليقتله بأبيه(أمية أبن خلف) الذي قتل يوم بدر,فلما قدم زيد للقتل سأله أبو سفيان في هذا الموقف الحرج الآليم:أسالك بالله يا زيد,أتحب محمدا الآن عندنا في مكانك تضرب عنقه وأنك حر طليق في أهلك وبين قومك؟. قال زيد: والله أحب أن محمدا الأن في مكانه الذي هو فيه,تصيبه شوكة تؤذيه ,وأنا جالس في أهلي وبين قومي.
فعجب أبو سفيان وقال: ما رأيت في الناس أحدا يحبه أصحابه,كما يحب أصحاب محمد محمدا.
وقصة علي في مبيته مكان رسول الله صلى الله وعليه وسلم ليلة الهجرة ,على توقع القتل,لا تحتاج الى دليل وراءها ,ولا سند يظاهرها ,فأن ذلك كله مما يكاد ينطق بحب المسلمين رسول الله صلى الله وعليه وسلم وايثارهم نفسه الشريفة على أنفسهم ومقدساتهم وأبائهم وأمهاتهم.
لقد كان محمدا حبيب الى القلوب ,أثيرا لدى النفوس من جانبين:
احدهما:أنه رسول صاحب دعوة,اذا خالطت بشاشتها القلوب, أمتلأت بحب الداعى اليها الصدور والنفوس,وكذلك يكون حب كل أتباعه له في شتى أنحاء الدنيا وجميع أرجاء العالم.
والجانب الثاني:أنه بشر سوي, صاحب خلق رفيع ,وقلب كبير,وأنسانية كاملة.وهو ما يشير اليه القرآن الكريم في قوله تعال:(وأنك لعلى خلق عظيم). ولقد أحبه من أجل هذه الأخلاق ناس من الناس لم يعتنقوا الاسلام فتخالط بشاشته قلوبهم.
وقصة زيد بن حارثة رضى الله عنه,وعنا به ,آية ذلك وشاهد له دليل عليه,وهي قصة ينبغي أن يديم المسلمون ذكرها وأدارتها على المسامع,فأنها الدليل العظيم على الصدق الصادق في وصف الله تعالى بشرف الخلق وكرم النفس.
قال أهل السير: كان زيد بن حارثة غلاما عربيا,خرجت به أمه لزيارةأخواله,فأغارت عليها خيل عربية,وأحتملت زيدا وهوغلام يفعة,ثم بيع رقيقا في سوق عكاظ وكان الذي أشتراه هو حكيم بن حزام , أشتراه لعمته خديجة بنت خويلد زوج محمد, ولما رأى محمد الغلام طلب من زوجته أن تهبه له ,فأوهبته أياه.وعاش الغلام في بيت أبويه,وبالخلق الرضى في رسول الله مودته الفطرية لأبيه حارثة.
يقول أهل السير : وكان حارثة أبا زيد هذا لا يرقأ له دمع,ولا يكف عن قلبه الحزن,ولا يستقر به في مكان مقام,فهو دائب الضرب في الأرض,يبحث عن ولده ويبتغي العثور عليه,وهو ينشد في تجواله الحائر الباكي أبياتا من الشعر يقول:
أبكي على زيد ولم أدر ما فعل
أحى فيرجى أم دونه الأجل
تذكرينه الشمس عندطلوعها
وتعصف ذكراهاذا غربها أفل
وأن هبت الأرواح هيجن ذكره
فيا طول ما حزن ويا طول ما وجل
سأعمل نص العيس في الأرض جاهدا
ولن اسأم التطواف أو تسأم الابل
حياتي أو تأتي علي منيتي
فكل امرىء فان وأن غره الأمل
وهكذا مضى الرجل في تطوافه,مقروح الجفن,بادي الحزن, يلفه الليل ليكشفه النهار, وتعلو به الجبال لتهبط به الوديان,حتى انبأه منبىء,أن ولده عند رجل بمكة يدعى محمد بن عبد الله بن عبد المطلب,وكان محمد يعرف بجده عبد المطلب الذي كفله صغيرا يتيما كما كان هو نفسه يقول عن نفسه: أنا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب.
ومضى الرجل,أعني حارثة والد زيد,وراح يسأل عن محمد وعن بيت محمد الذي فيه ولده زيد,ولما دل عليه,وكان ذلك قبل مبعثه رسول الله صلى الله وعليه وسلم , , قال له :يا محمد نبئت أن ولدي عندك, وهو غلام أصابته رماح العرب,وكان مع أمه يزور أخواله,ثم بيع عبدا رقيقا,وما زال يتنقل به الرق من يد الى يد حتى أنتهى اليك.وقد جئت أطلبه منك.
ودعا محمد بالغلام وسأله:هل تعرف هذا؟ قال نعم هو أبي.... وقال محمد يا أبا زيد أن ولدك عندي في عطف سابغ ومنزل كريم,ولست أحب لك أن تكرهه على مالا يريد,فدعه وما يختار,فأن أختار المضي معك مضى,وأن أختار المقام عندي أقام.
ولكن زيد أختار البقاء مع محمد دون الرحيل مع أبيه.ولا شك أن الوالد أصابه الدهشه مما رأى منزلته عند ولده,من أنه لم يختاره على محمد,ولكنه أختار محمد رسول الله صلى الله وعليه وسلم ,وآثر أن يعيش في بيت محمد خادما رقيقا على أن يعيش في بيت أبيه وأمه وبين قومه حرا غير مسود..
وعند ذلك لم يجد محمد من أن يخرج بالغلام الى حجر الكعبة حيث يجتمع الملأ من قريش ثم يقول للناس: أن زيد هذا ,أشهدكم أنه أبني,يرثني وأرثه,ومن ثم كان الناس يدعونه زيد بن محمد بدل من زيد بن حارثة,وظل الامرعلى ذلك حتى نزل القرآن الكريم ناهيا عن التبني فذلك حيث يقول في سورة الأحزاب
) ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما ( 5
ومن ثم صار الناس يدعونه زيد بن حارثة وليس زيد بن محمد.وكانوا يسمونه حبيب رسول الله.
والمسلمون يعلمون أن زيدا هذا هو والد أسامة بن زيد الذي سار أبو بكر خليفة رسول الله ماشيا خلفه وهو راكب أميرا لآخر جيش عقد لوائه رسول الله في حياته,والمسلمون يعلمون أيضا
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يعطي المسلمون من بيت المال,وكان يعطي أسامة بن زيد أكثر مما يعطي أبنه عبد الله بن عمر.وقد حاول عبد الله بن عمر أن يحتج على أبيه قائلا له:أن عطاء أسامة بن زيد أكبر من عطائي,فقال له عمر:أنه أحب الى رسول الله منك,وكان أبوه أحب الى رسول الله من أبيك.
بهذه المعاني الكبيرة ينبغي أن يتلقى المسلمون ذكرى مولد رسول الله صلى الله وعليه وسلم ,وينبغي أن يتعمقوا بالنظر ويتأملوا بما ينبغي لها من وعي واعي وفقه فقيه .وبذلك يعرفون أن محمد رسول الله صلى الله وعليه وسلم في أنسانيته كان أكبر من انسان,وأنه في خلقه كان أفضل فاضل ,وأنه في معاملته للناس صغارا وكبارا كان أكرم كريم ,وأنه في رسالته كان أعظم مصلح تطاولت اليه الأعناق في دنيا الناس منذ عرف الناس دنيا الناس. فصلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله,وبنفسي وأبي وأمي أنت يا رسول الله صلى الله وعليه وسلم
amalkurdi77@yahoo.com