26-02-2014 09:57 AM
بقلم : د. مراد الكلالدة
إن في الكتابة عن الموسيقى الكلاسيكية ترف لا يملكه الا القلة، فما قولكم باني سأحاول شد اهتمامكم إلى ما قبل 200 عاماً والى مدن فينسيا (البندقية) وبيرويث Bayreuth بألمانيا وزيورخ بسويسرا حيث كانت الحكاية، واراهن على أني سأحتفظ بكم حتى آخر المقالة، لا بل اني أعول بأنكم ستعيدون القراءة مرة تلو الأخرى، فدعونا نبدأ.
ولد الألماني فيلهيم ريشارد فاجنر Wilhelm Wagner في مدينة لايبزج عام 1813 وعاش في حي برول اليهودي، وكان ترتيبه التاسع بين أخوته حيث عمل أبيه موظفاً في شرطة Leipzig وقد توفي بمرض التفوئيد وكان عمر ريتشارد ستة أشهر، وقد تزوجت أمه بعدها من ممثل مسرحي وانتقلت للعيش معه في مدينة دريزدن Dresden والذي كان له الأثر في إلتفات فاجنر إلى المسرح والذي ما لبث ان توفي هو الآخر في العام 1821 حيث كان عمر ريتشارد فاجنر 8 سنوات وكان يعيش بمدرسة داخلية تلقى فيها بعضاً من دروس الموسيقى. إلى هنا وتبدو الحياة عادية لكثير من الألمان، ولكن ما هو الشيء المميز في هذا الطفل حتى هذه اللحظة ... هذا ما قد توضحه تتمة الحكاية.
عاد ريتشارد مع عائلته الى ليبزج في العام 1827 بعمر 14 عاماً حيث بدأ بأخذ دروس في الهارموني (الصوت والنوتة الموسيقية) وإستمع الى سمفونيات بيتهوفن في مسرح Gewandhaus وبعد حياة صعبة تنقل فيها بين مدن كثيرة عاد في العام 1842 وعمره 28 عاماً الى دريزدن عاصمة مملكة سكسونيا مثقلاً بالديون وما ان بدأ بالاتصال بالاشتراكيين الالمان حتى أُبعد عنها بعد ست سنوات ليقضى بعدها 12 عاما في باريس وفي زيورخ بسويسرا، حيث بدأ بنشر مقالات حول (شمولية العمل الفني) حيث تمتزج الموسيقى مع الرقص والغناء والشعر والفنون البصرية على المسرح. كثيرون هم من تنافسوا في هذا العمل حيث كان المسرح وسيلة التسلية الوحيدة تقريباً فلا سينما ولا تلفزيون ولا إنترنيت يشغل الناس، وقد تمكن بمساعدة الملك الباوفي لودفيج الثاني، أحد كبار المعجبين بفاجنر في العام 1876 من بناء مسرحه الخاص بمدينة بيرويت الصغيرة ليصبح مَحجّاً لمعجبيه وقد جعله شعبياً بأن ازال الشرفات الخاصة بالنبلاء ووزع المقاعد بإنتظام أقرب للتساوي بالأهمية، وكان الجديد بهذا النوع من المسارح هو إخفاء الجوقة الموسيقية تحت خشبة المسرح ليضع المُشاهد بأجواء أقرب إلى السحر (كما وصفة نيتشة بالساحر الكبير) بالتركيز على العرض المسرحي بخلفية موسيقة تأتي من مكان ما، ولكن ما الذي ميز ريتشارد فاجنر لنوليه كل هذا الإهتمام في مقالة منفردة قد تكون الأبعد عما درجنا الى الكتابة فيه من قبل.
لقد كان ريتشارد فاجنر متمرداً من نوع خاص امتزجت فيه الأرستوقراطية مع الإشتراكية ورغبة بالتغيير من خلال المسرح، وهو الذي جاهر بذلك حيث كتب في عمر العشرين: ما أريده هو تحطيم سيطرة الواحد على الآخر ...وقد كان يدعو الى التمرد المستمر على الواقع، لأنه بدون التمرد أو (الحراك) يبقى العالم سيئاً كما هو.
بدأ ريتشارد فاجنر بنشر أفكاره ومنها مقالة "اليهودية في الموسيقى" Judaism in Music والتي نشرت في العام 1850 في المجلة الجديدة للموسيقى والتي أفصح فيها فاجنر عن كرهه لليهود وقال: إن اليهود يمثلون ضمير الشر في الحضارة الحديثة، وتندر على عدم إتقانهم للغات الأوروبية وعلى لغتهم ولكنتها مما جعلهم غير مؤهلين للتعبير عن العواطف الحقيقية، حسب رأيه. وفي الحقيقة أن كرهه هذا قد تجاوز الموسيقى ليدخل في باب دعوتهم لترك الدينانة اليهودية والتحول الى المسيحية كما فعل الكاتب اليهودي لودفيج بومه Ludwig Boeme ولكن ما الغريب في ظهور حركة ألمانية معادية للسامية German Anti-Semitism دعونا نرى.
حركة التمييز ضد اليهود، أو معاداة السامية، ظهرت في المانيا في بداية القرن التاسع عشر ومن أساس إجتماعي، بدليل أن المصطلح هو (كره اليهود) Judenhass وتطبيقه العملي هو إعتداء لفظي او جسدي على اليهود كأفراد أو مجموعات، ولكن السؤال الذي يتبادر الى الذهن، هل هذه الحركات المعادية لليهود حديثة النشاة أم لها جذور أعمق في التاريخ، والجواب هو أن اليهود قد تعرضوا فعلا للإضطهاد عبر التاريخ، وكان الأجدر بهم كشعب الا يطبق هذه المآسي التي عاشوها على الشعب الفلسطيني الذي جُرّد من أرضه وشتت في أقصاع الأرض، ولكن هذا ليس موضوعنا ودعونا نعود الى فاجنر وعائلته من بعده، فما الذي أودى بحياته بشكل مفاجيء وهو في أوج عطاءه الفني.
بالإضافة الى كونه مِلسن، مدّاح وصاحب أتيكيت، كان ريتشارد فاجنر لعوباً نسونجياً لدرجة المجون، فقد ضبطته زوجته (كوزيما وهي أبنة الموسيقار العالمي فرانس لست France List) مرات عدة يمارس الجنس مع غيرها من النساء وكان آخرها بوجود أبنه زيجفرد حيث قالت لإبنها لكي تغطي على أفعال أبيه جملتها الشهيرة "الدموع لا تعبر دوماً عن الحزن، بل يمكن ان تكون تعبير صادق عن الفرح".
وبعد شجار جديد مع ريتشارد، ما كان لها إلا أن توجهت نحو البيانو واخذت تعزف بعصبية دعاها خلالها ان تتوقف فرفضت واستمرت حتى اصابته بمقتل بالموسيقى، فسقط جثة هامدة في قصرهم المستأجر في فينيسيا، وعلى قدر هول المفاجئة، ألقت كوزيما بجسدها فوق جثة زوجها الأول لمده 24 ساعة غير مصدقة لما حدث، فقد كان الأب والأم والرجل بالنسبة لها، ومن اجله تخلت عن زوجها ودخل عليها ابنائها الثلاثة، ابنتين وولد لتستفيق بوجودهم من هول الصدمة ولتسارع في التفكير بالخطوات التالية التي تودع فيها جسد ريتشارد فاجنر وتحضّر لإكمال مشروعه الفني بغيابه. شعور متناقض من الكره لهذا الجسد التي اعادته لمدينة بيرويت بالمانيا وذلك العشق لموسيقاه التي وضعت في إطار مسرحي متكامل، فماذا لو انها استسلمت لوقع مشاعر الخيانة الذكورية على الأنثى، فهل كنا سنكمل الحكاية.
ما ان قبلت الأرملة برحيل جسد زوجها، حتى ارسلته بقطار خاص الى بيرويت ليدفن في حديقة القصر، لتبدأ رحلة التخليد التي يبدوا انها قد خططت لها جيداً لمأسسة أرث فاجنر العظيم، فحتى الأثاث والأدوات كانت قد نقلتها من فينسيا الى بيرويت لتكملة الصورة المسرحية التي أحاطت بزوجها الراحل. وقد أرادت كوزيما أن تحتفظ بإدارة هذا الإرث في إطار عشيرة فاجنر Wagner Clan فقامت بتزوير وصية بإسم زوجها تعطيها الحق في إدارة المهرجان لحين بلوغ أبنه زيجفرد سن الرشد. ونجحت في ضمان إستمرارية العروض المسرحية وبحضور منقطع النظير وكأن ريتشارد فاجنر موجود على رأس عمله، فكيف استطاعت هذه المرأة فعل كل هذا.
لقد اعتمدت الأرملة كوزيما على فكرة لطالما عرفتها الأديان وهي قضية الوحي من فوق. وقد أوهمت الناس بأنها ما إلا وسيط يوحى إليه، فهي الرسول من السيد الراحل، ومارست هذا بالفعل أثناء التدريبات على المسرح، وجهزت لنفسها قفص متحرك مغطى بالقماش فيما عدى طاقة مشبكة لإستراق النظر، ووقفت بداخله في وسط المسرح اثناء التدريب وتدخلت حيثما يلزم بقرع الجرس وتمرير ملاحظاتها للممثلين مكتوبة على قصاصات من خلال ابنتها، فاعطت بذلك لنفسها هالة الوسيط الروحي فما كان على الجميع السمع والطاعة. فماذا لو لو تفعل كوزيما هذا كله، هل كان العالم سيسمع بفاجنر كما هو الآن.
لقد كان مشروع فاجنر ثورة في عالم الإستعراض المسرحي تجسد بإحتفالات قائمة على عروض موسمية تتوج بحفل رأس السنة من خلال مهرجان العيد Bayreuther Festspile .
لقد عمدت كوزيما على تشبيك اسرتها بالعاملين لديها من خلال تزويج إبنتها الكبرى (إزولده) والتي انجبتها أثناء إرتباطها بفاجنر، ولكن من زوجها السابق قائد الأوكسترا هانس فون بونو، وبتزويج ابنتها الصغرى (إيفا) بالمؤلف هيوستن تشمبرلين المتعصب الآري وهو الذي يعتبر الممهد لأيدولوجية حكمت المانيا عقداً من الزمن، وبهذا ضمنت كوزيما استمرارية الأرث الفاجنري من خلال النسب في إطار إنصهار الموسيقى الخالدة لفاجنر، والنص المبدع لتشمبرلين وقيادة الأوكسترا من قبل الإبن زيجفريد فاجنر. لقد عملت كوزيما على لم شمل العائلة من خلال إنصهار النسب بالعمل، وقد سيطرت أجواء من التفاهم والإنسجام بين أفراد العائلة جمعها الشعور بالتميز العرقي كألمان أنقياء يضمرون العداء لليهود لا بل يجاهرون به علنا.
ومن أجل أن يكتمل المشهد، عملت الأم وبناتها على ترشيح أميرات وفتيات نبيلات للزواج بزيجفريد الأبن الوحيد لريتشارد فاجنر وولي عهده المأمول. لقد بقي زيجفريد أعزباً لسن متأخرة على الرغم من محاولات العائلة المتكررة بربطه هو الآخر بشبكة الزواج المصلحي الذي يعزز ترابط العشيرة الفاجنرية، فهل كان هذا الزهد بالزواج من باب المناكفة أم الإكتفاء، دعونا نرى.
لم يكن ريتشارد فاجنر مولعاً بالموسيقى، على الرغم من شعوره بثقل الحمل والآمال المعقودة عليه لإستدامة العمل الفاجنري، و كانت له ميول أخرى، فقد كان يجيد الرسم وشرع بدراسة العمارة، ولكن هذا لم يرق لكوزيما التي نذرته ليكمل سلالة الفاجنرية من خلال حثه على قيادة الأوكسترا والتي اتقنها ولو على مضض، ولقد إنشغل الأبن الخجول زيجفريد بالمتعة الجنسية مع رجل اتخذه خليلاً وخصص له منزل ريفي يطارحه الغرام بالسر، وما ان علمت أمه بذلك، حتى سارعت إلى التخلص من هذا الخليل بالرشوة ليرحل من حياة فاجنر الأبن بعد تمثيلية مُتقنة توحي بالإنتحار، وهي الحادثة التي قلبت موازين الأحداث التالية وربما كان لها الأثر على مجمل مجريات الأحداث العالمية إن لم نكن نبالغ في هذا الوصف.
وبعد أن غاب العشيق، فتحت كوزيما الأم الباب لمساومة فاجنر الأبن على القبول بالجلوس الى مرشحات جديدات للزواج، حيث استضافت على مائدتها الآنسة (فينيفريد) وهي التي استدرجته للتنزه في حديقة القصر لتنتزع منه قبلة قد تكون هي الأكثر تأثيراً على مر العصور حيث وافق فاجنر الأبن على الزواج منها وأصبحت فينيفريد (فاجنر) وانجبت منه اثنان من الصبية وبنتان، وما الغريب في ذلك حتى هذه اللحظة، أهو الإنقلاب من مسرح الثقافة إلى مسرح السياسة.
من المعروف بأن منظري الحزب النازي قد لجئوا الى التقرب من عائلة فاجنر في محاولة لبناء حاضنة ثقافية للفكر النازي ذات المرجعية الثقافية الألمانية الصافية، ومن كان أكثر ملائمة من أرث فاجنر ليتصدى لهذه المهمة، فقد تم ترتيب أول زيارة من خلال فينيفريد زوجة فاجنر الأبن، وقد كانت تحمل نفس أفكار الأسرة الفاجنرية، وإلا لما كانت قُدّمت للزواج من فاجنر الإبن، ويبدوا أنها كانت تحظى بعلاقات متشعبة مع أعضاء في حزب العمال الألماني الوطني الإشتراكي (النازي) الذي أوصل أدولف هتلر إلى الحكم في العام 1933.
لقد تردد هتلر على فيلا (فينفريد) ببيرويت لأول مرة في العام 1923 حيث أصطف الأطفال لتحيته برفع اليد اليمنى وبسط الكف على الطريقة النازية بعد أن كانت قد دربتهم أمهم على ذلك إحتفاءً بقدوم الفيرير (القائد) الذي كان مولعاً بموسيقى فاجنر ومعجباً بكتاباته المناهضة لليهود، وقد تلاقت مصالح عائلة فاجنر مع التوجهات النازية في دعم مؤسسة فاجنر كنموذج للثقافة الألمانية (النقية) من شوائب الشعوب الأخرى، وتوطدت علاقة هتلر بأرملة فاجنر الأبن بعد وفاته في العام 1930 وتبنى هتلر بعد الوصول الى السلطة مسؤولية الحفاظ على أرث عشيرة فاجنر وحرص على أن لا يخدم أبناء صديقته فينفريد فاجنر على جبهات القتال، وتعدى ذلك الى إيكال مهمة نشر الثقافة الألمانية في شرق العالم إلى الأبن (فولفجانج) وفي غربه الى (فيلاند) في حال تم الإستيلاء على العالم، ولكن ما كان موقف حفيدة ريتشارد فاجنر من هذا كله.
فريدلين، هاجرت الى الولايات المتحدة وهاجمت ادولف هتلر من هناك وعارضت ربط تاريخ عائلتها بالفكر النازي، وهي القائلة بأن جدها ريتشارد فاجنر العاشق للحرية أكثر من الموسيقى نفسها، والثائر على الدوام، ما كان ليستطيع أن يتنفس في دولة المانيا الهتلرية، وبالطبع تنصلت أمها عضوة الحزب النازي من مواقف ابنتها هذه.
في العام 1939 اندلعت الحرب العالمية الثانية وتمكن الحلفاء (الإتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة) من هزيمة النازية وإحتلال ألمانيا، وتراجع أعضاء الحزب النازي الى الخفاء، وظلت فينفريد فاجنر ورفاقها وفية للأرث النازي، ومن سخرية القدر انهم اعطوا القائد أدولف هتلر (الفيرر) اسما حركيا هو USA وهو مشتق من الأحرف الأولى لجملة Unser Seliger Adolfوتعني بالألمانية (أدولف المبارك) فكانوا يتغنون بمجده بالألغاز.
ست سنوات بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945 استطاع الأخوين فاجنر (أحفاد ريتشارد فاجنر) من الحصول على إذن بإستعادة ممتلكاتهم التي جُرّدوا منها في حملة إجتثاث النازية، واعيد إفتتاح مسرح بيرويت، ودبت الخلافات بين الأخوة، حيث أصبحت المؤسسة تدار من قبل موظفين، حافظوا على الأقل على هذا الأرث الفني العظيم إلى حين.
وعلى الرغم من مضي أكثر من 131 عام على وفاة ريشارد فاجنر، فما زالت مدينة بيرويت محجاً للألمان يحققون فيه ذاتهم بالارتباط ولو لساعات بالمسرح الألماني (الأصيل) بعد أن تخلوا عن الطائفية والقومجية والشوفينية، فبتنا نرى وزراء ألمان من أصول آسيوية، ومتحدثة بإسم وزارة الداخلية من أصول فلسطينية.
نعم هذه هي الدول التي تكبر بالمواطنة وتتصالح مع تاريخها، فالعالم أصغر من أن يقطّع بمشرط الطائفية، وأزهى من أن يخاط باللونين الأسود والأبيض.