27-01-2014 07:46 PM
سرايا - سرايا - فى الحلقة الأولى من مذكرات الإعلامى الكبير حمدى قنديل، والصادرة عن دار «الشروق» بعنوان «عشت مرتين»، تابعنا كيف تعثر فى دراسته فى كلية العلوم بالإسكندرية، وعودته إلى طنطا مقررا العودة لدراسة مواد «التوجيهية» بهدف الحصول على مجموع يؤهله لدخول كلية الطب.
وفى هذه الحلقة نتابع مع صاحب هذه المذكرات، سطورا من حياته وهو طالب فى كلية الطب، وبعضا من حكاياته الممتدة عن أهل الفن والسياسة والإعلام فى مصر والعالم.
• رفضت أشرب من «الجوزة».. وعاندت لأثبت للجميع أن «الأفندى» لا يهزه الحشيش وبعدها تهت فى حوارى القلعة
أضعت فى اكتشاف القاهرة كل ما كان يسمح به المصروف الذى كان يعطيه لى والدى، وكان عشرة جنيهات فى الشهر، وهو مبلغ معتبر يمكن أن يكفى كل صنوف التسلية البريئة، والواقع أننى لم أجرب غيرها من صنوف التسلية سوى مرة واحدة، كان ذلك عندما دعانى أحد الزملاء فى الكلية إلى سهرة فى القلعة، وصارحنى أننا سندخن ليلتها «أجدع حشيش فى مصر»، ولم أمانع، لكننى لم أشعر براحة تجاه المكان الذى قصدناه وكان قبوا فى بيت متهالك، ولا بالجالسين حولى، كما أننى استنكفت أن أدخن «الجوزة»، ويبدو أن أحدهم لاحظ ذلك فنادى بصوت عالٍ ساخرا: «يا اخواننا لفوا سجاير للأفندى».
عاندت لأثبت للجمع أن «الأفندى» لا يهزه الحشيش فدخنت بدلا من السيجارة ثلاثا، ولكننى عندما غادرتهم مبكرا ضعت فى مسالك القلعة وحواريها وأنا أبحث عن محطة الأوتوبيس، ولم يكن هذا ما أزعجنى، وانما ما أزعجنى حقا هو الشعور بأن هناك أحدا يطاردنى، تملكنى جبن شديد لم أعرف كنهه، وكان هذا كافيا كى لا أعاود الكرَّة مرة أخرى.
وفى أحد الأيام التقيت إبراهيم مصطفى رائدنا السابق فى جمعية الشبان المسلمين، فأخذنى معه إلى بيت المهندس مصطفى مؤمن فى شارع قصر العينى، وكان زعيم طلبة الإخوان المسلمين فى جامعة القاهرة فى الأربعينيات، وهناك حضرنا ندوة لمناقشة كتاب أحمد بهاء الدين الذى كان صدر حديثا «النقطة الرابعة تعنى الحرب» (النقطة الرابعة هو برنامج مساعدات أمريكية أطلقه ترومان عند توليه الرئاسة فى 1949)، واستكملنا مناقشة الكتاب بعدئذ فى ندوة أخرى، وقد ألهبت هذه المناقشات عدائى لأمريكا، ليترسخ لديَّ اعتقاد بأنها وراء معظم المصائب فى مصر، وأنها تحرك كثيرا من الخيوط من وراء الستار.
• تظاهرت دعمـًا لمحمد نجيب بعد إقالته..وإزداد حنقى على الحكم بعد اعتقال إحسان عبدالقدوس
مع نجيب
استغرقت جولاتى هذه أشهرا قليلة لم أخرج منها بنتائج جلية حتى جاء مارس 1954 عندما حدثت الأزمة المعروفة بين محمد نجيب ومجلس قيادة الثورة، وكنت من بين أولئك الذين يناصرون محمد نجيب لأنه ـ على ما فهمت ـ كان هو من ينادى بعودة الجيش إلى ثكناته، وتشكيل حكومة برلمانية، فى حين كان الآخرون يصرون على البقاء فى السلطة، وكان نجيب رمز الثورة لدى الكثيرين، وعندما صدر القرار بإقالته خرجت من الجامعة مظاهرات استمرت عدة أيام.
فى أحد هذه الأيام وصلنا إلى كوبرى قصر النيل فطاردتنا الشرطة واعتقلت الكثيرين، ولكننى استطعت النجاة مع البعض عندما سارعنا بالعَدْو تجاه فندق شبرد، واختبأنا فى جراج عمارة الشمس المجاورة له؛ حيث استتر بعضنا داخل السيارات والآخرون تحتها أو خلفها، وظللنا فى هذا المخبأ ساعات حتى تأكدنا أن الشرطة غادرت المكان عندما صاح ضابط فى الخارج: «حارجع لكم تانى يا ولاد الكلب».
• حصلت على درجتين من مائة فى الكيميا العضوية.. فحبست نفسى شهرين بعدما حلقت شعرى «على الزيرو»
وزاد حنقى على الحكم بعد اعتقال إحسان عبدالقدوس، ولم أفهم كيف تعتقل الثورة ذلك الرجل الذى كشف الأسلحة الفاسدة، ولكننى كنت أحاول على الدوام الاهتمام بالدراسة، وغالبا ما كنت أفشل، وكان مصيرى المحتوم الرسوب فى كل المواد، وأذكر أننى حصلت فى إحداها على صفر، أما فى الكيمياء الحيوية، وكان كتابها يزيد على 300 صفحة باللغة الإنجليزية، فلم أستطع الإجابة سوى على فقرة واحدة من سؤال بين أسئلة الامتحان الخمسة، وكان السؤال على ما أذكر حول تركيب غاز الأوزون، ونلت مقابل هذه الإجابة درجتين اثنتين من مائة درجة.
لم تصدمنى النتيجة كثيرا، وقررت العودة إلى طنطا، وحلقت شعرى «على الزيرو» وحبست نفسى فى المنزل لم أغادره لمدة شهرين فاستطعت بذلك اجتياز امتحانات الدور الثانى، ونقلت إلى سنة أولى طب، أى إلى دراسة الطب الحقيقية فى قصر العينى.
فى خريف 1955 بدأت الانشغال بالمجلة التى كانت الكلية على وشك إصدارها، وبدأنا العمل باختيار الطلبة والأساتذة الذين سيكتبون المقالات أو يجمعون الأخبار والمعلومات، وأخذنا ننقب فى تاريخ الكلية ونبحث عن خريجيها البارزين الذين تولوا مناصب مهمة وما زالوا على قيد الحياة، وجمعنا قدرا كبيرا من الصور الفريدة.
احتفلت أخبار اليوم معنا عندما انتهت طباعة المجلة، وانضمت إلى الاحتفال زميلتنا سميحة النجدى التى تصدرت صورتها الغلاف، وقد توفيت فى ريعان شبابها بعد تخرجها بسنوات، وكانت آية فى الجمال والخلق، أما أنا فقد كدت أطير فرحا بنشر مقالى فى المجلة (بقلم حمدى قنديل) تحت عنوان «ذئاب ونعاج فى الجامعة»، وكان يدور حول العلاقة بين الطلبة والطالبات، الموضوع الذى شغل بالى كثيرا، وعندما اطلعت على المقال مؤخرا هالنى ما فيه من سطحية.
قبل فجيعة الامتحان، وكنا وقتها فى عام 1956، واجهتنا فجيعة أقسى، إذ جاءنا الدكتور ناصح أمين ينقل لنا النبأ الصادم أن إدارة الكلية قررت مصادرة المجلة؛ بدعوى أننا تطاولنا على الجامعة وأساتذتها، وكنا بالفعل قد انتقدنا الأساتذة ولكننا لم نتطاول عليهم، لهذا رجحنا أن يكون سبب المصادرة هو مقال محمد العزبى، وكان مقالا ملتهبا عن الكفاح الوطنى لطلبة الطب عبر الزمن، أو أن يكون أصحاب العيون والآذان المفتوحة قد علموا أننا من أنصار محمد نجيب.
فى براغ
بعدها بأيام نادانى صبرى أيوب إلى الملاعب ليحدثنى فى أمر قال إنه مهم: «أنا على صلة باتحاد الطلبة العالمى فى براغ IUS كما تعرف، وسيعقد الاتحاد مؤتمره السنوى هذا العام فى المدينة نفسها، وهم يواجهون أزمة مع السلطات المصرية التى ترفض مشاركة طلبة من مصر فى مؤتمر تعقده منظمة يسارية» على الرغم من أن عبدالناصر كان قد عقد صفقة الأسلحة التشيكية الشهيرة فى العام السابق، أى فى عام 1955، وعلى الرغم من وقوفه ضد سياسة الأحلاف العسكرية الغربية فقد كان حذرا من تسلل الخطر الشيوعى إلى مصر فى ذلك الحين، وهكذا رفضت سلطات الأمن مشاركة مصر فى المؤتمر.
اتصل بى صبرى ذات يوم وسألنى إذا ما كنت أستطيع المرور عليه فى المساء، وعندما ذهبت إليه كان لديه ضيف أجنبى هو رئيس اتحاد الطلبة العالمى (يورى بليكان)، وهو تشيكى أصبح فيما بعد رئيسا للتليفزيون، تكلم بليكان طويلا عن الاتحاد وعن المؤتمر وودعناه بعد أن وعدناه بالحضور، كذلك وعدناه بأن ننسق، كما طلب، مع ياسر عرفات الذى أبلغنا فيما بعد بأنه سيحضر المؤتمر هو الآخر.
لم يكن ياسر عرفات شخصية معروفة عندئذ، كان مجرد طالب مثلنا يدرس فى كلية الهندسة بجامعة القاهرة، وإن كنا قد اجتمعنا به من قبل فى ندوة عقدت فى مقر اتحاد الطلبة الفلسطينيين باعتباره رئيسا للاتحاد.
بعد مقابلة بليكان، أعلن عبدالناصر عن تأميم قناة السويس، وتأزمت العلاقة مع الغرب، ومع ذلك ظل رفض الجامعة للمشاركة فى المؤتمر على ما هو، وهكذا بدأنا نتشاور حول تشكيل وفدنا، واتفقنا على أن نصطحب معنا زميلنا سليمان إدريس (الذى أصبح زعيما نقابيا فى شركة الحديد والصلب فيما بعد) واقترحت أن نضم طالبة إلينا أيضا، فرشح صبرى سناء فتح الله (الناقدة المسرحية الكبيرة فيما بعد)، وكانت تتدرب فى دار أخبار اليوم عندما كنا نطبع المجلة، وكثيرا ما كانت تعاوننا فى إعدادها اتصلنا بسناء فوافقت على الفور، وهكذا بدأنا التحضير للسفر الذى اتفقنا مع ياسر عرفات أن يكون عن طريق أثينا.
بحرًا إلى اليونان
حجزنا السفر بالبحر بالباخرة التركية (إسكندرون)، وقبل أن نستقل القطار جميعا من أثينا فى اليوم التالى اقترح ياسر عرفات أن نزور الأكروبول فذهبنا معا إلى حيث يقع هذا المعبد الشهير فوق هضبة عالية (اسمه باليونانية يعنى الهضبة العالية).
من فوق الهضبة أخذ عرفات يحدق طويلا من خلال نظارة معظمة ثم نادانى، ولما اقتربت طلب منى أن أثبت عينى فى النظارة وسألنى: «هل ترى فلسطين؟».. فلسطين؟! فلسطين تبعد عن هنا مئات الكيلومترات يا ياسر.. قال عرفات: «ولكننى أراها بوضوح، بل إننى أرى قبة الصخرة تلمع»، عندما سددت النظارة إلى الوجهة التى حددها لم أتبين شيئا سوى مياه البحر على مدى البصر، وظللت سنوات بعد أن بدأ اسم عرفات يلمع فى أواخر الستينيات حائرا بين ظنونى، فإما أنه خيل إليه بالفعل أنه رأى فلسطين لشدة تعلقه بها، وإما أنه قد بدأ يلعب دور السياسيين الذين يبيعون الأوهام للناس ويلعبون بعواطفهم.
كانت رحلة ممتعة بالقطار استقبلنا بعدها فى محطة براغ استقبال الفاتحين، وقدمت لنا باقات الزهور، وعندما تقدمنا صبرى وسط جمع من البنات والصبية الذين كانوا يلوحون بأعلام مصرية وفلسطينية صغيرة بدا كما لو كان رئيس دولة، خاصة أنه كان الوحيد بين القادمين والمستقبلين الذى يلبس بدلة بصديرى تتدلى منه سلسلة ساعة، ولما افتتح المؤتمر وجاء دور صبرى ليلقى كلمة مصر تكرر المشهد ودوت القاعة بالتصفيق والهتاف لناصر ووقف الأعضاء جميعا تقديرا واحتراما، أما أنا وسناء وسليمان فقد سالت من مآقينا الدموع، ذقت منذ ذلك الحين معنى الاعتزاز ببلدى وبنفسى كمصرى.
زملاؤنا السوفييت
لم نكن على أى حال فى حاجة لبذل جهد لاستخراج تأشيرة أو استصدار تذاكر سفر فقد قام زملاؤنا السوفييت بترتيب كل شىء على نحو دقيق، وسافر وفدنا بالقطار إلى موسكو حيث استقبلنا استقبالا أكثر تواضعا من ذلك الذى وقع فى براغ وإن لم يقل دفئا وحماسا، كانوا يسموننا وفد ناصر، وربما لهذا استضافونا فى فندق لا يليق إلا بالوزراء ومن على شاكلتهم، والحق أن كل فنادق موسكو الكبرى كانت عندئذ أشبه بالقصور.
فى موسكو كان أول بند فى البرنامج بعد الذهاب إلى مسرح البولشوى (أى المسرح الكبير باللغة الروسية) هو زيارة إذاعة موسكو (أظن أن اسمها عندئذ كان: صوت روسيا)، هناك استضافونا فى القسم العربى، وأجروا حديثا مع كل منا حول تأميم القناة وحول مؤتمر براغ وكذلك حول الثورة المصرية.
كانت هذه أول مرة يخرج فيها صوتى على موجات الأثير، ولم أكن أعلم عندئذ أننى سأعمل فى الأستوديوهات بقية عمرى، ولا كنت أعلم أن الشاب الذى جلس معى نحتسى الشاى إلى أن ينتهى صبرى وسناء من التسجيل سيصبح بعد سنوات وزيرا لخارجية روسيا ثم رئيسا لحكومتها فى عهد يلتسين، كان الشاب هو يفجينى بريماكوف»، الذى كان يعمل بالقسم العربى فى الإذاعة عندئذ، فى المساء جاءنا المترجم إلى الفندق، وهناك أبلغنا أن الإذاعة تعرض علينا نحن الثلاثة العمل بها، وافق صبرى على الفور، ورفضت سناء دون تردد، أما أنا فقد استمهلته حتى الغد لأتخذ قرارى.
طمأننا صبرى أنه لن يباشر العمل إلَّا بعد سفرنا، أما أنا فظللت غارقا فى الصمت، كل ما كان يشغل بالى هى الزيارة التى قررت أن أقوم بها فى الصباح للسفارة المصرية.
ذهبت دون موعد، وطلبت مقابلة سفيرنا الشهير محمد عوض القونى الذى استقبلنى بعد انتظار قصير، فرويت له قصة وفدنا وأخبرته بالعرض الذى تلقيناه، وبأننى راغب فى العمل فى الإذاعة عدة شهور ولكننى أريد أولا استئذان السلطات المصرية، كان هذا هو القرار الذى توصلت إليه خاصة بعد أن زاد إعجابى بعبدالناصر بعد تأميمه للقناة، وأيقنت أنه لا يمكننى العمل بدون إذن والاصطدام مع النظام، أثنى القونى على قرارى، وقال إنه سيبلغ القاهرة بالأمر وسيفيدنى بعد ذلك بالرد.
• تلقيت عرضـًا وأنا فى موسكو للعمل فى «الإذاعة».. فطلبت الإذن من القاهرة فجاء الرد: خالك بيقولك إرجع حالا
كان قد مضى على إقامتنا فى موسكو ثلاثة أسابيع، والآن علىَّ أن أرحل، كان السفير القونى قد تلقى ردا على رسالته من القاهرة، وكان الرد موجزا للغاية: «خالك بيقولك: عد فورا إلى القاهرة»، كان خالى المقدم صادق حلاوة يشغل المنصب المناسـب لطلبى بالتحديد، كان رئيس قسم مكافحة الشيوعية فى وزارة الداخلية!
• حملت المدفع الرشاش وأنا عائد للبيت وكنت أشعر بالرجولة الكاملة
العدوان
فى القاهرة كانت تهديدات الغرب قد تصاعدت، وبدأ التلويح بالعدوان على مصر، وهكذا التحقت بالحرس الوطنى ضمن الكتيبة التى بدأ تشكيلها فى قصر العينى، وقد تقاطر الأساتذة والطلبة للانضمام إلى الكتيبة، وبدأ التدريب بشكل يومى لنحو ساعتين، ووزعت علينا فيما بعد مدافع رشاشة، وأذكر أننى فى أول يوم حملت فيه مدفعى وأنا عائد إلى البيت شعرت بالرجولة الكاملة وبالمسئولية الكاملة أيضا، وكان كثيرون غيرى يحملون مدافعهم وبنادقهم فى الشوارع، لم تكن الثورة تخشى شعبها.
وقبل العدوان الثلاثى بأيام تم توزيع معظم فرق الحرس الوطنى فى البلاد على مواقعها، وكان الموقع الذى خصص لفصيلتى فى القاهرة مجاورا لحى المرج، وكنا نقضى الليل فى المزارع مختبئين فى قنوات الرى أو تحت الشجر نعين أنفسنا على البرد بالشاى الذى كان يجىء به أهل الكفر المجاور فى براد، ما إن يفرغ حتى يأتونا بغيره.
كانت مهمتنا أن نقاوم أى إنزال محتمل للغزاة بالمظلات وأن نخبر بذلك ثكنة عسكرية غير بعيدة عنا، وقد أمضينا هناك نحو عشرين يوما، ولكننا لم نصادف سوى حادث واحد عندما هبط طيار بالمظلة إثر سقوط طائرته المغيرة على بعد كيلومتر منا، وهكذا هرعنا جميعا تجاهه عدا واحد فقط من مجموعتنا ظل يهتف بحماس: ««روحوا.. ربنا معاكم.. أنا حاحرس لكم هنا البطاطين» وقد أصبنا بخيبة أمل كبيرة عندما وصلنا إلى مكان هبوط الطيار فإذا به قد اختفى بعد أن ألقى الفلاحون القبض عليه وقيل إنهم سلموه للجيش.
إلى يميني شقيقي ماجد وإلى يساري عاصم (2006)
كانت أمى قد أصيبت بالسرطان قبل وفاتها، ولكنها ظلت تصارعه بشجاعة وإصرار وكذلك بتفاؤل مذهل أكثر من خمس عشرة سنة، وكانت مقبلة على الحياة على الدوام تماما كما كانت قبل أن يطالها المرض اللعين.
والواقع أنها لم تكن مرضت من قبل سوى لعدة أشهر فى منتصف الخمسينيات عندما أصيبت بنوبة ربو عندما كنا نعيش فى طنطا، وهكذا نصحها الأطباء بالسكن فى منطقة جافة، فكان قرار العائلة بالانتقال إلى القاهرة حيث كنت أدرس فى قصر العينى وماجد يدرس فى الحربية، وكان والدى قد ترك تعليم البنات ورقى ناظرا لمدرسة المحلة الكبرى الثانوية، ولم يكن قد تبقى على إحالته للمعاش سوى عدة شهور.. وكانت المفاضلة بين حلوان أو مصر الجديدة، فرجحت كفة مصر الجديدة فى النهاية..
كانت مصر الجديدة فى منتصف الخمسينيات ضاحية جميلة هادئة، تم تخطيطها منذ بداية إنشائها وفقا لاشتراطات عمرانية صارمة، وكانت تتميز بمبانيها المتناسقة ذات الطرز الإيطالية والعربية.
ولو كان هناك منا من لم يذهب إلى مصر الجديدة وقتها لكفاه أن يشاهد عبدالحليم حافظ وهو يسير فى شوارعها فى فيلم الوسادة الخالية الذى صور هناك فى الوقت الذى انتقلنا فيه إليها.. ولايزال هناك حتى الآن شواهد على المعمار القديم ماثلة فى كنيسة البازيليك، وفندق هليوبوليس هاوس الذى أصبح يسمى قصر الاتحادية، وهناك أيضا جروبى والأمفتريون، وكذلك قصر البارون ذو المعمار التايلندى.
ولم يكن مترو مصر الجديدة وسيلة مواصلات مثلى فقط للسكان، بل إنه كان العامل الذى اجتذب الكثيرين مثلنا للسكن فى هذه الضاحية، وكان بالإضافة إلى ذلك يستخدم بغرض النزهة، وكانت عرباته التى صنعت فى بلجيكا نظيفة ومواعيده نموذجا للدقة كما أن ركوبه كان مجانيا فى أيامه الأولى، ولا بد لمن يتذكر أن البارون إمبان الذى أنشأ ضاحية مصر الجديدة منذ أكثر من مائة سنة قد مد خطوط المترو ليشجع الأهالى على السكن فى الحى، أن يتساءل اليوم: كيف فات على كل المسئولين فى مصر من بعد أن يمدوا خطوطا للمترو إلى مناطق مثل الشروق ومدينتى والرحاب؛ حتى تيسر الحياة على سكانها وتجتذب آخرين للخروج من قمقم القاهرة؟
• يعرف سكان مصر الجديدة من عاثوا فيها فسادًا .. دمروا القصور القديمة لتبنى مكانها عمارات لوزراء مبارك وأعوانه وأنجاله
مصر الجديدة
ولكن السؤال الأول هو: كيف تدهور حال مصر الجديدة على النحو الذى نراه الآن؟ لا شك أن الزيادة السكانية الهائلة قد تكون العامل الأهم، لكن الذى خرب مصر الجديدة فعلا هو الفوضى التى اجتاحت مصر كلها فأتاحت للكل أن يضربوا بالقوانين واللوائح عرض الحائط، والفساد الذى شاع من قمة الحكم إلى قاع المحليات.
ويعرف سكان مصر الجديدة الأصليون، الكبار الذين عاثوا فيها فسادا، كما يعرفون الوافدين الجدد منهم بالاسم، ويعرفون ما دمروه من القصور القديمة لتبنى مكانها عمارات فارهة أصبحت سكنى لعدد من وزراء مبارك وأعوانه وأنجاله وأصفيائهم، وعلى الرغم من أن سوزان مبارك كانت حريصة على إقامة لمسات تجميل فى الحى هنا وهناك مثل منع مرور السيارات فى الكوربة كل يوم جمعة أو بناء مكتبة باسم الحى أو إقامة حديقة باسمها، فإن هذه كانت مجرد لمسات لتجميل البيئة المجاورة لقصرها، أو كانت استكمالا لديكور استقبالها مع الجوقة التى كانت تصاحبها فى المناسبات المعدة سلفا للتصوير.