10-02-2014 11:21 AM
بقلم : د. زيد محمد النوايسة
تمثل المدينة الأولى أو العاصمة السياسية لأي شعب أهمية استثنائية ورمزية خاصة في الوجدان، فهي الجامع السيادي والوطني، فمنذ أن كانت الخليقة وبدأت الحياة، كان اختيار موقع العاصمة يخضع لمعايير ومحددات، من أهمها الحضور التاريخي للمكان وحصانته جغرافيا، والقرب من مصادر المياه وطرق التجارة، وارتبطت معظم تلك المدن بصورة انطباعية في ذهن ساكنيها، توحي "بفرادتها" وتميزها، فارتبطت الصورة الذهنية مثلاً عند الحديث عن دمشق بالياسمين والأمويين، وبغداد بالمنصور ودجلة الخير، والقاهرة بالنيل والمعز لدين الله والأزهر، وبيروت بالليل والمقاومة والحرية وفيروز أيضا، لذلك ظلت الشعوب في أربع رياح المعمورة، تعتبر هوية العواصم والحواضر الرئيسة، من القداسة والسمو، غير القابلة لان تكون موضع خلاف وطني، حتى في أوج الصراعات والانقسامات الأهلية!!.
هوية المدينة الأولى، ليست فقط في النمط العمراني المتفرد على أهميته، ولا في حداثة المباني الراقية وطرق المواصلات وحداثتها، وان كانت تلك من الأساسيات في عالم اليوم التي تشكل الصورة الانطباعية الأولى، ولكن الأهم أن تعبر عن روح المدينة ومورثوها الحضاري والإنساني وتاريخها ونسيجها الاجتماعي، ولحظات الانتصار والفرح أو التراجع والانكسار، فمدينة لا يوجد فيها متحف وطني يعد من ابرز معالمها يعرض سيرتها الذاتية وتاريخها، فالمدن كالبشر تماما لها ميلاد ومراحل نمو وتطور مادي ومعنوي، وخيبات وانتصارات وحضارات تعاقبت عليها، ومدينة لا تمتلك مسارح وطنية تقدم أعمالا فنية تشخص مشاكل البيئة التي تنتمي إليها، ومقاهي تقليدية بعيده عن مظاهر الاستعراض والنخبوية تشبه الناس وبساطتهم وأحلامهم، مدينة لا تملك تلك المواصفات، اشك وبعض الشك مشروع، أن تستوطن قلوب ساكنيها؟!!، بل يتعزز الإحساس لديهم بأنها مجرد مكان للعمل ومأوى للسكن والتهام الوجبات السريعة، أو أشبه بما يسمى بأبنية الاسمنت والزجاج المعلبة أو مدن الأمر الواقع!!.
اكتب اليوم عن "عمان" المدينة العاصمة، وهويتها الملتبسة كما أرى، فلا هي انحازت للمكنون الشرقي المتأصل في مكونها الإنساني والتاريخي، فغاب سحر الشرق عن روحها وملامح كل شيء فيها، فانحازت بفعل هيمنة التكنولوجيا والرغبة في استنساخ نموذج المدن المعلبة بخطى متسارعة نحو تغريب كل شيء، وساد هذا المفهوم الذي يفقد الأشياء قيمتها ورمزيتها التاريخية غير القابلة للتقييم المادي، فالرؤية الجمالية لمن تعاقب على إدارة "عمان" تؤمن بالمنطق القائل: نحن جزء من العالم ويجب أن ننسجم مع كل شيء فيه؟!!، حتى لو كان منقطع الصلة بقيمنا وعادتنا والمخزون الحضاري والتراث الإنساني للأسف!!.
أطالع الأسماء التي تزين المحلات والمطاعم في اغلبها، فلا أجدها تشبهنا أو تشبه تاريخنا أو الموروث الثقافي واللغوي الذي ننتمي إليه، فنجاح أي مشروع أصبح باختيار الاسم "الأجنبي" أولاً، حيث لا قيمة ولا معنى للاسم العربي والأردني بل هو مثار تندر وسخرية!!، فالأجنبي معيار مهم للرقي والتحضر، لافتا للناس وجاذبا لهم هذه الأيام للأسف!!، ادخل المقاهي التي تشعرك بأنك في اسطنبول أيام السلطان عبد الحميد، فالكل ينفخ في "نارجيلته" وينقصهم ارتداء "الطربوش الأحمر" في طقوس ليست لنا ولا من ثقافتنا الترفيهية، ابحث عن مسرحية واحده فقط طوال العام تحكي عن هذه الأرض وأهلها والذين من أجسادهم كان أديمها، ابحث عن تاريخ "ربة عمون"، و"فيلادلفيا" المدينة التي تشير المراجع التاريخية والمكتشفات الأثرية أنها أنشئت في الألف السابع قبل الميلاد، ابحث عن مكتبة عامة تحتوي خزائنها على أمهات الكتب والمخطوطات الوطنية والوثائق التاريخية التي تؤرشف لتاريخ المدينة ورجالاتها الأوائل!! ، ابحث عن متحف اجتماعي يقدم الفسيفسائية الإنسانية الرائعة التي تميزت بها عمان التي احتوت مهاجرين من كل أنحاء المعمورة، فائتلف فيها البدوي والفلاح الأردني مع المقدسي والشركسي والشيشاني والشامي واليمني والحجازي، والبخاري، معا، وقدموا الشخصية "العمانية" بأجمل لوحة، ولكني أرى الكل انغمس في التغريب بشكل ضاعت فيه الهوية الوطنية الفردية لحساب الهوية الغربية والهويات الفرعية في كل شيء!!،.
نعم ابحث عن كل ذلك، فأجد وزارة الثقافة وجيش من المثقفين الرسميين، ولا أجد الروح والوجه الثقافي المفترض وجوده في العاصمة الوطنية أهم العناوين الحضارية للدولة واجد دائرة للثقافة ومراكز ثقافية تابعه لبلدية العاصمة أو أمانتها ولا أجد الأنشطة التي ترسخ دور المؤسسات المحلية في إضفاء المسحة التراثية، وتبرز الجانب الإنساني في عمان، وعبر كل تاريخها.
لقد كتب في "سيير" المدن، وتاريخها، ومنها عاصمتنا الجميلة العديد من المؤلفات القيمة والتي يمكن استلهام الكثير مما ورد فيها، والبناء عليه، ولعل من أهمها على صعيد "عمان"، ما كتبه الروائي الكبير عبد الرحمن منيف في عمله المتميز"سيرة مدينة" والذي "أرخ" لحقبة زمنية من تاريخ عمان وناسها وعاداتهم وطبيعة حياتهم، وصدر للإعلامي الأستاذ علي الصفدي مؤلفه المعنون "درج فرعون" وكان بمثابة شهادة تاريخية عن عمان بعد الاستقلال، بالإضافة لمؤلف آخر للأستاذ عمر العرموطي يحمل اسم"عمان أيام زمان".
وحتى لا يساء الفهم، لا بد من أشير أنني ما كتبت في الأمر من باب النقد والهجوم العدمي الذي أصبح سائداً بشكل ممجوج واستهلاكي، ولكن لإحساسي بأن "العمدة" الحالي لعمان، من الذين يملكون رؤيا تغييريه ومن المؤمنين بأن المدن بلا روح حضارية وإنسانية وثقافية هي مجرد كتل جامدة تفقد مع الزمن ألقها وصورتها الحميمة، لذلك لابد من إعطاء هذا الجانب حيزاً مهما في دور الأمانة في أمور متعددة بدءاً من إلزامية تعريب وأردنة الأسماء للمحلات والشوارع وإعطاء مساحة اكبر لتاريخ عمان في كل الأنشطة، ولعل من المناسب الإشادة بالقرار الجريء والمتعلق بإيقاف ممارسة "النارجيلة" في المقاهي لأنها ليست من الممارسات ولا العادات المتوارثة في بلادنا بل على العكس ارتبطت بحقبة من الجهل والتجهيل التي عاشتها منطقتنا لا تسكننا ولا نحن إليها!!.
ختاماً، اعتقد أن عمان المدينة الودودة والحنونة مع كل من فاء إليها، المدينة التي "تؤثر" على نفسها منذ أن كانت، تستحق أن تحمل روحا متفردة ووجها حضاريا وجميلا، والأمل معقود على الرؤيا والفهم والعقلية الجديدة لدور الأمانة، بإعادة تلك الحميمة والروح الإنسانية لمدينة التلال السبع وربة عمون التي اختارت أن تعطي دائما وبلا ثمن!!.