07-02-2014 12:27 AM
سرايا - سرايا - من رواية «رماد الشرق» للجزائري واسيني الأعرج
تراقصت دمعات خفيفة تحت لمبة الهالوجين الخافت الذي أظهر كآبة هاربة على وجه بابا شريف عمقت خطوط ملامحه. مد أصابعه المرتجفة قليلا صوب عينيه لتفادي حيرة حفيده جاز.
- ابنتي مايا لم تكن مخطئة أبدا. كلما رجعت إلى صوابي وجدت أن كل ما كانت تقوله كان يصدر عن قلب لا يضمر إلا المحبة ولكن للأسف كانت عنيدة. عقلها كان صارما وحساسا بقوة. عندما كنت أندفن في داخلي، كانت تغلق كل أبوابها مثلي على تفاصيل الحياة. لم تستمع لي ولم أستمع لها. لا أحد فينا كان قادرا على عزائه، أنا غرقت في مصيبتي التي أدخلتني في مصنع للسيارات في ديترويت ولم ألتفت نحوها لأني كنت أعرف سلفا أن خالاتها ستهتممن بها أحسن مني. هي لم تجد عزاء في فقدان الأبوة، وكنت أريد أن أنسى ما كان يثقل ذاكرتي حتى لا أفقد صوابي. أنسى ولا ألتفت ورائي. وجود مايا كان يذكرني بمانيا بقوة ولم أكن قادرا على تفاديها. قطعت علاقاتي حتى مع خالاتها ولم أحفظ إلا قناة صغيرة تظهر لي وضعها. كنت أدرك أنها مشرقة ولن تجد مكانا أفضل من ذلك. كنت إنسانا ميتا مع وقف التنفيذ أنتظر فقط يوم العودة إلى تلك الأرض. ولم يتوقف حلم العودة إلا في سنة 67 عندما انكسر يقيني نهائيا وأصبح مؤكدا أننا لن نخطو خطوة إلى الأمام وأن كل شيء انكسر. المشكلة أنهم أدخلوا لنا الهزيمة في عمق كياناتنا. أنا واحد من أواخر ناس لم يعودوا اليوم على هذه الأرض إلا ككائنات آيلة إلى الزوال. بيني وبين مايا هذا الألم الذي لم تفهمه ولن تفهمه أبدا. كلانا دفع ثمنا لظروف كانت أكبر منه. مع ذلك، التصقت زمنا بوهم العودة والعمل والتغيير لكن السنوات التي تلت صفعتني بالحقيقة المرة وان ساعتنا توقفت. لم أعد أنصت للشرق ولم أعد أولّي وجهي صوب الغرب كنت في اللاشيء، أنصت لذاك الحنين الذي لا يموت أبدا حتى عندما يهجع القلب نهائيا وتلعب الرياح الصحراوية القاسية برفاتنا مبعثرة إياها في كل نواحي الدنيا.
من رواية «الإسكندرية في غيمة» للمصري إبراهيم عبد المجيد
أسرع في شارع صلاح سالم، الذي أغلقت كل محلاته، حتى وصل إلى شارع فؤاد. إنحرف يسارا، حتى عبر شارع النبي دانيال. رأى سينما فؤاد على يمينه تعرض كعادتها فيلمين قديمين، الفيلم العربي حمام الملاطيلي، والأجنبي غزاة الشمال The Vikings. وجبه رائعة.
الفيلم العربي ينضح بالجنس للمتفرج العادي، والمعنى الخفي للضياع الذي لا يدركه هذا المتفرج. غزاة الشمال، الذي عشقه قديما في الستينات، حين شاهده في سينمات الدرجة الثانية, بعد أن عرض أول مرة وهو في المعتقل, حيث يجتمع كيرك دوجلاس وتوني كيرتس معا، كما اجتمعا فيما بعد في فيلم سبارتاكوس. أمامها سينما بلازا بدورها تعرض فيلمين أجنبيين قديمين أيضا. البعض يفضلونها ساخنة، حيث مارلين مونرو وتوني كيرتس وجاك ليمون، ويرما الغانيةYerma La Doos فيلم المخرج بيلي وايلدر الجرئ الساحر. يكفي أن فيه شيرلي ماكلين وجاك ليمون. يا إلهي. ما لسينمات الدرجة الثانية مبهرة الليلة رغم أن كل أفلامها رآها في سينمات الدرجة الثانية أيضا بعد خروجه من المعتقل؟ واستمر يمشي غير حافل بالمطر فالبلكونات تحميه. سينما رويال لا تزال تعرض فيلم باري ليندون. كيف فاته حقا أن يشاهد فيلما للمخرج العظيم ستانلي كوبريك؟ الذين يدخلون حفلة الساعة التاسعة لن يلحقوا بالإحتفال برأس السنة إلا في الشارع. واستمر يمشي وكل شيء حوله مغلق. على واجهة سينما ريو الفيلم العربي زائر الفجر، لقد رآه منذ أيام. كيف فاته أن ينصح تلامذته بمشاهدته، وهو الفيلم الذي يفضح مراكز القوى في العهد الناصري.
من رواية «طشاري» للعراقية إنعام كجه جي هو إما محتال أو عبقريّ.
رأت شواهد رخامية تتوزع بين أشجار خضراء. صلباناً من رخام وخشب وذهب. أزهاراً نضرة وكأنها سقيت للتو. وضعت السماعتين فسمعت موسيقى ناعمة تتناغم مع حركة فأرة الكومبيوتر التي يقبض عليها اسكندر ويجول بالسهم يميناً أو يساراً. عرض عليها قبوراً تفنّن في تشييدها وأقام عليها شواهد ملوّنة مثل أقواس قزح. هذا قبر جدّه سُليمان، شقيقها الكبير المدفون في بغداد. بجواره قبر زوجته وقبور جولي وكمالة وزوجها شمعون. قبر أُم جرجس وحفيدتها فايزة التي خطفها السرطان. قبر قريبهم أُولمبي الذي كان طياراً في الجيش. تتفرج وتضطرب وترتجف يداها مع تواتر الألحان والألوان. يستدير الولد ويواجهها ويتطلع في عينيها ويطلب وعداً بألا تبكي. يوجّه سهم الفأرة إلى قلب الصورة. يرفع السماعتين عن رأسها ويقول بحرج:
ــ هنا وضعت قبر العم جرجس وتركت لك مكاناً بجواره... بعد مئة سنة إن شاء الله.
نقر على زاوية الشاشة فتضاعف حجم الصورة وتمكنت أن تشاهد ما هو منقوش على رخامة القبر. «من آمن بي وإن مات فسيحيا». وتحت العبارة الإنجيلية قرأت: «الدكتور جرجس منصور 1928 ـ 1997».
يريد منها ألا تبكي؟ غامت عيناها وخفق قلبها ذلك الخفقان السريع الذي تعرفه وتتغاضى عن خطورته. عليها أن تأخذ حبة الدواء وتسترخي وتطرد كل ما في رأسها وتترك عقلها يرتاح.
من رواية «غراميات شارع الأعشى» للسعودية بدرية البشر
في ذلك المساء اجتمع الأطفال يلعبون تحت بقعة الضوء الفقيرة، بينما انتظرت البيوت الأخرى حتى يحلّ الظلام كاملاً كي تطلق شحنات أضوائها الصغيرة المعلّقة فوق الأبواب، من تحت قبّعات الجبس التي تزيّن مقدّمات الأبواب. وصل فستان أمّي من الخيّاطة ثريّا. قلّبته بين يديها بفرح، ومسحت على روبيانته الحمراء بزهو وجرّبت سحّابه، فتحته ثم أغلقته. بدت راضية عن شكله الناعم. دخلت غرفتها ولبسته ثم عادت ترينا إيّاه. بدت أمّي بفستانها الجديد مشدودة القوام، وهي ترفع طرف كمّيها بعيداً عن رسغيها حتى تظهر ساعتها «الرادو» الجديدة، تفحّصها أبي وهو سعيد بمشيتها وهي تشدّ قامتها فتبدو أصغر ممّا هي عليه. قال لها:
– اللّي يشوفك يا نورة يقول إنك أصغر من بناتك.
لأوّل مرّة أسمع أبي يذكر اسم أمّي، فقد كانت دائماً أمّ إبراهيم. اكتشفت اليوم أن أمّي لها اسم أنثى مثلنا، وأن اسمها جميل هو نورة، حتى أني من حماسي وشكّي بأنّ هذا هو اسم أمّي قلت لها أجرّبه:
– والله أبوي صادق يا نورة.
ضحك أبي ونظرت أمي إليّ شزراً ثم قالت:
– قومي، قولي لعواطف تتجهّز بنروح لعرس الحضارم الليلة.
من رواية «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» للسوري خالد خليفة
أخبرَنا بأنه لا داعي لقلقنا إن غاب فجأة، سيكون في بغداد، لم نكترث لكلماته ولم نصدق، رشيد الرقيق بوجهه الأصفر ونحوله الشديد، أُنهكت روحه إلى درجة أنه لم يجد وسيلة للخلاص من قلقها سوى الموت في بغداد.
بكى نزار, وفي لحظة طيشٍ أخبر أمي بأن رشيد في بغداد، فكّرتْ بالكارثة التي نبهني بكاء نزار الحارق إلى حجمها، فكرت ماذا تعني حياتنا دون رشيد الرقيق، سوسن انتابتها نوبة هستيريا، تشممت أغراضه، فكرت بقتل الشيخ أبي بكر، شتمت الأمريكان والعراق وفتحت باب غرفة رشيد، صدمها وجود زجاجة غامقة تضم رفات سعاد بقي رشيد طوال ليلته الأخيرة يتأملها بشغف، يفكر بمعاني الموت والشهادة والجنة، شعر براحة كبيرة ليقينه أنه سيلتقي سعاد هناك، ضحك من سخفنا ونقاشاتنا الأخيرة عن مفهوم السعادة والنسيان والتوازي الذي عشناه، لأول مرة يشعر بالرجولة والقوة، وبعجزنا الذي تراءى له في اهتمامات دنيوية احتاج خلاصه منها إلى سنوات طويلة من القلق والغرق في الوحدة.
أمي بقيت تنظر إلى السقف، تنهمر دموعها بصمت، طلبت من نزار إعادتها إلى منزلها، لم تسمع توسله لبقائها في منزله بعد تحسن صحتها وصحوتها أكثر من مرة خلال اليوم، نوبة صحوها لساعات أعطتنا أملًا بعودتها إلى مكانها قرب النافذة وتناول شاي المساء، طلاء المنزل الذي تحمس نزار للتبرع بتكاليفه سيحسّن من وضعها، لم تسمعه وهو يرجوها البقاء بعيدًا عن الحارة التي أصبحت في الآونة الأخيرة حديث الصحف المحلية لكثرة الجرائم، آخرها خبر نشر في صفحة داخلية عن رجل أحرق زوجته وأطفاله الأربعة ثم انتحر بسكين المطبخ، صارخًا في جيرانه الذين يراقبون ببرودٍ: أن الموت حرقًا أكثر شرفًا من انتظار الموت جوعًا، سائلًا بحرقة: ألا توجد سكاكين في مطابخ هذه المدينة؟
من رواية «موسم صيد الزنجور» للمغربي إسماعيل غزالي
الشاي المبالغ في سكّره بتلك الخيمة الغجرية،ما يزال طعمه عالقا في لساني، شربته مساء البارحة وأنا أتأمل المشهد من الجهة المقابلة لخيمتي، وعندها لحق بالخيمة أفراد المصطافين في تلك الضفة الجبلية، وبدا لي أن السيدة الشقراء وزوجها المفترض على اليمين يحترفان التصوير، ربما المرأة من يهوى فن التصوير وليس الرجل، إذ يبدو شارد الذهن ولصيقا بموج الضفة، أما أفراد الخيمة
المجاورة، فواضح جدا أنهم هواة صيد، صيد ماذا بالذات؟ هذا لا علم لي به .
لم أنخرط في الحوار الذي كان تلقائيا في ذلك المقهى، واحتفظت بهدوئي وبرودي مصيخا السمع إلى اللهجة المغربية التي أفهم بعض كلماتها بحكم معاشرتي لأصدقاء مهاجرين مغاربة في مدينتي «رانس» الفرنسية، وكذلك من خلال بعض المفردات الفرنسية التي كانت تتخلل حديثهم، ولم أتبين منها إلا كلمة: brochet، أي: زنجور، فخمنت دون أن يحتاج الأمر إلى استدلال منطقي، أنهم هواة صيد هذا السمك الوحشي, وبهذا أستدرك سؤال: صيد ماذا؟
هو صيد سمك «الزنجور» إذن ما يجمعنا هنا على ضفاف البحيرة الأطلسية.
من رواية «شرفة الهاوية» للأردني إبراهيم نصر الله
في الحقيقة، وهذا تدخُّل أخير! أحسستُ بأنني أقوم بأسوأ مهمة يمكن أن يضطلع بها كاتب، مع أنني لست كاتباً! فالكاتب يتخيَّل، ويكتب رواية؛ يبحث، ويكتب رواية؛ يستمع، ويكتب رواية؛ أو يخلط ذلك كله، ويكتب رواية؛ أو يكتب سيرة: فنان مشهور، لاعب كرة قدم، سياسي على وشك التقاعد أو تذكر أنه لم يعد موجوداً بعد عشرين سنة من تقاعده! ممثلة تريد أن تثبت أنها كانت العقل المفكِّر خلف أفلام مخرج أعمالها الذي مات وكاتب السيناريوهات المصاب بجلطة دماغية! أما أنا فقد خطر لي أن ما أفعله هو كتابة سيرة.
دائماً كرهت الانتقام؛ كنتُ وكيلة في كثير من القضايا التي كان الانتقام دافعها الأول، وكنت أراه أسوأ الحلول للحصول على حق ضائع، وحتى حين كنت أراه في الأفلام، كنت لا أحبه. فيلم (الوطني) الذي شاهدته في واحدة من الفضائيات قبل أعوام، أحببته، ولكنني كرهتُ قيام عقدته على فكرة الانتقام.
وصلتُ إلى البيت مطمئناً. كانت أرض المعركة واضحة في رأسي، فانتابني شعور بالرّاحة لأن عملية الاستطلاع التي قمتُ بها، ستحرّرني من أيّ أحاسيس مزعجة قد تسكنني في أول لحظاتِ لقائي بسامية.
من رواية «فرانكشتاين في بغداد»
للعراقي أحمد سعداوي
صاحت عليه:
ـ إنهض يا دانيال... إنهض يا دَنِيَّه... تعال يا ولدي.
فنهض من مكانه فوراً. جاءه (الأمر) الذي تحدث عنه الشاب الميت ذو السوارين الفضيين في مقبرة النجف ليلة أمس. أشعلت العجوز بندائها هذه التركيبة العجيبة التي تكوّنت من الجثة المجمّعة من بقايا جثث متفرقة وروح حارس الفندق التي فقدت جسدها. أخرجته العجوز من المجهول بالاسم الذي منحته له: دانيال.
نظر «دانيال» باتجاهها فشاهدها تقف في الفجوة المتخلفة عن الغرفة المنهارة في الطابق الثاني بذؤابات شعر أبيض تهفهف في الهواء خارجةً من تحت عصابتها السوداء المربوطة دون احكام على رأسها الضئيل وهي تلتحف بسترة صوفية ضيقة داكنة اللون ممزقة الأردان، وأسفل منها القط الأغبر منتوف الشعر ينظر إليه بعيون متسعة ومرعوبة يموء بشكل متقطع بأصوات خافتة وقصيرة وكأنه يتحدث مع نفسه. كان الوقت يقارب السادسة صباحاً والجو شديد البرودة، والأصوات الآتية من الخارج ما زالت خافتة، ولم يبدأ صخب النهار بعد، بينما العتا الكذاب نائم في غرفته يعاني من الآلام في أرجاء جسده، ولن يصحو حتى الظهيرة.
عبر على الطابوق المتراكم. خطا فوقه مثل سلم نحو سطح الغرفة المنهارة، ثم تبع العجوز وقطها في النزول الى داخل البيت.
من رواية «الفيل الأزرق» للمصري أحمد مراد
أعرف عن نفسي الكثير..
أنا الجندي الذي تلقّى رصاصة في مَعدته ويُشاهد احتضاره Exclusive دقيقة بدقيقة بلا إعلانات..
أنا الصّدر المُحترق نِصفه بدخان السجائر والنصف الآخر حريقه لُبنى..
أنا الذي لم يبك زوجته.. ولم يَحلم بها مَرّة..
أنا الذي لا يجرؤ على تذكُّر ابنته..
أنا فُتات إنسان يتظاهر أنه على قيد الحياة وهو ليس كذلك..
أنا الذي يتنفس ويأكُل وينَام بقوة الدفع..
أنا ساعة بدون عقْرب..
أنا يُونس في بطن حُوت كافر لن يَلفظني عند جزيرة..
أنا الطعام بلا مَلح..
أنا الذي ينتظر لحظة الإظلام الأخير في مسرحية مُمِّلة من تسعين فصلاً..
من رواية «تغريبة العبدي» للمغربي عبد الرحيم لحبيبي
«أخذ الناس يتناقلون أحاديث كثيرة تُنسب إليه وإلى حاشيته، بأنه صاحب الإمارة والزعامة وفاتح القرى والبلدان، حامل لواء الإسلام وملك الملوك، ومن حقه أن يكون أمير الشرع والدين وسلطان المملكة، وأن يجمع بين الإفتاء والملك، وبين الشريعة والسلطنة، وأن لا أحد يعلو على مقامه. وقد كان داهية، تعلم مما لقناه وتدبر فيه بعقل إبليس وأفعاله، إذ أمر رجالا ممن استصلح عقولهم، بالدعوة إليه واستمالة زعماء القبائل المتاخمة لمملكته، وأخذ يحكي لهم عن المهدي المنتظر ويشوقهم إليه...، فلما تأكد من إقرارهم بفضيلة المهدي ونسبه ونعته، ادعى ذلك لنفسه ورفع نسبه إلى النبي (ص) وصرّح بدعوى العصمة لنفسه وأنه المهدي المنتظر صاحب العصمة والشرف والحكمة والخلاص... ، فلم يكن مازحا عابثا فيما ينوي القيام به، إذ عندما جاءته الأخبار بأن البعض من أفراد رعيته تراودهم الشكوك في أحقيته وادعائه العصمة والشرف، لم يتأخر رده، حيث أمر بجمع كل مبايعيه بساحة البلدة وكلف أحد أتباعه المخلصين بتعيين الخوارج المنشقين وفرزهم عن الجموع الغفيرة الحاضرة ثم قتلهم أمام الملأ، وقد مات في هذا الظرف وحده خلق كثير. ولما لم يجد رادعا ولا صارخا، بل لقي دائما من يصفق له ويمدح أعماله ومآثره ويذم خصومه وحساده، هجم على القرى القريبة والبلدات الضعيفة التي استسلمت بدون قتال، فاتهمها بالزور والبهتان وإضمار الشر والتقية، وكل ما كان يريده، الأموال والممتلكات التي لم يتحصلها بسبب استسلامهم ودخولهم الطوعي في الإسلام، فخرّب الديار، وأشعل النار في الأسواق والأمتعة والفُرش والدور، وأطلق جنوده ناهبين مخرّبين.
من رواية «حامل الوردة الأرجوانية»
للبناني أنطون الدويهي
منذ دخولي «حصن الميناء»، يراودني حلم لا أدرك كنهه، يتكرّر بأشكالٍ مختلفة في حياتي الليلية، بحيث أشعر بفعل تواليه كأنه من عالم اليقظة. لقد عاودني هذه المرّة أيضاً. وجدتُ نفسي أمام علبةٍ مغلقة داكنة اللون، تحوي شريطاً سينمائياً أحياناً، وأحياناً كتاباً، أعلم أنه إذا اطّلع الإنسان عليهما، لا بد أن يقوده ذلك لا محالة إلى الانتحار. أعرفُ في الحلم أن الأمر لم يحدث فجأةً بل على مراحل، فيُصاب المرء بالاكتئاب، ثم يرى أشياء غير موجودة، ويقوى اضطرابه أكثر فأكثر، وتختلّ علاقته بذاته وبمحيطه، وصولاً إلى لحظة الانتحار.
لا يزال «الحي القديم» يسكن أحلامي على رغم كلّ الزمن الذي مضى وكلّ ما عرفتُ من عوالم. ومع أنه بعد ذلك، سقط في البلدة عشرات القتلى، وفي البلاد التي أدمتها الحروب، مئة ألف قتيل، لا يزال قتلى «الحي القديم» هم الحاضرين الدائمين في نفسي، أحملهم معي حيث أكون، بينما أشعر كأن أهلهم وأبناءهم قد نسوهم. تُرى، قتلى الطفولة والصبا الأول، يبقون هكذا، أحياء لا يفنون؟
من رواية «366» للسوداني أمير تاج السر
لن أخطط المدينة أو أعدل ترهلها، في ذلك الليل يا أسماء، ولكن سأخططك أنت، وبديهي لست في حاجة لأزيل ملمحًا، أو أعدل آخر، لأن الصورة الماثلة في خيالي كانت من الكمال، بحيث أني ارتجفت وأنا أفكر في رسمها. تخطيط المدينة وتعديلها كان عملًا عاديًا، لا يحتاج إلى موهبة، مجرد مربعات ترسم، ومستطيلات تزال، وحفر تردم، ونواقص أخرى، تكمل ولا شيء آخر، لكن تخطيط الجمال عمل آخر، لم يجده في الدنيا سوى جبابرة قليلين، أخاذين.
لم أرسمك يا أسماء، لم أرسمك يا حبيبتي، لم أرسم حتى شعرة واحدة صحيحة من شعر شاهدته مدلوقًا، يعانق الكتفين، واكتشفت أنني رسمت وجهًا أخرق، وجها بيئيًا شعبيًا من وجوه حي المساكن.
كانت قد مضت سبعة عشر يومًا، منذ علقت فيك يا أسماء، سبعة عشر لوحًا من الجمر المتقن، تقلبت فيها بلا هوادة.
انتهى شمس العلا، من تلميع حذائه للمرة السادسة، منذ أتى به لامعًا في الصباح، أخرج من جيبه لوحًا صغيرًا من الشوكولاتة، ماركة «جيرسي»، التي غزت المدينة مؤخرًا، من ضمن بضائع متعددة، يتاجر بها بحارة السفن، قسمه إلى نصفين، التهم نصفًا، وألقى إلي بالآخر.
من دون أن أنطق،أخرجت بطاقتي الشخصية من جيبي، سلمتها له، وقلت له بأنني أريد التأكد بأنني غير مطلوب في شيء، ولا بد أنه احتار حقيقة، فلم يكن كما أعتقد قد تعود على مثل هذا السلوك، إلا من مجنون.
من رواية «طائر أزرق نادر» للمغربي يوسف فاضل
هل أنا بخير؟ الآن وعندي هذه الطريقة في تجزية الوقت أتساءل هل أنا بخير. أعد رائحة أصبعي المنتفخ، رائحة آلامي نبضة نبضة. انعدام الأوكسيجين بدأ يِؤثر على خلاياي العصبية. ألامس الموت. أسير بمحاذاته. جوع وبرد قاس وجراثيم وحيوانات سامة من أنواع مختلفة. والمرض في الساق. متصاعد. الألم ينبض حياة. والجسد يقاوم. كأنما يعيش بالمقلوب. أعبر الخط الوحيد الممكن. من الباب حتى الركن الأيمن وأنا أعرج. خط الحياة. رجلي تؤلمني. أو ساقي. أي رجل وأي ساق؟ أجلس. أرفع ركبتي وأشد على كعبي. أعرف أنها ركبتي ولا أعرف أنني بدأت أهذي. أعرف أنني ألعب بركبتي في الهواء. وغير هذا لا أعرفه. مطبخي لا يدخله ضوء النهار. لأنه لا نهار بالقرب منه. أنصت إلى جسدي. أستمع إلى نبضاته الخفية. أضبط أدنى دبدبة فيه. أراقب تغيره المستمر. لا أشم الرائحة. اختلطت بالروائح الأخرى. روائح عشرات السنين. الطباخ يشمها لأنه من الجهة الأخرى من الحياة.
الطباخ هو الذي نبهني إلى هذياني عندما سأل من خلف الباب مع من أتحدث. قلت له ربما أكون أتكلم في نومي.
من رواية «منافي الرب» للمصري أشرف الخمايسي
كان باب غرفتى مفتوحا حتى هذا الوقت، فقامت «سيرين» وأغلقته، كنت جالسا على كرسى خشبى واطئ أمام عدَّة الشَّاى، وكوب الشَّاى ما زال فى يدى الممدودة، وقلبى يضرب ضلوعى، لماذا تفتح «سيرين» صدرها وتغلق الباب؟!
اضَّطَجَعَت على السرير نصف اضطجاعة، متَّكئة على كوعها، أخذت منى كوب الشَّاى، وصدرها العارى يتوهج بحمرة أشعَّة النُّور الطَّالع من فتيل اللمبة «العويل»، آه يا خطيئتى، وحق «المسيح» بلواى أشق وأصعب من بلوى «آدم»، هو فتنته شجرة، ثمرة ممنوعة، طعام أكل، لكن أنا فتنتى «سيرين»، شجرة ملآنة بكل أنواع الثِّمار، شجرة حيَّة، لها عينان شبقتان، تقولان «أقبل وكل أيها الجائع»، و»المسيح» الحي بلواي أوعر من بلوى «آدم».
قالت: «بابا» كان يدخل غرفة نومه، فكانت «ماما» تدخلنى غرفتى، تطفئ أضواء الشقَّة، إلَّا من لمبة وحيدة أمام الحمَّام، ثم أسمع باب غرفة أبى ينغلق برفق، وأحس بوحدة قاتلة تحوطنى، ولولا صورة ستِّنا «مريم» العذراء، الملتصقة بالجدار المقابل لى، كنت مت من الخوف.
فى ليلة قلت لــ»ماما»: لماذا تنامين فى غرفة بابا، ولا تنامين معى؟! هو كبير لا يخاف، وأنا صغيرة، وأخاف.
ضحكت، وقالت: الكبار ينامون مع الكبار يا «سيرين».
من رواية «في حضرة العنقاء والخلّ الوفيّ»
للكويتي إسماعيل فهد إسماعيل
الساعة التاسعة ليلا ً، سوق الحميدية أخذ يتخفف من مرتاديه، عبرناه إلى الساحة الكائنة أمام بوابة المسجد الأموي، الأخير له مهابته الخاصة به ليلا ً، حاذينا سوره الحجري الشاهق، دخلنا طريقاً جانبية، أعمدة الإنارة تتباعد عن بعضها في الطرق الفرعية، الظلام يتسيّد مساحات واسعة، مالت عهود عليّ، تلامس جسدانا، المرأة والظلام ضدّان، تنفستْ خلاياي، هل أسائلني عن طور المراهقة متى يبدأ وأين ينتهي. كلانا ثلاثيني، أحدنا عاش خبرات ذات علاقة حتّى وإنْ جاءت شائهة، الآخر بدون خبرات، معاً تحت بند الصداقة، أرضى للصداقة أنْ تكون هكذا، أرضى لطريقنا الدمشقية المظلمة إلاّ قليلا أنْ تمتدّ بنا إلى ما لا نهاية باشتراط بقائنا جسدين متقاربين حدّ التماس. أوشكنا نصل. سمعتها تنبس، استدارتْ بنا الطريق، بانتْ لنا زحمة أضواء صفراء بيضاء تخالطها إنارة خلفية بألوان الطيف تعلو مدخل المطعم المعني، خطر لي، حان موعد انفصالنا عنّا، أحسستها تتعلق بي أكثر، كنّا صيغة زوجين أو عاشقين، ابقيتني على سجيتي. الطرقات التي عبرناها قبل وصولنا المطعم كانت مقفرة، المطعم زحمة ناس فوق العادة. اليوم أحد. همستْ عهود، قادنا أحد الندل نحو طاولة بمقعدين. حيّا الله ضيوف الشام.
التخت الشرقي ثلاثة عازفين، عود، كمنجة، قانون، انضم اليهم ضابط الإيقاع على الطبل. آخر مرّة جئتُ هنا قبل ثلاث سنوات. شرد ذهنها وهلة. دعوتُ استاذي المشرف على بحثي لتناول العشاء. طاولتنا عند حوض النافورة الصغيرة، شيء من رذاذ الماء، الليل الخريفي برودة محتملة. عشائي ذاك مع استاذي طلبتُ من التخت أن يسمعوني أغنية طيري يا طيّارة من ورق وخيطان. تحبينّ أغاني فيروز. وما زلت. ما الأغنية التي ستطلبينها الليلة. ضحكتْ. لن أطلب أغنية أكتب اسمك يا حبيبي. أسعدني تلميحها المشاكس. ما هي أغنيتكَ المفضلة. أغاني عوض دوخي. كويتي بصحيح. تفاءلوا بالخير.
ضحكتْ. أيام الدراسة الثانوية والجامعية عندما تبدأ واحدتنا تخصص وقتها لسماع أم كلثوم نُجمع على أنّها تعيش طورها الوردي في العشق. خالجني تساؤلي، ما الذي تهدف إليه، بلغني صوتها. لم اتخصص لسماع أم كلثوم بعد. نشط خيالي يستنتج. ها هو الوعد يتماهى بمفردتها الأخيرة بعد.
من رواية «علي بابا الحزين» للعراقي عبد الخالق الركابي
ختمت المرأة قصتها تاركة «دنيا» تنوب عنها في الكلام؛ فتحدثت هذه عن تلك الدقائق المتوترة وهي تبادل صديقتها النظر في انتظار أن يعاود الهاتف الرنين، لكنهما فوجئتا بكبرى بنات يحيى – تلك التي كانت قد ترملت قبل أسابيع على أثر ذهاب زوجها الشاب ضحية واحد من التفجيرات الإجرامية- تندفع داخلة عليهما الغرفة مهرولة وهي تلوّح بهاتفها مرددة بشكل هستيري أن أمراً ما جرى لأبيها؛ فقد كلّمها صوت غريب من هاتفه ليكيل لها أقذع الشتائم قبل أن يخبرها بأنه سيعاود الاتصال بعد دقائق!
بدت الأرملة الشابة في الرمق الأخير، لا تكاد تستطيع الوقوف، وقد زادت ملابس حدادها السوداء وجهها الشاحب بياضاً.
وكانت أمها تتلمس ما حولها كالعمياء وهي تتنفس بعسر، لكنها انتفضت لتهبّ واقفة في اللحظة التي عاود فيها الهاتف الرنين؛ فاختطفته «دنيا» لتكتشف أن المتصل شخص غريب أخبرها، دون مقدمات، وفي ظنه أنها زوجة يحيى، أنه يعرف كل شيء عن بيتها وأسرتها وأقربائها وجيرانها والحي الذي تسكن فيه؛ فلا مسوّغ لتقدم على حركة طائشة تعقّد الأمر على زوجها. وحين حاولت «دنيا» الكلام أخرسها المتصل بصرخة محذّرة، أعقبها بقوله إن المطلوب منها فقط هو الإصغاء إلى أوامره وتنفيذها دون مناقشة، وكان أول تلك الأوامر الإسراع بتحويل رصيد إلى رقم هاتف زوجها المخطوف ليتسنى له الاستمرار في الاتصال لغرض تحديد قيمة الفدية المطلوبة وموعد دفعها!!