12-03-2014 10:31 AM
بقلم : د. زيد محمد النوايسة
في عالم اليوم وبعد أن تغيرات مفاهيم الهيمنة والتأثير التي سادت خلال العقود الماضية، سواء كانت من خلال الاستعمار المباشر أو من خلال فرض الأجندة السياسية والاقتصادية على بلدان العالم الثالث ومنها العالم العربي، ذلك أن السائد سابقا كان اختراق الأنظمة السياسية واستلاب قرارها السياسي بشكل مباشر، وفرض شروط الدول الكبرى على النظام السياسي الرسمي المعني بالأصل بسلامته وديمومة الحكم بمعزل عن مفاهيم السيادة والاستقلال الوطني غالبا، ولكن في عصرنا الحالي لم تعد تلك الآلية والأدوات مناسبة وملائمة لعدة أسباب أهمها: أن العالم تغير وان ثورة الاتصالات والتكنولوجيا وسيادة مفهوم العولمة، وفر لتلك الأنظمة الاستعمارية كل ما تحتاجه دون وجودها المباشر على الأرض، والاهم أيضا أنها لم تستطيع أن تؤسس حالة قبول جماهيري لها، صحيح أنها ضمنت ولاء بعض الأنظمة السياسية ولكنها فشلت أن تكرس وجود حقيقي بين الناس، بالإضافة أن المزاج العام للمجتمعات في العالم الثالث لا ينسجم مع الرؤيا الحكومية عموما بمعزل عن صوابيتها من عدمه، فهناك ثقافة متجذرة لدى شعوب الدول النامية عموما والعربية منها، بعدم إعطاء أهمية لأي مشروع وفكرة تتبنها الأنظمة السياسية وحكوماتها المعينة!!.
ضمن هذا الفهم، كان لا بد من إيجاد آلية بديلة، تضمن لتلك الدول استمرارية التأثير والهيمنة، بشكل ينسجم مع التطورات الهائلة والمتسارعه، وازدياد وتيرة الصراع على المنطقة، وكان لابد من التركيز على الإنسان مباشرة ودون وجود وسيط حكومي مشكوك في قبوله بشكل عام، فتم اللجوء أحيانا إلى دعم منظمات أو مؤسسات مدنية غير حكومية Non-governmental organizations (NGOs)، تدار محلياً وتدعم مالياً بسخاء ودون تدخل من الحكومات الوطنية، ويتم تحديد الأجندة والأنشطة التي تطرحها هذه المنظمات، بدئاً من حقوق المرأة وجرائم الشرف والطفولة والبيئة مروراً بقضايا الإصلاح السياسي الشكلي، وحقوق الأقليات والحقوق المدنية، والتمثيل السياسي لها وتمكين المجتمعات والأعلام والشباب وقضايا تتعلق بالديمقراطية الاجتماعية والعدالة وحقوق الإنسان بشكل عام، وصولا للجامعات والاتحادات الطلابية!!، ولكنها بنفس الوقت لم تطرح أو تعالج قضية تتعلق بما يهدد تلك البلدان من هيمنة سياسية أو اقتصادية وهي الأخطر!!.
الحقيقة أن كثير مما يطرح من هذه المنظمات غير الحكومية منطقي ويمكن فهمه في سياق أنساني أيضا، فمعالجة قضايا الطفولة والبيئة والمرأة مقبول ومرحب فيه، وهي فعلا قضايا مهمة، ولكن ما يثر الريبة والشك والقلق، هو أنها قد تكون واجهه ومدخل لتمرير قضايا تتعلق بتفكيك البنى المجتمعية وإذكاء النعرات والانتماءات الفئوية والطائفية وحقوق الأقليات، ولعل تجربة يوغسلافيا السابقة ودور تلك المنظمات في التحريض على التقسيم والتفتيت وانهيار تلك الدولة أصبح الآن معروف، وقد تسربت وثائق تؤكد وجود خطة عمل محددة لتمويل هيئات المجتمع المدني في يوغسلافيا مثلاً للتعجيل بإسقاط نظامها!!، وهو ما حصل لاحقاً، وعربيا لا يمكن المرور دون الحديث عن نموذج "مركز ابن خلدون" للدكتور سعد الدين إبراهيم والتمويل المالي الهائل الذي كان يحصل عليه، والدور الذي لعبه ذلك المركز في إثارة كل عوامل التفتيت في المجتمع المصري، وخلق ولاءات مصلحيه ومادية تعلو على الولاء الوطني!!.
لقد انتشرت هذه المنظمات غير الحكومية كالفطر في معظم أقطار الوطن العربي حتى تجاوز عددها الآلاف، وبمبالغ تمويل قد تتجاوز مليارات الدولارات، حتى أن فلسطين المحتلة تحتوي على أكثر من ألف منظمة، والغريب أنها تطرقت لكل شيء ألا القضية الأساسية وهي الاحتلال الصهيوني!!،فاختصرت القضية كلها بإنشاء حضانة للأطفال في هذا المخيم أو تنظيم زيارة لمجموعة طلاب للمعهد الأمريكي في واشنطن والتركيز على الاندماج الاجتماعي بين العرب والإسرائيليين، وحقوق المرأة الفلسطينية!!.
محلياً، الحال ليس أفضل للأسف!!، بل أن العديد من هذه المنظمات يقودها مجموعة من المؤمنين بالفكر الليبرالي وأصحاب مشاريع وأجندة تعتبر موضع خلاف وطني كبير، وطبعا الأصل أنها مصدر للتكسب والارتزاق والثراء، ولكن تحت عنوان براق وخادع وهو تنمية المجتمع وتمكينه سياسيا واقتصاديا وثقافيا!!، وفي هذا السياق يمكن فهم ما يطرح مؤخرا من قبل بعض فرسانها وبجرأة غير معهودة، وفيها نبرة تحدي لم يعتاد عليها الأردنيين في كل تاريخهم، مستغلين حالة انعدام الوزن التي سادت بفعل تأثير ما يسمى "الربيع العربي"، ولولا التصدي لبعض تلك الطروحات الخطيرة، لدخل البلد في دوامة يصعب الخروج منها- لا قدر الله-!!.
السؤال المهم هنا؟!! وحتى نحسن النوايا رغم أن الأمر لا يحتاج إلى عبقرية "اينشتاين" لنكتشف الأهداف والمرامي والأبعاد!! ولكننا مع ذلك من حقنا أن نطرح سؤال إلى حكومتنا العتيدة ومن سبقها أيضا : أذا كان قانون الأحزاب الأردني يحظر عملية التمويل لأي حزب أو تنظيم من أي جهة خارجية وان الأمر تتكفل به الحكومة وتخضع الأحزاب لرقابة ديوان المحاسبة، فلماذا لا ينسحب الأمر على هذه المنظمات، وان يتم التمويل من خلال قنوات رسمية وان تكون المشاريع الممولة تنسجم مع ثوابت الدولة الأردنية وفي قضايا تخدم المجتمع الأردني حقيقة وليس مصدر للتكسب والارتزاق والثراء، وان تكون خاضعة للرقابة المالية وبيان مصادر تمويلها بشفافية؟!!.
اعرف أنني اقتربت من دائرة خطيرة لها منظريها وفرسانها ومتكسبيها وهم في ازدياد للأسف، وان حديثي لن يروق لهم لا سيما أن هناك أموال ومكاسب ومؤتمرات وسفرات وإطلالات تلفزيونية وحضور اجتماعي يستحق الدفاع عنه، فكل من يطرح هذا الأمر للنقاش متهم بأنه من أصحاب نظرية تحليل المؤامرة!!.
ختاماً، أخشى كمواطن انه أذا لم تكن هناك وقفة مراجعة رسمية ونيابية مسئولة الآن، أن تخرج الأمور عن سيطرة الحكومات والمجتمع لاحقاً، لنكتشف بعد فوات الأوان أن هناك مفهوم جديد للولاء غير الولاء الحقيقي للدولة والوطن الأردني، فعندما تتعدد الو لاءات يكون الخاسر الحقيقي هو الأردن وأهله ووجودهم!!.